الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل بالمجال الذي تحدثه النجوم حولها، يشبه في ذلك ما يصنعه المغناطيس ببرادة الحديد حوله.
3 - علاقة النظرية بالواقع المعاصر:
لا يستغرب من نظرية علمية تنال كل هذه الشهرة أن لا تحدث في ثقافة عصرها آثارها الخاصة بها، فقد أصبحت حديث الناس "وغدت كلمة نسبي تلوكها جميع الألسنة وتتندر بها"(1)، وهي حديث أغلب الصالونات الثقافية في الغرب (2)، وما زالت شهرتها إلى الآن (3)، ويكفي أن نتذكر القنبلة النووية والطاقة الذرية لتقودنا مباشرة إلى "أينشتين" الذي كان لمعادلاته الأثر الواضح في اكتشافها.
وكما كان النموذج في القرن الثامن عشر (12 هـ) هو نظرية "نيوتن" وأثرها، وفي القرن التاسع عشر (13 هـ) نظرية "داروين" بأثرها، فأبرز النظريات في القرن العشرين (14 هـ) هي نظرية "أينشتين" ومارست أثرها كغيرها، وأصبحت منذ ظهورها مجال استقطاب واسع لكل فعاليات الفكر المعاصر، وسأقف على نوعين من آثارها، الأول يتعلق بما أحدثته من شرخ في شعور الناس نحو العلم ولاسيّما في الثقة المطلقة والعامة به في بابي العلم والعمل، فما قدّمه التيار العلموي المغالي في تقديس العلم يتعرض الآن لمساءَلة، فقد قالوا: إن معلوماته هي الحقيقة وأنه قادر على النفع المطلق في باب الحياة العملية. والثاني يتعلق بأثرها في تيارات العصر.
النوع الأول: الشعور الجديد نحو العلم:
لقد نجح العلم الحديث في فرض وجوده في المجتمعات الحديثة، وارتسمت له صورة حسنة في أذهان الناس، ومن أهم ما ارتسم أمران، الأول: أن العلم يعبر عن الحقائق كما هي، وأن معرفته يقينية وصادقة لا يعتريها الشك، ويكفي أن يقال عن قضية: إنها علمية لتجلب للسامع الثقة بها، ولكن الوضع الآن تغير مع النظريات الجديدة. أما الثاني: فهو أن العلم سيقدم السعادة
(1) أينشتين، د. محمَّد مرحبا ص 40.
(2)
انظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 259.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 254.
للبشرية، وسعادة الناس مرهونة بمزيد من تقدمه والاعتماد عليه، ولكن واقع الأمم التي ازدهرت فيها هذه العلوم يقول غير ذلك، فقد انهارت كثير من الآمال المعقودة بالعلم الحديث بعد أن أظهر العلم وجهًا آخر له تمثل في صور من الموت والدمار والخوف.
1 -
انهيار اليقين العلمي القديم:
لقد انهار اليقين القديم المرتبط بالثورة العلمية والمذاهب الفكرية المدعية الوصول للحقائق النهائية في ضوء العلم الحديث، وهذا أمر اتفقت عليه أغلب الدراسات التي تحدثت عن نظرية النسبية، فقد أحدثت النسبية تغييرًا جذريًا في كل تلك اليقينيات، وكما في الموسوعة العربية العالمية "لقد غيرت النسبية كل المفاهيم الفلسفية والفيزيائية عن الفضاء والزمن. وقد أثرت في تصوراتنا وأحاسيسنا الحدسية عن العوالم البعيدة والنجوم وكذلك عن عالم الذرة الدقيق. وما زال بعض هذه الشكوك أو التساؤلات موجودًا"(1)، وأثبتت النظرية للجميع بأن العلم مهما بلغت درجة اليقين فيه، وثقة الناس به، فهو في حاجة إلى المراجعة دومًا، ونحن نراه يراجع كل المفاهيم الكبيرة التي دارت حولها الفيزياء ومن خلفه العلوم الطبيعية والفلسفة، سواءً أصاب في ذلك أم أخطأ، لا يهمنا من ذلك إلا أن العلم المطلق قد ولّى زمانه وما بقي إلا العلم النسبي المتواضع في حركته ونتائجه.
ولكن ليس معنى ذلك بأن العلم لا يملك حقائق صلبة صادقة، وأنه لا ينطلق من أرضٍ صلبة، وإنما المراد بأن حقائقهُ نسبية فقط وغير مطلقة، والنسبية هنا نسبية فيزيائية لا نفسية حتى لا تصبح المسألة خاضعة لأهواء ورغبات؛ أي: أن الأفراد عند ملاحظتهم لأمرٍ ما، من مكانٍ مشترك، فهم لا يختلفون في تلك الملاحظة غالبًا، ولكن لو كانت الملاحظة من مكانين غير مشتركين فإن القياسات ستختلف (2).
ومن الأمثلة الطريفة في باب النظريات التي أعادت النسبية تقديمها من جديد؛ الاختلاف حول نظريتين في الفلك: نظرية "بطليموس" القائلة بأن الأرض
(1) الموسوعة العربية العالمية 25/ 221.
(2)
انظر: من نظريات العلم المعاصر. . . .، زيدان ص 38.
هي المركز وتدور حولها الشمس، ونظرية "كوبرنيكوس" القائلة بأن الشمس هي المركز وتدور حولها المجموعة الشمسية، حيث تصبح النظريتان ذات وجاهة؛ لأن كل واحدة صحيحة بحسب معيار أصحابها ومنطلق ملاحظتهم، ويصبح الأمر عبارة عن فرض أحدهما أيسر من الآخر كما سبق أن ذكرناه عن "هنري بوانكاريه"؛ فدوران "الأرض حول الشمس لا يخرج عن كونه فرضًا أيسر من الفرض القديم وأقرب تناولًا، ولكنه ليس أصح منه؛ لأن فكرة الصحة تتضمن فكرة الإطلاق"(1)، ولأن النظريات الرياضية والعلمية هي في جوهرها -كما يرى- اصطلاحية وفروضًا ميسرة (2)، وهذه رؤية بارزة في مدرسة "نقد العلم" المعروفة في الفكر المعاصر.
وكذا كان الأمر مع فروض النسبية الجديدة ومن أهمها "تكافؤ كل النظم الإحداثية في وصفها للظواهر الفيزيائية"(3)، ومما يعنيه "أنه لا فرق بين السكون والحركة المنتظمة. ولولا مقارنتنا الدائمة بين الشمس والأرض، ما عرفنا أن أرضنا تتحرك. لذلك، لم يخطئ علم الفلك القديم حينما تصور أن الأرض هي المركز الثابت للكون. فما الفرق بين أن تكون الأرض تتحرك حول الشمس أو العكس، لا شيء!! المهم هو أين يقف الراصد. ومن ثم، فنظام كوبرنيقوس ليس بأصح من نظام بطليموس، وإنما فحسب أبسط منه. بمعنى أن الأقرب إلى طبائع الأشياء أن يدور الصغير حول الكبير، وليس العكس"(4).
وبسبب اعتماد الماديين على النسق النيوتني ونظرياته وبناء مذهبهم المادي على ذلك النسق فقد رفضوا هذا الرأي النابع عن نظرية النسبية، ورأوا -بحسب المفكرين السوفييت- بخطأ النسبية في مساواتها بين النظامين البطليموسي والكوبرنيقي، وأن ذلك مكيدة من قبل "أينشتين" قصد بها مناهضة المادية، ويقترح أحدهم تدميرها حتى تتخلص من هذه الآراء المثالية الرجعية الموجودة فيها (5).
(1) أينشتين، د. محمَّد مرحبا ص 75، ومثل هذا الكلام يدور داخل فلسفة العلم وهو غير مقبول خارجها.
(2)
انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 386 - 388.
(3)
فلسفة العلوم، بدوي ص 249.
(4)
المرجع السابق ص 249 - 250.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 264 - 265.
ومن المفيد هنا إبداء وجهة نظر تستدعيها هذه الأحداث حول النسبية عمومًا وحول نسبية النظريتين المفسرتين لحركة الأجرام السماوية: فإذا كان هذا النزاع حول النظريتين ما زال قائمًا داخل الإطار العلمي فضلًا عن الفلسفي والفكري، فلماذا يُصرّ قوم على إعطاء حكم مطلق بصحة إحداهما ولاسيّما نظرية كوبرنيكوس! ألم يكن من الأفضل القول بأن هذه النظرية القصد منها التفسير، وأنها أيسر في شرح الظواهر الكونية وحركة الأجرام السماوية، على أنها ليست هي الحكم النهائي والمطلق؛ لأن هذا في ظل المستجدات النظرية أصبح صعبًا. وهذا يُظهر في الوقت نفسه حجم الخطأ الذي مارسه تيار عريض في الفكر الحديث عند قيامه باستثمار نظرية الفلك الحديثة في ادعاء كذب أو خطأ العقائد الدينية حول الظواهر الكونية، ويظهر حجم الأهواء في ذلك أيضًا، فمن المهم قبل وضع تلك النظريات في مواجهة الدين التحقق من كل جوانبها.
ووجهة النظر هذه خاصة بأولئك القوم الذين فرحوا بتلك النظريات، وادعوا أنها حقائق مطلقة واستثمروها في التشكيك بأمور دينية، بزعمهم وجود تعارض بين حقائق العلم والدين، وينثرون النظريات العلمية حول الكون باستسهال عجيب ولاسيّما ممن هم خارج دائرة التخصص العلمي، وإذا بالأمر أعقد من ذلك بكثير وأعسر مما تصوروه، وأن أمامهم مهمة كبيرة لابد من إنجازها قبل زعم التعارض، وهي إثبات أن النظرية حق مطلق، ثم إثبات أن الدين يقول بهذا الأمر المخالف، ومن ثم إثبات عدم إمكانية الجمع بينهما، ولكن الأمر مع أصحاب الأهواء عكس ذلك، فهم ما إن يروا ما يناسبهم حتى تجدهم من المسارعين في الخوض فيه دون إعطاء الأمر حقه من التبيّن والتحقق العلمي.
2 -
انهيار الآمال الجميلة حول العلم:
رأينا في القرن التاسع عشر (13 هـ) نزعة وضعية ترى بأن مستقبل البشرية هو مع العلم، وأن التقدم أمر حتمي يرتبط بتجاوز الدين والميتافيزيقا نحو العلم، وأن العلم سيحل كل المشاكل المعيقة للحياة السعيدة، وسيجيب عن كل الأسئلة المحيرة.
وقد تقبل البعض وعلى مضض الحضيض الذي وضعت الدارونية الإنسان فيه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، على أمل أن العلم
سيحل هذه المشكلة، فالإنسان وإن كان حقيقته حيوانًا متطورًا بحسب نظريته، إلا أن لديهم أملًا بأنه بالعلم سيتطور ويصارع ويعيش حياة أفضل. وصاحبَ ذلك ما يراه الناس من تطور تقني متسارع واكتشافات صناعية مذهلة، أغلبها يصب في مصلحة الإنسان ونفعه، أنستهم نسبيًا الحضيض الذي وضعهم فيه. إذًا فالعلم كما يتوهمون هو عقيدة المستقبل، وهو الوحيد القادر على إسعاد البشر. في جوٍّ متفائل كهذا جاءت اكتشافات جديدة خيبت الآمال وأوجدت من الآلام أكثر بكثير مما كان يتوقع من العلم، وما زال هذا النوع من الاكتشافات في ازدياد. فمن بين مكتشفات "أينشتين" ما توصل إليه من علاقة بين الكتلة والطاقة، وليس المقصود بحث جانبها العلمي هنا بقدر أن المقصود التأمل في علاقتها بالنظرة المتفائلة التي أسقطت من حسابها كل شيء حتى الدين والقيم مكتفية بالعلم القادر على سدّ حاجاتنا.
فقد توصل "أينشتين" من خلال دراسته لمفهوم الكتلة وعلاقتها بالطاقة في ضوء التصور النسبي الجديد إلى معادلة حول تلك العلاقة، صُنع على أساسها فيما بعد القنبلة الذرية. فبحسب هذه المعادلة فإنه يمكن استخراج طاقة مهولة من جرام واحد، فإن أردت أن تعرف قدر طاقة من جرام واحد من "اليورانيوم" مثلًا، فما عليك سوى ضرب هذا الجرام في مربع سرعة الضوء لتخرج لك كمية هائلة من الطاقة يمكن أن تحرق بها مدينة كاملة عن بكرة أبيها، كما يمكن أن تزود هذه المدينة بوقود من هذا "الجرام" لمدّة سنة (1)، وبِحُسبة بسيطة للمقارنة، فإن هذا "الجرام الواحد" يعطينا طاقة "حرارية وضوئية" تعادل تلك التي نحصل عليها بإحراق ثلاثة آلاف طن من الفحم الحجري (2).
إن هذا الاكتشاف العجيب يُعد جزءًا من عالم الفيزياء الحديثة، وهو يفتح أبوابًا من النقاشات ما زال بعضها مستمرًا إلى اليوم، وكان الأصل أن يكون أولها الاعتراف بالخالق سبحانه وتعظيمه والإيمان به؛ فإن وجود مثل هذه الحالة لهي كافية لإيقاظ القلب وتذكيره بربه، فإذا كان الجرام الواحد يخرج منه كل هذه الطاقة المذهلة الكافية لمسح مدينة من على وجه الأرض أو إعطائها ما يكفي من
(1) انظر: أينشتين والنسبية، مصطفى محمود ص 65 - 66.
(2)
انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 348.
الطاقة لتعمل أياما كثيرة، وهو في الوقت نفسه مارد خطير فيكفي إخراجه من مخبئه الذي خلقه الله فيه حتى يصبح مرعبًا ومخيفًا بما في ذلك الاستخدامات السلمية، والأعجب من ذلك صعوبة إعادته إلى حالته الوادعة المسالمة مما يدفع بالدول المنتجة له إلى دفنه في بلاد فقيرة دون علم أهلها ليلوث ترابهم وماءهم ومزروعاتهم سنين عديدة. أما كان هذا الجرام كافيًا لإيقاظ القلوب الميتة الهاربة من الله ومن الإيمان به لتعود إليه؟! وهذا وهو نموذج من بين نماذج أكثر دهشة وعجبًا، ومما يؤسف له ونتعجب منه بأن مثل هذا النقاش كان الأضعف حضورًا في الفكر المعاصر، وجزء منه تحول إلى الدفاع عن مبادئ الفلسفات المثالية المدافعة عن عالم الروح والمطلق والحرية لكن بعبارات تزيد من جفاف القلب وعطشه علاوة على الرعب الذي يعيشه.
التفت الفكر الغربي المعاصر إلى هذه الأزمة وبدلًا من العودة للحل الصحيح القائم على الإيمان بالله سبحانه، ترك ذلك إلى بدائل لا تسمن ولا تغني من جوع، وانصرف أهله إلى دعوى إنقاذ الإنسان من طغيان العلم ومصائبه، وتبخرت الأحلام الوردية المعقودة بالعلم بعد أن رأوا ثمرة من ثماره تبتلع مدنًا بأهلها في غمضة عين دون تفريق بين كبير أو صغير أو حيوان وإنسان، وما تبع ذلك من سباق محموم يُوظف العلم فيما يدمر حياة الإنسان.
كانت عقيدة الوضعية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر قائمة على أن العلم مسالم وأن بيديه سعادة البشرية، وما على البشر سوى الانهماك في العلم، وأما الدين والأخلاق فهي نتاج أوضاع اجتماعية سابقة على ميلاد العلم، جاءت بسبب جهل الإنسان، وما عاد في حاجة إلى ذلك مع العلم، فجاء الجواب سريعًا في أول القرن العشرين (14 هـ)، حيث كان نصفه الأول حروبًا لا مثيل لها، وكان بطلها وموجهها هو العلم باكتشافاته المذهلة، أليس من ثماره الدبابة والصاروخ والطائرة؟! أليس من ثماره السفينة الحربية والغواصة؟! أليس من ثماره القنبلة العادية والنووية والهيدروجينية؟! أليس من ثماره الجراثيم القاتلة والغازات السامة والأسلحة الكيمياوية والبيولوجية؟! والقائمة في ذلك طويلة.
أليست معادلة صغيرة فيزيائية (ط=ك ث 2)(ESMC 2)(1) كانت وراء أخطر
(1)(ط) هي الطاقة (الحرارية والضوئية) التي سنحصل عليها، وإذا أردنا أن نعرف مقدارها =
سلاح في العصر الحديث! وبدأ التساؤل: أين ما كانت الوضعية تبشرنا به؟ وفتح التساؤل الباب على مصراعيه أمام أزمة كبيرة طحنت أوروبا والغرب في النصف الأول من القرن العشرين (14 هـ). واتجه الفكر إلى إنشاء مذاهب تخفف من جفاف العلم وقسوته وتتمرد عليه، وربما هذا مما يفسر نجاح المذاهب الروحية والمثالية والوجودية في هذه المرحلة.
ومما تكشفه هذه الأوضاع بأن العلم له حدوده، فهو لا يخرج عن كونه نشاطًا بشريًا يفتح الله به على قوم فيبدعون فيه، لكنه لا يصل إلى درجة قيادة البشرية إلى سعادتها، ولذا فهو كغيره من النشاطات البشرية في حاجة إلى قيمة أعلى، تهذب أهدافه، وتُقوِّم اعوجاجه، وتصحح مساره، وتنقذ الناس من شروره عند وجود من يوقد نارها.
كانت هذه هي الصدمة الثانية، فالأولى أن العلم لا يستطيع إعطاء حقائق مطلقة، وأنه في حاجة إلى تعديل مساره وتصحيح أخطائه أو تغييرها، وما هو علم اليوم قد يصبح غدًا في أحد المتاحف الموجودة هنا أو هناك كشيء من التراث، وأما الثانية فإنه يحمل في طياته أسباب الدمار كما يحمل أسباب السعادة؛ وذلك أنه نشاط بشري قابل للتوظيف في الجهتين، وهنا تظهر حاجة العلم إلى قيمة أعلى تضبط مساره، بعد أن رأينا كيف وظف في الشرور، وجانب السعادة فيه بقي محتكرًا على عالم الأقوياء ويُحرم منه الضعفاء، وأصبح النافع منه خاصًا بجلب السعادة والثراء لأهله فقط، وفي هذه الدنيا فقط ويحرم منه الآخرون إلا بالقدر الذي يريده أهله، فاختفت بهذا الأحلام الوضعية المرتبطة بمستقبل العلم.
= من المادة المطلوبة، فإنها تكون بأخذ جرام واحد مثلًا وهو (ك) الكتلة ونضربه في مربع سرعة الضوء (ث 2) لنحصل على مقدار الطاقة. فإذا عرفنا أن سرعة الضوء هي (300 ألف كلم في الثانية) فعليك أن تتخيل المقدار الكبير من جرام واحد فضلًا عن عشرة أو أكثر. فنجد مثلًا مقدار الطاقة الموجودة في نواة ذرة يورانيوم واحدة = 220.000.000.000 ألكترون فولت، وعند إنشطار نواة ذرة اليورانيوم يتحرر من طاقتها المختزنة 1، 0 % فقط؛ أي: جزء لا يكاد يذكر، ولكنه مهول للغاية، ويتضح بمقارنته بالطاقة التي نحصل عليها من حرق كمية مماثلة من الوقود الكيميائي، فنجد أنه من نفس كمية اليورانيوم نحصل على طاقة تزيد بمليون ضعف ما نحصل عليه من الوقود الكيمائي، فسبحان الخالق. انظر: الموسوعة العربية العالمية 25/ 218 - 219.
النوع الثاني: النظرية النسبية وتيارات الفكر المعاصر:
ليست النظرية النسبية حديثًا عابرًا يمرّ دون أثر، وإنما هي أهم معالم العلم المعاصر، وجذبت أغلب التيارات المعاصرة إليها بالسلب أو الإيجاب، وبما أن الفصل يبحث في أثر النظريات على الأفكار أو علاقتها بتيارات الفكر، فسأذكر هنا بعض ملامح تلك العلاقة معتمدًا في ذلك على العرض الذي قدمه الدكتور "بدوي عبد الفتاح محمَّد" في كتابه:"فلسفة العلم"(1)، والغرض فقط بيان حجم ما أثارته النظرية في الفكر المعاصر، وسأقتصر على أربع فئات هي الأشهر في الفكر الغربي "علماء في العلوم الحديثة والفلاسفة والمتدينون والساسة":
1 -
موقف العلماء:
انقسم العلماء باختلاف تخصصاتهم حول النظرية إلى قسمين: فقسم أبدى إعجابه الكبير بالنظرية عادًّا إياها نظرية مدهشة، وقسم آخر رفضها أو توقف فيها أو عدّها أقرب إلى مجال الفلسفة من مجال العلم؛ لأن أغلب مفاهيمها الرياضية لا يمكن إثباتها بالتجربة أو ملاحظتها وفق معايير العلم التجريبي (2).
والمتأمل لهذا الاختلاف من خارج دائرتهم يقوده ذلك إلى نتيجة مهمة تتعلق بموقفنا نحن المسلمين من النظريات العلمية، ومفادها: بأنه ما من نظرية علمية إلا واختلف أهلها -أي: أهل التخصص في المجال التي ظهرت فيه- قبل غيرهم، وهذا يعني أن النظرية ليست من قبيل الحقائق الواضحة أو المطلقة، ولو كانت كذلك مع الزعم بأن دلائلها يتساوى الناس في فهمها لما وقع كل هذا الاختلاف على الأقل في دائرة العلم ذاته، فنحن نرى العلماء يقبلون الحقائق التي جاء بها ومعادلاتها الرياضية، ولكن فريقًا يتوقفون مع النسبية الخاصة وهم مع النسبية العامة أكثر اختلافًا وتوقفًا.
وليس مقصدي هنا الميل لجانب دون آخر أو الحكم بصوابها أو خطئها، وإنما المقصود بأن النظرية العلمية منظومة كلامية علمية مجملة تحوي في طياتها
(1) توجد كتب كثيرة تحدثت عن صور آثار "النظرية النسبية" لكن هذا المرجع يتميز بالترتيب والشمول مستفيدًا من كتب فرانك أحد المهتمين بتأثير نظريات الفيزياء على الفلسفة وهو: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح محمَّد، دار قباء، مصر، طبعة 2001 م.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 254 - 258.
الأفكار البديهية الصحيحة والأخرى الغامضة والثالثة القابلة للتوظيف في مجالات شتى. ومنظومة بهذه الصورة ليس من الصواب رفضها مطلقًا أو قبولها مطلقًا، وإنما المطلوب تحليلها والاستفادة من جوانبها المفيدة إن احتيج لها وتصحيح الخاطئ منها والتوقف مع الغامض فيها.
وهناك صورة أخرى داخل إطار العلم المعاصر في التفاعل مع النسبية نجده في علم الاجتماع الزاحف بقوة إلى ميدان العلم المعاصر، حيث وجد في النسبية مجالًا خصبًا ينعش النظريات الاجتماعية -الذي كان مرتبطًا في مرحلة سابقة بالدارونية والماركسية والوضعية- حيث حول مجموعة من علماء الاجتماع مسارهم نحو النسبية. ومن أهم مجالات تأثرهم بالنسبية ما نجده من نظريات حول ثقافة عصرٍ ما؛ إذ يرى أحد علماء الاجتماع المعاصرين "سوروكن" بأن نظرية النسبية أحدثت تغييرًا جذريًا في "العقلية الثقافية للعصر"، فمن وجهة نظره أن لكل عصر عقليته الثقافية الخاصة المعبرة عن روحه. ففي العصور الوسطى سادت الثقافة الروحية والمثالية، حيث كانت القيم الروحية هي الأهم من المادية، والدنيا إنما هي معبر للآخرة. وفي القرن السابع عشر (11 هـ) وما بعده احتلت ثقافة جديدة عقول الناس، وهي الثقافة الحسية، فلم تعد الطبيعة موضوعًا للتأمل في بديع صنع الله. ولم يعد العلم نوعًا من التقرب إلى الله. بل أصبحت المادة هي الحقيقة الأساسية، والإدراك الحسي هو المعرفة اليقينية بالطبيعة (1).
وبحسب ما أرى فإن هذا الموقف لا يختلف كثيرًا عن بقية مدارس علم الاجتماع إلا أنه أخف تطرفًا في نقطة واحدة هي: أن الحقائق في كل عصر حقائق نسبية بخلاف التيارات الوضعية في علم الاجتماع فهي ترى بأن عصر العلم هو عصر الحقائق الصلبة الصحيحة بخلاف ما قبله فهو عصر الأوهام. وقد امتدت هذه النظرية النسبية للحقائق إلى مجالات واسعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأغلب العلمانيين يوظفون ذلك في حربهم مع الدين جاعلين من الدين وأصوله وفروعه قضايا نسبية، وليست حقائق مطلقة. وقد امتد ذلك إلى مجموعة من العرب عند دراستهم للإسلام وبحثهم فيه، فيتكلمون على الحقائق النسبية، ويفرقون بين الحق المطلق والحق النسبي، وكذا في الصدق والعدل
(1) فلسفة العلوم، بدوي ص 259 - 260.
والصواب وغيرها مما سيأتي في فصول قادمة بإذن الله مع تحليله ونقده، مع العلم أن أكثرها قد لا يرتبط بالنظرية النسبية إلا في كلمة نسبية.
2 -
الموقف الفلسفي:
رغم كثرة مذاهب الفلسفة ومدارسها إلا أن هناك تقسيمًا له شهرته في تاريخ الفلسفة قد يساعدنا في تتبع آثار النسبية في الفلسفة، وهو تقسيمها إلى مثالية ومادية.
فأما التيار المثالي العقلاني فقد رحب غالبًا بهذه النظرية لنزعتها اللامادية؛ فمن ذلك مثلًا إثباتها لواقع غير مادي، وفي هذا ردٌّ على الماديين الذين لا يرون العالم إلا مادة، بينما في النظرية ما يدل على أن هناك كيانات غير مادية تؤثر في الأجسام المادية، وإنْ ثقُل وزنها مثل تأثير انحناء الفضاء في الأجرام السماوية، وأقصت مفهوم تأثير الطبيعة والمادة على العقل، وبدأ العلم المعاصر في الجملة يبتعد رويدًا رويدًا عن المادية والآلية.
وفي المقابل فإن التيار المادي لم يسكت عن استدلالات المثاليين وردّ عليها بردوده، ثم منهم من حاول سحب النظرية لتؤيد المذهب المادي، ومنهم من رفض النظرية لإحساسهم بحقيقة معارضتها للعقيدة المادية التي هم عليها، لذلك سارع عدد من المفكرين السوفييت باتهام النسبية بأنها نظرية رجعية دوجماطيقية، تعود بالعقل الإنساني إلى عصور الروحانيات والتصورات الميتافيزيقية (1).
ورغم الاختلاف بين التيارين فإن مفاهيم فلسفية حول "المكان" و"الزمان" و"الحتمية" و"الحرية" وغيرها بدأت تأخذ مسارًا جديدًا في ضوء النظرية النسبية وصاحبتها الأخرى الكوانتية، وبدأت الفلسفة المعاصرة تنظر لهذه المفاهيم نظرة جديدة. وإذا كان فيلسوف العقلانية في القرن (12 هـ) الثامن عشر "كانط" قد بني فلسفته على "الزمان المطلق" و"المكان المطلق" كما وجدها عند عالم الطبيعة نيوتن، فإنهما لم يعودا مطلقين بل أصبحا نسبيين، ونجد أغلب فلسفات العصر تتحرك في ضوء هذا المفهوم الجديد للزمان والمكان.
(1) انظر: فلسفة العلوم، لبدوي ص 258، 265 - 270، وانظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 226، ترجمة علي ناصف.
وقل مثل ذلك في مفهوم آخر وهو آلية الكون وميكانيكيته التي ترسّخت مع فيزياء نيوتن، وذهب بها "لابلاس" إلى أبعد حدودها: فالعالم يتحرك كالآلة، وأما افتراض وجود رعاية إلهية لهذه الآلة ففرضٌ لا حاجة للعلم إليه، تعالى الله عن ذلك. ولكن مع النسبية وصاحبتها الكوانتية ظهرت مستجدات تعكر صفو التصور الآلي -الميكانيكي، حيث تُظهر ضعف تلك الآلة، ومن ثم إزالة الوهم المتعلق بوضع آلة نيوتن موضع الحقائق المطلقة، مما فتح الباب لنقاشٍ طويل حول مذاهب فلسفية: منها من ينتصر للحتمية كما هو الغالب في المادية ومنها من ينتصر للحرية واللاحتمية كأغلب المثاليين، وهي مسألة شبيهة باختلاف بعض أتباع أهل الدين في موضوع القدر ما بين قدرية وجبرية، ففي الفلسفة المعاصرة وتيارات العلم نجدها بمصطلحات أخرى أشهرها الحتمية واللاحتمية (1).
3 -
الموقف الديني:
فإن الكنيسة وإن أُقصيت بعد نجاح الثورة العلمانية، إلا أنها مع نهايات القرن التاسع عشر (13 هـ) بدأت تنتعش في دائرتها، وتستقطب أتباعًا عطشى من هنا وهناك، وسمحت الدول الاستعمارية في حملاتها لحركة تنصيرية داخل البلاد المحتلة. وبدأت كنائس جديدة تتفاعل مع الأفكار الجديدة العلمية أو الفلسفية، فتحاور وتناقش وتعترض أو تستثمر إلى غير ذلك. إلا أنها تبقى مؤسسة ضعيفة مقارنة بالمؤسسات العلمانية، وهكذا كان حالها أول القرن العشرين (14 هـ).
لعل من المناسب هنا أن نتعرف على علاقة صاحب النظرية النسبية بالدين ورأيه في علاقة نظريته بالدين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكنيسة وأهلها: أما هو فأصله من اليهود، ولكنه عاش في أسرة غير مبالية بالدين إن لم تر طقوسه وعقائده من خرافات القرون الوسطى، وولاؤه ليهوديته قد لا يتعارض مع عدم تدينه، وأجوبته في المسائل الدينية أجوبة غامضة -بخلاف ما نراه من احترام للدين عند أغلب رواد الثورة العلمية بمن فيهم نيوتن في السابق، أو ما نراه من صراحة تامة في الإلحاد، كما في القرن (13 هـ - 19 م) - وكأن قضية النسبية
(1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 268، 284 مع أن هذه القضية بالذات أوضح في نظرية الكوانتم القادمة، وانظر: الفصل الثالث من كتاب محمود زيدان (من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية) ص 101.
جرّت ظلالها إلى مسألة الدين ذاته فلم يعد بالإمكان اتخاذ أحد الموقفين، مع أو ضدّ، وإذا كان مقياس التدين هو الإقرار بالنبوات، فإن أمثال هؤلاء لا يلتفتون لذلك، وإنما الإيمان عندهم ضد الإلحاد، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه فقط، ومع ذلك فحتى هذه المسألة لم تكن أجوبته فيها واضحة، ففي جوابه عن سؤال: هل تؤمن بالله؟ قال لسائله: "إن سؤالك هو أصعب الأسئلة في العلم فهو ليس بسؤال يجاب عنه بنعم أو لا. أما أنا فلست ملحدًا. . . ."، ومما قاله:"إن العقل البشري مهما بلغ من عظم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون. فنحن أشبه الأشياء بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها حتى السقف فغطت جدرانها، وهي مكتوبة بلغات كثيرة. فالطفل يعلم أنه لابد أن يكون هنالك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من كتبها ولا كيف كانت كتابته لها. . . . ثم إن الطفل يلاحظ أن هنالك طريقة معينة في ترتيب الكتب، ونظامًا خفيًا لا يدركه هو، ولكنه يعلم بوجوده علمًا مبهمًا. وهذا على ما أرى هو موقف العقل الإنساني من الله، مهما بلغ ذلك العقل من السمو والعظمة والتثقيف العالي"(1). ورغم تردده إلا أن الإعلان عن مثل هذا الموقف يُعدّ انعطافًا في مسيرة العلم المعاصر؛ لأن الظن قد ساد بأن العلم رديف الإلحاد، وأغلب رموز العلم في القرن (13 هـ - 19 م)، ومنظري الفلسفات الوضعية العلمية كانوا من الملاحدة، وأبرز المذاهب الفكرية شهرة كانت تقوم على الإلحاد، وهذه أمور كلها مؤشرات على صعوبة وجود عالم كبير يدلي بمثل الموقف السابق الذي يُشتمّ منه ريح الإيمان، على الأقل بوجود الله سبحانه، وأنه هو الموجد لهذا العالم، فقد كانت عقيدة علماء القرن الثالث عشر/ التاسع عشر -الوضعيين والماديين- بأن الطبيعة هي الموجدة لذاتها وعوالمها، وأنها تخبط خبط عشواء، وأن ذلك مردّه إلى الصدفة كما كان جواب "داروين" أحد أشهر علماء القرن، ولكن القرن الرابع عشر/ العشرين يُظهر جوابًا آخر وإن كان سيبقى ضبابيًا ربما لواقع الفكر والمجتمع الغربي آنذاك.
ولا شك أن جزءًا من نظرية النسبية وموقف صاحبها يُعدّ نقطه لصالح الفلسفة المثالية والمذاهب الدينية واللاهوتية وأهل الدين في المجتمع الغربي،
(1) أينشتين، مرحبا ص 163.
وهذا مما يفسّر سرّ انزعاج التيار المادي في صورته الماركسية مثلًا من هذه النظرية.
أما رأي صاحب النظرية عن علاقة نظريته بالدين فهو يرى أنها "مسألة علمية محضة، وليس لها أدنى علاقة بالدين"، وقد كان هذا جوابه لرئيس الكنيسة الإنجليكانية الذي حرص على لقاء "أينشتين" بعد سماعه أقوالًا متناقضة عن علاقة نظريته بالدين (1).
ويعد هذا الموقف صدمة أخرى للاتجاهات الوضعية والمادية التي غطت على غيرها في القرن (13 هـ - 19 م)، فهم كانوا يرون بأن العلم يلزم منه أن يكون ضدّ الدين وأنه البديل عنه، أما هنا فنجد موقفًا آخر يجعل النظرية مسألة علمية لا علاقة لها بالدين، وما كان هذا الموقف ليرضي الاتجاه الوضعي والمادي والأطراف الأخرى الملحدة.
وينبغي التذكير هنا بأن موقفه المديني إنما ننظر إليه في دائرة الفكر الغربي، وبحسب الأجواء السائدة هناك لا بمنظارنا نحن؛ لأن رؤيته الدينية رؤية مختلفة عما يعتقده أهل الكتاب أو أهل الإِسلام ممن يقرون بالنبوات، ولكن هذه الرؤية الشبيهة برؤية أهل وحدة الوجود كانت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر غير مقبولة في التيارات البارزة؛ لأنها مفتاح للإقرار بوجود الله، وقد كان هذا المفتاح فرصة للمتدينين الغربيين باستثماره في إثبات أصولهم الدينية وفي مقدمتها الإقرار بوجود الرب سبحانه والإقرار بعالم الغيب.
ننتقل الآن إلى موقف الكنيسة والمتدينين من النظرية بعد أن عرفنا موقف صاحب النظرية من الدين، فإذا كانت النظرية النسبية ذات مستويات مختلفة فمنها ما قد يتوافق مع قضايا دينية ومنها ما قد يتعارض، ولذا كان الانقسام بينهم حول النظرية كغيرهم:
فمنهم من رأى في معادلة "أينشتين" حول علاقة المادة بالطاقة نصرًا للدين وحجة جديدة يساند الله بها رسالاته. فان تحول المادة إلى طاقة، أو العكس، وتأثير الطاقة غير المادية وغير المنظورة في الأشياء المادية كلها مما يؤيد الدين؛
(1) انظر: المرجع السابق ص 46، وانظر: فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. . . .، د. عادل عوض ص 266 - 271.
لأنها تؤكد على وجود كائنات لا مادية، وعلى هذا فإن الإنسان فيه كائنات لا مادية تؤثر فيه مثل النفس والروح والقيم. ومنهم من رأى فيها ما يثبت عقيدة البعث، وبقاء عمل الإنسان، وعودة النفس إلى جسدها يوم القيامة من أجل الحساب. وأنها تؤدي إلى دحض المذاهب المادية والإلحادية التي طالما عانت منها الأديان، إلى غير ذلك.
وفي مقابل التيار المتحمس لاستثمارها نجد تيارًا آخر رفضها لعدّة أسباب منها مثلًا ضررها الأخلاقي لجعلها المبادئ الأخلاقية من الأمور النسبية (1).
ومن المعلوم بأن النظرية النسبية لم تتدخل في هذه الأمور الدينية وإنما كان هذا من التأويلات التي بناها هؤلاء حول النظرية، وهم في ذلك كغيرهم من المستثمرين لهذه النظرية لاسيّما وهي قد أعانتهم في زلزلة عدوهم اللدود الاتجاه المادي الذي كان يبني إلحاده على نظريات علمية سابقة، ويكون من حقهم كغيرهم استثمار النظرية فيما تؤيدهم فيه. ولكن يبقى جميع هؤلاء في خطرة لأنهم لا يتعاملون مع حقيقة علمية قطعية واضحة لا اختلاف حولها، وإنما هم يتعاملون مع منظومة مجملة يمكن لكل تيار أن يجد فيها ما يناسبه، وإن كانت بعض النظريات أقرب للاستثمار من تيار على حساب غيره، ولكن كونها الأقرب لا يعني عدم وجود ثغرات يطعن بها المخالف، أو فيها مجالات تسمح للمخالف ولو بعد حين باستثمارها أيضًا لصالحه، وهو أمر بارز في أي فكرة مجملة تحوي في طياتها احتمالات شتى.
4 -
الموقف السياسي:
فمن الطريف في هذا الباب بأن أشهر ثلاثة أنظمة علمانية سياسية -في النصف الأول من القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي- رفضت هذه النظرية، وهي أنظمة عنصرية أو قومية أو مادية ذات ممارسة استبدادية بارزة، وهي: النظام الشيوعي، والنازي، والفاشي. ورغم أن أكثرها يزعم الحرص على العلم إلا أنهم رفضوا هذه النظرية. والعجب يشتد مع النظام الشيوعي؛ لأنه نظام يزعم العلمية، ولكن العجب يخف إذا علمنا بأن سبب الرفض مرجعه عقائدي بالدرجة
(1) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 261 - 262.