الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم عرض وإن كان في موضع متأخر -بعد العلوم العقلية- علوم اللسان العربي: النحو واللغة والبيان والأدب، وعلماء كل باب وكتبهم (1).
فهذه صورة موجزة عن القسم الأول؛ أي: العلوم النقلية، وكل هذه العلوم لم تكن معروفة عند العرب، وما كان معروفًا فعلى وجهٍ لا يصح أن يقال عنه علم، فانظر إلى الأثر الكبير لهذا الدين العظيم في هذه الأمة، ولا ننسى بأن كل علم من تلك العلوم تحته علوم أخرى وفروع وأقسام، ولكل نوع منها علماؤه وكتبه، ومناهجه وطرقه، ومدارسه، وهو أمر يدعو للدهشة والإعجاب.
القسم الثاني: العلوم الحكمية:
لقد لقي النوع السابق عناية كبيرة من قبل العلماء والباحثين في الكتابة عن تاريخه ومدارسه ومناهجه وعلمائه ومؤلفاتهم، وبما أنها غير مقصودة لنا في البحث؛ فلم أطل فيها وسأنتقل إلى العلوم العقلية، تلك التي تركها الشارع لاحتياجات الناس بعد أن وضع لها المنطلقات والأصول ورسم لها الأهداف والغايات، فننظر كيف كان حالها داخل العالم الإِسلامي، وماذا كان يُدرس منها أو يقرأ أو يبحث في المعاهد والمراكز العلمية، وذلك بحسب العرض الخلدوني في مقدمته الشهيرة.
إذا أردنا أن نعرف المقصود بالعلوم العقلية؛ فلا بأس من التعرف عليها من خلال حاضرنا العلمي والتعليمي، فهناك الآن في مدارسنا وجامعاتنا علوم الشريعة، وهناك علوم اللغة، وهناك العلوم الاجتماعية، وهناك العلوم الرياضية والطبيعية من: هندسة وحساب وفيزياء وكيمياء وأحياء وعلم الأرض وعلم الفلك وعلم الطب وما في بابها. فإذا عدنا إلى الماضي فأغلب هذه العلوم باستثناء علوم الشريعة واللغة كانت داخلة في العلوم العقلية أو الحكمية، إلا أن مما أفسد مسارها قديمًا هو دخول المنطق والفلسفة والإلهيات الفاسدة والميتافيزيقا على تلك العلوم، بل وضع مثل تلك الفلسفات أساسًا لتعلم تلك العلوم، فانشغل بعض المسلمين بما لا فائدة ترجى من ورائه، وهذا كان أحد الآثار السلبية لانحراف مسيرة الترجمة لاسيّما في القرن الثالث الهجري وجزء من الرابع؛
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/ 1364.
حيث كان الجهد في الترجمة "منصبًا أكثر على الكتابات الفلسفية والإلهيات، خاصة ترجمات وشروح أرسطو"(1)، فتسبب هذا الانحراف بالترجمة إلى إدخال الأمة الإِسلامية في متاهات لم تتعاف منها إلى الآن. فإذا تركنا هذا الجانب، ونظرنا إلى حجم المعارف النافعة مما أخذه المسلمون عن غيرهم، وما ألحقوه عليها من تهذيب وتطوير، ثم ما أضافه المسلمون في هذا الباب من مناهج وعلوم ومكتشفات لوجدنا في ذلك عجبًا.
ويمكن تلخيص بعض أدوار الحضارة الإِسلامية حول هذه العلوم في مجموعة نقاط أهمها:
1 -
ترتيب تلك العلوم المترجمة وتنقيحها.
2 -
إيجاد البيئة المناسبة لحركة تلك العلوم وتحولها إلى ما ينفع الناس.
3 -
التطوير للمنقول والمترجم، أو الإبداعات والاكتشافات الجديدة.
4 -
بداية رسم منهج جديد يساعد على تطور العلوم، وهو من أهم ما أبدعته الحضارة الإِسلامية، وقد كان من أهم المناهج "المنهج التجريبي" الذي عُرف مع كثير من علماء الطب أو الفيزياء أو الكيمياء وغيرها (2). مع ما صاحب ذلك من نقد علمي وعقلي للمناهج اليونانية لاسيّما المنطق الأرسطي؛ الذي ثبت فيما بعد أنه كان عائقًا في وجه تقدم العلم فضلًا عن الضرر من تطبيقه على المعارف الدينية.
ولم تكن عملية استيعاب العلوم الإنسانية ثم الإبداع فيها بعملية سهلة؛ فإن التعرف على تلك العلوم، وإصلاح شأنها بما يلبي حاجات الأمة المسلمة ثم الانتقال إلى مجال التطوير والإبداع كان عملية عسيرة؛ فالمترجمون لم يكونوا عادة من الأمناء بدرجة كافية، لاسيّما مع تنوع مشاربهم الدينية، والعلوم تحتاج إلى استقرار وعمران، وهو ما لم يتركه أعداء الأمة الإِسلامية لنا، فما إن يستقرّ
(1) انظر: العلوم والهندسة في الحضارة الإِسلامية، دونالدر. هيل ص 30، ترجمة د. أحمد فؤاد.
(2)
انظر: مناهج البحث عند مفكري الإِسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإِسلامي، د. علي النشار ص 329 - 334، وانظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام، د. علي النشار 1/ 35.
وضعها في مكان حتى يظهر من أعدائها من يسعى إلى خرابها. بدأت مع التتار والمغول وختمت قبل العصر الحديث بالحروب الصليبية، ومع كل تلك الصعوبات فقد نجح المسلمون في الارتقاء بهذه العلوم ومناهجها، وإعطائها صورة جديدة عملية ونافعة (1).
عرض ابن خلدون ما عُرف منها إلى زمنه، وعرض واقعها الموجود، وكما عرض ضمن العلوم النقلية بعض العلوم التي يحسبها أهلها من علوم الشريعة، وهي ليست كذلك وبيّن هو بنفسه ذلك؛ فكذلك هنا عرض كل ما يدخل تحت دائرة العلوم العقلية: الصحيح منها والفاسد، وإن كان يُتبع الفاسد منها بالنقد والتحذير، وهذه العلوم عددها سبعة وهي:"المنطق ثم التعاليم وهي أربعة علوم: الأرتماطيقي والهندسة والهيئة والموسيقى. ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات"، و"لكل واحد منها فروع تتفرع عنه: فمن فروع الطبيعيات الطب، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات، ومن فروع الهيئة الأزياح. ." (2). ثم تحدث عن كل واحد منها، وتصنيف أهل الأمم السابقة فيها لاسيّما اليونان، ثم حالها بعد أن أخذها المسلمون وما أضافوه إليها وما أبدعوه فيها، وأوضح دور المنصور، ثم المأمون في جلب هذه العلوم، وبين أنهم نقلوا أيضًا ما لا نفع فيه، وبين الآثار السلبية لها، ومما قاله: "ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة، واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها، والذنب في ذلك لمن ارتكبه. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] " (3)،
(1) هناك فتن أقدم، فقد وقعت حروب الردة في السنة (11 هـ)، ثم فتن الانقسامات داخل المسلمين بسبب ظهور الأهواء والبدع، فقد ظهر في كل عصر من عصور المسلمين من الفتن والحروب ما يعطّل مسيرة الأمة، منها مثلا: ثورة الزنج (255 - 270 هـ)، والقرامطة (277 - 470 هـ)، والبويهيين (334 - 447 هـ)، الحشاشون (483 - 654 هـ)، ،والحملات الصليبية (489 - 692 هـ)، وجاء الغزو المغولي المدمر سنة (656 هـ)، انظر: موجز التاريخ الإِسلامي. . . .، أحمد العسيري ص 195 - 203.
(2)
انظر: المقدمة 3/ 1120، وقد عرّف المحقق بالمصطلحات لمن أراد معرفة معنى كل علم منها فتراجع في هوامشه، وانظر أيضًا: مفاتيح العلوم للخوارزمي، وسيأتي ذكرها نهاية هذه الفقرة.
(3)
انظر: المقدمة، ابن خلدون 3/ 1124، وانظر: نقض المنطق، ابن تيمية ص 19، تصحيح محمد الفقي.
وهذه الآثار التي يتحدث عنها علّامة المغرب هي نفس ما كشفه علماء المشرق واجتهدوا في نقده وبيان باطله وعملوا على تنقية التراث الإِسلامي وتصفيته مما خالطه من تلك الأهواء، لاسيّما شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وأتباعهما. وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية عن دخولها مع العلوم النافعة:"فإن هذه التعاليم -من المنطق وما بعد الطبيعة وغيرها- لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبي العباس الملقب بالمأمون؛ أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى. لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير"(1)، وهو يريد هنا بالتعاليم -والله أعلم- تلك المناهج والإلهيات والميتافيزيقا التي لبعضها علاقة بأمور الدين، أما ما لا علاقة له بالدين "مثل مسائل الطب والحساب المحض" فهذا جائز، فغايته الانتفاع بآثارهم في أمور الدنيا (2)، ثم عرض شيخ الإِسلام مواقف الناس من تلك التعاليم الباطلة في ثلاثة مواقف:
1 -
الفلاسفة، حيث اتبعوها وجمعوها مع ما ينتحلونه من الإِسلام.
2 -
المعتزلة، لم يقصدوا اتباعها لكن تلقوا عنهم أشياء يظنون أنها جميعها توافق الإِسلام وتنصره، مع أن كثيرًا منها تخالفه وتخذله.
3 -
حال كثير من أهل الحديث والفقه وغيرهم، حيث أعرضوا عنها إعراضًا مجملًا، ولم يتبع أهل هذا الموقف من القرآن والإِسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع (3).
نؤكد هنا بأن علماء الإِسلام وأهل السنة خصوصًا لم يكن لهم اعتراض على العلوم النافعة؛ وإنما كان اعتراضهم على تلك الإلهيات الفلسفية التي تتعارض مع ميراث النبوة، ونؤكد بأن علماء المسلمين وإن قبلوا من متفلسفي المسلمين العلوم النافعة التي بين أيديهم من الطب والحساب وغيره مما هو معروف في زمنهم؛ فإنهم في المقابل قد وقفوا ضدّ انحرافاتهم العقدية وحذروا الأمة منها، وهو يوضح وسطية أهل السنة في موقفهم من المخالفين وعلومهم.
(1) مجموع الفتاوى 9/ 265.
(2)
انظر: نقض المنطق، ص 96 - 97، بتصحيح محمَّد الفقي.
(3)
انظر: الفتاوى 9/ 266.