الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقراره بمسلمات الدين (1). وبهذا حوّلوا العلم من دوره الشريف في نفع البشر، بل أهم من ذلك في هداية البشرية لمعرفة خالقها؛ إلى خدمة الدعاوى الإلحادية، وهذا التحويل وآثاره الخبيثة نجد توضيحها في الأسطر القادمة بإذن الله.
ب - التطور العلمي والتوسع في التصورات المادية:
منذ ظهور الثورة العلمية وما لحقها من نجاحات علمية والمذهب المادي عبر رموزه يعلن ويكرر بأنه الابن الشرعي للعلوم، ويدعي أيضًا أنه القادر في الوقت نفسه على فهمها ورعايتها وتوجيهها، ثم بدأ ينبّش في تلك العلوم باحثًا عن أدلة صدق دعواه، ولم يكتف أصحاب المادية بهذه الدعوى؛ ولكنهم أيضًا جعلوا العلم ماديًا إلحاديًا، فالعلم عندهم كما أنه رديف المادية فهو أيضًا رديف الإلحاد؛ وبقدر ما يحرصون على ربط المادية بالعلم وتعميم نتائج العلم لصالح المادية؛ بقدر ما يجعلونه في الوقت نفسه شاهدًا على بطلان الغيبيات كما يزعمون ودليلًا على عدم وجود الإله وداعمًا حقيقيًا للإلحاد، وبهذين الادعاءين الكبيرين:"أنهم الممثلون للعلم، وأن العلم على أيديهم قد أبطل الدين والربوبية والغيبيات"؛ نجحوا إلى حدٍ بعيدٍ في نشر الإلحاد، وأفسدوا بهما مسيرة العلم.
عندما يكون محور اهتمام العلم مركزًا على الأمور الدينية، فإنه يكبر حجم التصور الديني في حسّ الناس وفي واقعهم، وعندما يكون محور اهتمام العلم هو الأمور الدنيوية أو المادية؛ فإنها تكبر في أعينهم، وعندما يختل التوازن بين العناية بعلوم الدين من جهة وعلوم الدنيا من جهة أخرى تقع إشكالات كبيرة، فأوروبا في عصورها الوسطى اعتنت بالدين الجديد الذي اعتنقته بعد أن خلطته بوثنياتها عن طريق اليهودي المتنصر "بولس" وغيره، فتحول دين التوحيد إلى دين تثليث، وأقامت علومًا كبيرة على هذا الدين المحرف، وخلطته بتركتها اليونانية والرومانية وغيرها من الفلسفات، ولكن لم يتحقق لأوروبا أن عاشت دينًا صحيحًا ولا قامت لها دنيا سعيدة حقيقية، وهي ترى حولها أمة جديدة ذات دين
(1) ذكرت نماذج وأمثلة من ذلك في الفصل الأول ص 303.
عظيم، وأقامت عليه حضارة مادية كبيرة لا تتعارض مع دينها. ومرت الأيام فأخذت أوروبا المنهج العلمي من المسلمين، ولكنهم بسبب آلية "المسموح والممنوع" أقفلوا أبوابهم أمام النور الحقيقي وهو الإسلام، فأخذوا السلاح دون اليد التي توجهه، والجسد دون روحه، فقامت لهم نهضة علمية محورها الطبيعة المادية، وانكشف لهم عالم من خلق الله مدهش وعجيب، ففتنوا بذلك، ورأوا أن هذا العلم الدنيوي لوحده هو الحق، ومادته وهي الطبيعة المادية هي التي تستحق العناية، وأن وظيفة العلم كما يُنظّر بيكون وغيره هي السيطرة على الطبيعة.
في مثل هذه الأجواء كان هناك تيار يتربص بهم، وينتظر الفرصة المناسبة للتغلغل وهو التيار المادي، الذي يرى البداية والنهاية في المادة وحدها، بيدها الخلق وعندها الحق، الفاعلة وغيرها من نتاجها. وعندما لاحظ المذهب المادي انصراف الناس إلى علوم الدنيا واهتمامهم بالمادة سواء كان ذلك في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها، ووجد أن هذه الدنيا في صورتها المادية قد كبرت في أعين الناس، عندها أظهر من جديد دعوته حول مذهبه، معلنًا بأن مادة هذه العلوم وهي المادة هي أساس كل شيء، وعليه فإن الرؤية والتصور والمنهج والعمل ينبغي أن يكون ماديًا أيضًا.
وقد نجد في كثير من الكتابات حول الفكر الغربي الربط بين التقدم العلمي وميلاد التصور المادي؛ وكأن التصور المادي نتيجة حتمية للتقدم العلمي الدنيوي، ولا شك أنه تصور مغلوط؛ لأنه يجعل مصير العناية بهذه العلوم هو المصير المادي وفي مسار حتمي لا رجعة فيه، مع أن الواقع التاريخي يكشف أن اشتهار التصور المادي وقت التقدم العلمي نابع من غفلة المجتمع وانغماسه في هذه العلوم؛ مما يسّر لأصحاب المذهب المادي استثمار الفرصة وتوجيه مسار التقدم العلمي لصالح مذهبهم. فالعلوم لا ذنب لها في اشتهار المذهب المادي، وإنما الذنب للمجتمعات التي لم تجمع بين الدين الحق والعلم النافع، وتقيم التوازن السليم بين إقامة الدين وإعمار الدنيا.
لقد أعلن المذهب المادي عن دعوته للمجتمع المنخرط في التطور العلمي: إنكم تعتنون بعلوم مادية؛ أي: بالعلوم التي تعتني بالمادة، والمادة هي أساس مذهبنا، فلِمَ لا تقبلون مذهبنا وهو أساس علمكم؟! مع العلم بأن الماديين