الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهدافه الخبيثة، وكان من أخطر ما عمله الاستعمار لتجاوز هذه العقبة التي أمامه صناعة الازدواجية بين منظومتين علميتين: الأولى هي الإِسلامية، فسعى إلى إضعافها وقتل شروط نجاحها، وحصارها بكل أسلوب ممكن، أرادوا حرمانها من القوة والانتشار، فضلًا عن السماح لها بتأصيل العلوم الجديدة وإمدادها بالتصورات الإِسلامية وقيَمِهِ العظيمة. والثانية منظومة التعليم الحديث الاستعماري بقيم ورؤى استعمارية، وإمدادها بأسباب النجاح والتمكين، مع وضع إسفين العداوة بينها وبين علوم الأمة.
ثم انتقل الاستعمار خطوة أخرى نحو علمنة التعليم، فبالرغم من كون المسؤولين عن التعليم هم من المنصرين، إلا أن سماحهم للدين الإِسلامي أن يتصل بهذه المنظومة سيؤدي إلى غير مرادهم، ومن هنا جاء سعيهم إلى التأصيل الفكري لعلمنة التعليم، والسعي العملي لتطبيق ذلك في أرض الميدان. بذلك ينمو هذا الميدان الجديد دون هوية سوى الهوية الاستعمارية، لقد عُرض في الفصلين الأولين من هذا الباب أن المجتمع الفرنسي عندما فُرضت عليه العلمنة، قام بتأسيس مدارس لا تتبع الحكومة، يدرس فيها أبناؤهم علوم دينهم مع العلوم الجديدة، ولم يجدوا من يضايقهم، أما في البلاد المستعمَرة فهناك مضايقات للتعليم الإِسلامي وعدم السماح له بالحيوية والحركة بخلاف التعليم الاستعماري.
وهذه الازدواجية والعلمانية التي أوجدها المستعمر في النظام التعليمي، ما زالتا تسيطران على كثير من أنظمة التعليم الإِسلامية من قريب أو بعيد، مما يعني أن الأمة الإِسلامية لم تستطع في الغالب تجاوز هذه المشكلة، ولم تستطع تقديم مشروعها الخاص الذي يوحد بين العلوم في ظل منظومة إسلامية متكاملة.
3 - ترسيخ الهزيمة النفسية في مجال التعليم:
نجح الاستعمار في اختراق الكثير من المسلمين وإصابتهم بهزيمة نفسية غير مسبوقة، نحو الحضارة الغربية، ففي مجال العلم أراد الاستعمار إقناع المسلمين بأنهم أمة أمية جاهلة لا شأن لها بالعلم، وغير قادرة على شيء منه، وحظها منه الحفظ والشرح دون الإبداع والاختراع. وقد وُظف منهج التاريخ في المدارس لزراعة هذا التصور، فلا يُعرض لهم إلا أدوار اليونان والرومان والإغريق قديمًا
وأوروبا حديثًا في ميدان العلوم والصناعة والإبداع، فإذا جاء إلى المسلمين صورهم في أسطر قليلة بكل مذمة ونقص تصريحًا أو تلميحًا. وعندما يرضع الطفل من مراحله الدراسية الأولى هذه المعاني ويكبر معها تتأثر قناعاته بمكانة أمته، ويصدق أن الغرب هم منبع التقدم والعلوم، ويسهل عليه فيما بعد الاستسلام للغرب والانقياد لتوجيهاته.
لقد صنع النظام التعليمي الاستعماري مناهج للدراسة تؤهل الطلاب للحالة السابقة، طلاب ضعفاء في معرفتهم للإسلام وحضارته أقوياء في معرفة لغة الغازي وثقافته وفنونه وتاريخه، ولذا يصعب على هؤلاء الطلاب التواصل مع علومهم الإِسلامية إن لم يرغبوا عنها ويزهدوا فيها ويخجلون حتى من تعلمها، فلا يكون هذا الجيل قادرًا على التفريق بين الموافق لدينه والمخالف له فضلًا عن قدرته في تأصيل هذه العلوم وتبيئتها في المحيط الإِسلامي. وقد كانت هناك كتب فقيرة محدودة قبل وصول الاستعمار في مصر وضعها بعض الفضلاء تعطي الطلاب تعريفًا بإسلامهم وحضارته في المدارس العصرية، فجاء الاستعمار ومنع تدريس حتى هذه الكتب التي تربط الطلاب بثقافتهم وهويتهم، فقد "أبطل دنلوب مختلف الكتب العربية الهامة التي كان قد ألفها علي مبارك وعبد الله فكري قبل الاحتلال؛ لأنها تتحدث عن الإِسلام والأخلاق الإِسلامية، كما رفع كتب عبد العزيز جاويش ونصوصه واستبدلها بكتب تحمل خرافات لافونتين. . . . كما ألغى الباب الوارد في مناهج التعليم تحت عنوان العقائد والعبادات الإِسلامية. ولما عورض في هذا العمل قال: إن كتب المطالعة يجب أن تكون مجردة خالية من كل ما له مساس بالدين"(1).
وبلغ الأمر ذروته من هذه المدرسة ومناهجها وفلسفتها وعملها لدرجة تصريح جمعية الشبان المسلمين في تلك المرحلة بقولها: "إن الوالد المسلم ليلتفت حوله فلا يجد مدرسة علمية واحدة يأمن فيها على دين ابنه او ابنته، وهو موقف شاذ وغريب فإن الطوائف الأخرى لها مدارسها الخاصة. أما الجمهرة المسلمة فقد كانت مدارسها هي مدارس الدولة، والآن حين تبدلت مدارس الدولة غير ما يبتغي المسلمون صار ضائعًا وأصبح الوالد المسلم في حيرة. إن
(1) موسوعة الجندي (تاريخ الإِسلام) 2/ 659.