الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الميتافيزيقا من كل فرع من فروع المعرفة يُراد له أن يكون علمًا" (1)، وعرضوا العلوم الأساسية وما تحويه من إشكالات ميتافيزيقية تحتاج إلى استبعاد، وهذه العلوم هي: "الفيزياء والأحياء والسيكلوجيا والعلوم الاجتماعية" (2).
تقوم مهمة الفلسفة العلمية عند أصحاب الوضعية المنطقية على تحليل موضوعات العلوم وقضاياها، والقضية العلمية ذات المعنى هي المعبرة عن الواقع الحسي، ومن العبث عندهم إطلاق اسم العلم على ما يتجاوز موضوعه نطاق المعطيات الحسية (3). والعلم بموضوعاته ومفاهيمه ونظرياته هو الخاضع لمبدئهم المشهور: "
مبدأ التحقق
" القائم على المطابقة بين الكلمة والمقابل الواقعي لها (4)، بحسب آليات ومناهج مقترحة لذلك، فما قبله المبدأ كان علميًا وما لم يقبله لم يكن علمًا، ويكون هذا المبدأ أداة التنقية المفضلة لديهم.
مبدأ التحقق:
وقد لقي مبدأ التحقق نقدًا شديدًا من أطراف مختلفة كان أشهرها ما قام به فيلسوف العلم المعاصر والصديق لأعضاء الحلقة "كارل بوبر" مما دفع بـ"كارناب" أحد أهم ممثلي الجماعة إلى القيام بإجراء تغييرات لهذا المبدأ بين فترة وأخرى. ومع أن "الوضعية المنطقية" قد ضعف شأنها الآن إلا أن الدور الذي قامت به كان له أثره في تعكير مسيرة العلم المعاصر، ومثّل ذاك الدور استمرارًا للانحراف بالعلم حيث كانت ترى أن أهم الواجبات الفكرية المنوطة بها هو تخليص العلم والفكر من الميتافيزيقا والأفكار الدينية واللاهوتية، وبالرغم من الاختلافات المنهجية بين أعضاء الحلقة، إلا أن ما كان يجمعهم هو الحرص على إلغاء الميتافيزيقا، وبناء منهج عام يخلص الناس من الغيبيات والدين والميتافيزيقا.
وكل عاقل لا يعترض على أهمية التنقية في أي باب من الأبواب، وكما
(1) المرجع السابق، وداد ص 39 وللبيان ترجمة في آخر الكتاب المذكور ص 261.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 41 - 43.
(3)
انظر: المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود، أسامة الموسى ص 10 - 12، الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 65.
(4)
انظر: المفارقات المنهجية السابق ص 28.
قلنا في التفريق بين مفهوم الاستثمار والاستغلال في أثناء الحديث عن التيار المادي، فإننا نفرق هنا بين التنقية النافعة ذات المقصد النبيل وبين التنقية الضارة التي قام بها هذا التيار الملحد، وكما أن هؤلاء الملاحدة قد دفعهم إلحادهم إلى الدفاع عن إلحادهم وتنقية أهم فعاليات المجتمعات المعاصرة من كل مفهوم ديني فإن الواجب على أهل الإِسلام عكس ذلك وأن يدفعهم دينهم إلى تنقية العلوم المعاصرة من أمراضها لصالحهم ولصالح المجتمعات المعاصرة.
وإذا أردنا أن نعرف خطورة مرادهم من التنقية فعلينا النظر في بعض تحليلاتهم المنطقية، فمما أوصلهم إليه تحليلهم "الوضعي المنطقي" إلى أن ألفاظ: الدين، واللاهوت، والميتافيزيقا، تتصف بأمرين: أنها "تافهة" و"بدون معنى"(1). فإنك إن قلت كلمة مثل "الروح" فليس لها معنى عندهم، وبما أنه لا معنى لها فهي كلمة تافهة. ومن بين الكلمات التي ترى الوضعية بأنها ميتافيزيقية وغير علمية كلمة "الله" تعالى الله عن إلحاد الملحدين، فهي عندهم كلمة ميتافيزيقية لا تخضع لمعيار التحقق، ولذا فهي دون معنى ويجب استبعادها، وفي ذلك يقول برينتون عنهم: إنك "إذا قلت: "الله موجود" فإنك تكون قد صنعت قضية من النوع الذي يتعذر على الوضعيين المناطقة تصنيفها كقضية تدخل في إطار "المعرفة"، ويعتبرون هذا النوع وغيره مضيعة للوقت"(2).
نصل الآن إلى نهاية هذا المحور، وخلاصته بأن التيار التجريبي وعبر آليات مختلفة قد أسهم بدوره في الانحراف بمسيرة العلم، تمثّل أولًا في جعل الحسّ هو المعيار للمعرفة العلمية وللحقيقة والصدق مما ضخم من دور الحسّ في المعرفة على حساب الغيب. وتمثّل ثانيًا في استبعاد الدين تمامًا من مجال الحقائق فحرموا الفكر والعلم من الصلة بالدين؛ فإن العلوم والأفكار إن انطلقت دون الدين يكون فسادها أكثر من صلاحها كما سيأتي بيانه في مباحث قادمة، كما أنهم ربطوا السعادة والتقدم بالعلوم الدنيوية والسيطرة على الطبيعة، أما الدين والفن والأدب؛ ففي سلة واحدة، سلة الوجدان وبعضها يعطينا المتعة فقط.
(1) انظر: رودولف كارناب، السابق ص 90 - 90، وانظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم ص 62.
(2)
تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون ص 347، وانظر: مشكلة الفلسفة، د. زكريا إبراهيم ص 110.