الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إسلامه ويكتسب فيها من المعارف ما يحتاجه أو تحتاجه أمته؟ لِمَ بقيت مدارس الإرساليات هي قبلة الأذكياء من أبناء المسلمين ولم يوفر لهم بيئة مأمونة يتلقون فيها هذه المعارف الجديدة دون اصطناع لمشاكل لا حقيقة لها بين الدين والعلوم النافعة؟
لقد استفاد "محمَّد علي" من مدارس العلوم العصرية التي كانت للملّيين والإرساليات فمكّن خريجيها من العمل في دولته، ولكن ذلك يسّر لهم القيام بمناشطهم فيما بعد. وللأسف بقيت هذه العلوم المهمة لفترة طويلة داخل مدارسهم، وبسبب بقاء هذه العلوم داخل مدارس النصارى في وقت كانت تلك المدارس دينية تبشيرية صرفة جعلها موضع إشكال للمسلمين، وكان من الطبيعي ألا يتقبل الكثير من المسلمين هذه العلوم بسبب ما أحيط بها من أوضاع.
هـ - مشروع الترجمة:
لم تحتج الأمة إلى الترجمة من قرون، لقد كانت أمة عالمة وتُصدر العلم لغيرها، إذ إن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله قد سمح بترجمة النافع في زمنه من كتب الطب، وتوسع بعض الولاة بعده في ترجمة ما لا نفع فيه أو ما ضرره أكثر من نفعه، ولكن الأمة توقفت عن الترجمة بعد ذلك.
شعرت الدولة العثمانية بضعفها في حروبها الأخيرة مما دفعها للتفكير في تحصيل بعض ما عند الأوروبيين، وكانت "الترجمة" من المنافذ أو الأدوات المهمة التي تستخدمها أغلب الأمم في نقل معرفة تحتاجها ولكنها بغير لسانها، وكذا بدأ التفكير في ذلك مع والي مصر الجديد والدوافع هنا أكثر؛ إذ قد شاهد بعض أهل مصر ما مع الحملة الفرنسية من أدوات وعلوم، ومن هنا بدأ التفكير في الترجمة ليُفتتح عصرها الحديث.
ولا شك أن "محمَّد علي" قد انتبه لأهمية "الترجمة" أو نبّه لها، وهي عمل مشروع لتحصيل النافع من العلوم عند الأمم الأخرى، ولكن الظروف المحيطة بهذا المشروع قد انحرفت بمساره وأضعفت من أثره النافع وحولته في كثير من الأحيان إلى أداة هدم.
ذكر الدكتور "سعيد إسماعيل" بأن "محمَّد علي" اتجه أولًا إلى استخدام الأجانب، بيد أنه وجد ذلك مكلفًا "بالإضافة إلى عدم وثوقه بالكثير منهم،
وخاصة وقد كشفت الوقائع عن أن بعضهم كان من الأفاقين الجهلة مدعي العلم"؛ فانتقل إلى الترجمة، فنشأت حركة ترجمة، لاسيّما ترجمة "الكتب المدرسية"، وكان الاعتماد في الترجمة على مجموعة من الشوام -وأغلبهم من النصارى- ثم شاركهم بعد ذلك بعض خريجي الأزهر العائدين من بعثات أوروبا (1).
عرف عصر محمَّد علي طلبًا لكتب العلوم الحديثة، وكان هناك جمع لها من إستانبول وأوروبا، وكان هناك حث على ترجمتها وتوفيرها، وكثر عند ذلك المترجمون (2)، وقد عرفت الترجمة منعطفًا مهمًا مع عودة المبتعث رفاعة الطهطاوي بخاصة، الذي جعل من الترجمة مشروعًا له وهدفًا من أهدافه، حيث قام بنفسه على مشروع الترجمة وأسس معهدًا لتخريج المترجمين، وأنشأ "قلم الترجمة" سنة (1841 م) بوصفه مجمعًا متخصصًا في الترجمة (3)، وقسمه إلى أربعة أقسام:
"قسم لترجمة الرياضيات، وقسم لترجمة العلوم الطبية والطبيعية، وقسم لترجمة العلوم الاجتماعية، وقسم للترجمة التركية".
تعدّ المؤسستان اللتان أقامهما "رفاعة": "مدرسة الألسن" و"قلم الترجمة"؛ من أهم المؤسسات في تحصيل العلوم العصرية بكل أقسامها المعروفة في أوروبا، فاتسعت دائرة تعرّف المجتمع على العلوم الحديثة وزاد عدد العارفين بها، لا شك أنهما مشروعان مهمان؛ فالأول يمكّن الطالب من امتلاك لغة الآخرين، والثاني يمارس العارف بلغة الآخرين عمله في ترجمة ما تحتاجه الأمة، وعلى هذا فالنقطة الحساسة هي الترجمة؛ لأن ما يترجم سيصبح مادة دراسة أو قراءة لكثير من الناس وقطعًا سينشغل بها الكثير، وسيكون فيها المفيد والمؤثر، والمفيد لا اعتراض عليه ولكن التوقف هو مع المؤثر: ما هو؟ وما أثره؟
إنها المعادلة الصعبة، وإذا لم يُنتبه لها فربما يفقد المشروع مساره ولاسيّما
(1) انظر له: الأزهر على مسرح السياسة المصرية. . . . ص 165 باختصار.
(2)
انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك ص 142.
(3)
انظر: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمَّد عمارة ص 68 - 73.