الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من يجعلها في مستوى الثورة العلمية الأولى من حيث الآثار الناتجة عنها.
ويكاد يكون حجم المشاكل التي فتحتها الفيزياء المعاصرة داخل إطار الأفكار والمناهج والمذاهب والمجتمع بحجم المشكلة التي أثارها تفجير القنبلة النووية وخوف العالم من هذا الإنتاج الفيزيائي. إلا أن العالم يعتني بالتحذير من المشاكل والأخطار النابعة عن الإشعاعات النووية، وقامت مؤسسات عالمية رسمية وشعبية للتصدي لمثل هذا الخطر. ولكن في المقابل لا يتم الحديث بالجهد السابق نفسه عن أبعادها المنهجية والفكرية والثقافية، السلبي منها والإيجابي، الصحيح والخاطئ، وإنما يُكتفى عالميًا بالانهماك في خطرها المادي على جسم الإنسان أو على الأرض، وما تحدث من تلوث في باطن الأرض أو خارجها وهو أمر عظيم دون شك، بينما جانب القيم والأفكار والدين والإيمان تترك دون عناية في مستوى السابق.
وهنا يتحدد واجب المسلمين أمام النظريات العلمية وتظهر هويتهم وما يتميزون به عن غيرهم، إذ الأصل أن يُعنى عند التعامل مع العلوم ونظرياتها ومكتشفاتها بعلاقة كل ذلك بدين الإنسان وقيمه مع العناية بآثارها على جسد الإنسان والبيئة المادية المحيطة به؛ لأن الغرب انصرف إلى الحياة الدنيا وأسقط الآخرة من حساباته، لذا تكون عنايتهم بآثار مثل هذه العلوم ونظرياتها على الإنسان في الدنيا فقط، أما المسلمون فهم يعلمون بحقيقة الدارين والمنزلين، وهم على يقين بعالم آخر غير هذا العالم الأرضي، لذا فهم عند نظرهم في هذه العلوم وتعاملهم مع نظرياتها ومكتشفاتها يربطون ذلك بما يعتقدونه، وينظرون للآثار الدنيوية والدينية، الأرضية والأخروية. ويجعلون مثل هذا الاعتقاد ضابطًا للصواب والخطأ مما يجدونه عند غيرهم ومعيارًا لما يقبل أو يرفض.
[3] علاقة العلم بالفكر في القرن "الرابع عشر/ العشرين م
":
رأينا في الفقرات السابقة -عن القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي- المستجدات المهمة في العلوم الاجتماعية، وأهمها ما طرأ على علمي الاجتماع والنفس من تطورات، وبروز نظريات للعلمين، وتأثيرهما الكبير في الفكر المعاصر. ورأينا أيضًا أبرز تطور في العلوم الطبيعية وهو ما حدث في ميدان الفيزياء بميلاد أشهر نظريتين في القرن، وهما: النسبية والكم، وما ارتبط بهما
من آثار وحوار وجدل، وهي في الأهمية لدرجة أن هناك من يجعلها ممثلة لثورة علمية جديدة غيّرت كثيرًا من مفهوم العلم.
وقد أحدثت هذه التطورات العلمية آثارها في الفكر المعاصر، وفتحت المجال لظهور نقاشات كبيرة، بل ظهور مذاهب خاصة بالعلم أو مجالات فلسفية تُعنى به كالإبستمولوجيا مثلًا. وبسبب الكشوف العلمية والتطورات المنهجية أعيد من جديد أهمية البحث في قيمة العلم وحدوده وإمكانياته ومجاله، وهي موضوعات كان الظن في القرن الماضي أنها قد حسمت لصالح النظرة الوضعية العلموية.
ومما رأيته مهمًا في الباب ويحتاج إلى وقفة وبحث: تلك الدراسات العلمية والمنهجية والفلسفية حول العلم وأهمها ما يدور في إطار فلسفة العلم أو الإبستمولوجيا وما تبعها من مواقف -تخالف تلك المعروفة في القرن الماضي- ترى بأن العلم له حدوده، وأن هناك مجالات أهم تتعلق بالوجود والإنسان والحياة، فإذا كان العلم لم يخدم تلك المجالات، فعلينا أن نبقيه في مجاله، ونبحث لها عن حلِّ في غيره أو أن نتجاوزه حتى وإن أدى ذلك إلى عدم الاكتراث به. وهذا مما يفسر ظهور مذاهب كثيرة ضد المادية والوضعية تمثلت في المثالية والعقلانية الجديدة والبرجسونية ومذاهب الحياة والعمل والبراجماتية والوجودية والتوماوية الجديدة والدينية والروحانيات الصوفية وغيرها. مع العلم أن أصحاب هذه المذاهب ليسوا ممن يجهل العلم ونظرياته وتطوراته وفائدته، بل إن منهم علماء في تلك العلوم.
وعن بين الظواهر الأكثر إلفاتًا في هذا الجو ميل كثير من العلماء إلى ترك الإلحاد الشائع عند أسلافهم والارتماء في أحضان مذاهب مثالية، علّهم في ذلك يجدون بعض ما يشفي غليلهم ويجيب عن تساؤلاتهم، ومنهم من أعلن إيمانًا دينيًا يتعارض مع موضة الإلحاد السائدة في السابقين.
لا شك أن مثل هذه الموضوعات مهمة لمثل هذا البحث، وهي رغم أهميتها لم تجد إلى الآن الدراسات الإِسلامية التحليلية والنقدية الكافية. وأما حدودي هنا فتقف عند إبراز أهم معالمها مما يعطي صورة مساعدة لفهم موضوعات قادمة بإذن الله.