الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في إظهار الشُبه والشكوك حول النصوص الدينية. وهذا انحراف خلقي صاحب بعض علماء العصر في العلوم الحديثة وذلك عندما يحاولون توجيه هذه الأجهزة في خدمة أهوائهم ويستخدمونها بغير حق ضد الدين وأهله، وهو انحراف صاحب حركة العلم الحديث في علاقته بالدين.
وبالعودة إلى "جاليليو" أول من اشتُهر عنه الاستعانة بالمقرب "التلسكوب" في صراعه وما أثاره ذلك الفعل منه نجد صورًا غريبة، منها مثلًا: خوف معارضيه من هذا الجهاز، وقد رفض أتباع أرسطو النظر إلى السماء من خلاله، وأنه لا يكشف إلا عن أوهام ما دام ذلك يخالف ما قرره "بطليموس" و"أرسطو"، ويخالف ما قررته الكنيسة (1). ولكن هذا الرفض لم يُغير من رغبة الناس في استخدام هذه الأجهزة، بل اعتمدت الثورة العلمية اعتمادًا كبيرًا عليها فيما بعد.
2 - صراعات جاليليو والمظهر الفكري الذي تبعها:
بعد أن عرفنا أثر الأجهزة في الثورة العلمية، فلنعد إلى علاقة جاليليو بالأحداث والنمط الذي تشكّل بسبب صراعه مع الكنيسة:
يُعدّ جاليليو أحد أبرز علماء أوروبا تأثيرًا في حركة العلم الحديث وأثره بارز في صناعة الثورة العلمية، وبسبب صراعه الدامي مع الكنيسة تشكّلت مواقف ومناهج طبعت صورة الفكر الغربي الحديث، وأثّرت كثيرًا في علاقة العلم بالدين، ومن المفيد ذكر صورة مختصرة عن جزء بسيط من أثر جاليليو في الثورة وفي الصراع مع الكنيسة ليتبيّن لنا حقيقة أثره ودوره ونفهم الصورة الملتبسة في العلاقة بين الدين والعلم عندهم، والصورة المستقرة في عقول الغربيين بعد ذلك الصراع.
من يرجع لكتب تاريخ الفكر والعلم في أوروبا في أثناء حديثها عن مرحلة جاليليو، يجدها وكأنها قد حصرت النشاط الأوروبي في قضية جاليليو ومخالفيه، وكأن الحدث الأبرز والدائر في أوساط المجتمع هو حدث جاليليو فقط، ويظهر
(1) انظر: تاريخ الفكر الغربي، رسل، ترجمة الشنيطي ص 70، وتاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 20، والعلم في التاريخ، برنال 2/ 68، وانظر: عن دور الأجهزة: العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 31.
أنه كان أهم شخصية دون منازع بما أثاره، وسأعتمد على ملخص جيد وضعه يوسف كرم (1) عن صراع جاليليو مع الكنيسة، وأجعله ثلاثة أجزاء:
أ - الصراع الأول.
ب - الصراع الثاني.
ج - ما بعد الصراعين "النتائج".
أ - الصراع الأول: بعد أن أصبح جاليليو شخصية أوروبية مشهورة يجالس كبار الساسة والبابا وهم قادة أوروبا، ونشر بعض ما نشر، وقع الصراع الأول وخلاصته:
1 -
أخرج عالم من روما كتابًا يتهم فيه جاليليو "بمخالفة التأويل السلفي للكتب المقدسة".
2 -
قام جاليليو بإخراج رسائل يدافع فيها عن نفسه، وقام فيها "بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته".
3 -
تدخل أحد رجال الكنيسة الكبار في الصراع ونصح جاليليو "بأن يقتصر على التدليل العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة: ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض الآيات".
4 -
عندها طلب منه ديوان التفتيش الكنسي أن يمتنع من الجهر برأيه ووعد بالامتناع، وبعدها قرر ديوان التفتيش إضافة إلى ذلك تحريم كتاب كوبرنيكوس ما لم يصحح، بعد أن كان مسموحًا به.
لقد كان الصراع القائم مع معارضيه بسبب تحمّسه لنظرية يرونها مخالفة لما عندهم من معتقدات بخلاف نشاطه العلمي الآخر فما كان موطن اعتراض، بل كان يلاقي الدعم والتشجيع، ويكفي أنه كان من المقربين لقيادات المجتمع آنذاك.
وهذه مسألة من المهم إبرازها، فإن هذه الحقيقة يُغفلها العلمانيون، وبعض من ينقل عنهم قد لا ينتبه لكل هذه الأبعاد في قصة الصراع وحقيقته، وهو تأكيد
(1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة ص 19 - 24.
لما ذُكر سابقًا من أهمية العدل بين المتخاصمين، فإن حقيقة الصراع بين الطرفين أنهما جميعًا كانوا أهل أهواء وأخطاء ولكنها دون أدنى شك تكون شنيعة عندما تكون باسم الدين.
وسنجد بعض المتغربين عند استشهاده بنظرية علمية واعتماده عليها فإن خالفه مخالف، اتهم مخالفه بأنكم ضد العلم وتكررون موقف الكنيسة من العلم، مع العلم بأن الكنيسة لم تكن ضد العلم مطلقًا، وإنما كانت ضد النظريات التي تخالف ما تعتقده من معتقدات وتسكت عمّا لا يخالفها وتسمح بالنشاط العلمي في الجملة، وهذا يظهر من سماحها بكتاب كوبر بشرط تصحيحه وبطلبها من جاليليو أن يجعل نظريته فرضية لا نظرية.
وخطأ الكنيسة هي أنها فرضت أخطاءها على الآخرين وجعلتها عقائد يجب اعتقادها، وتخلط بين الحق والباطل، وبعض ما استشهد به رجال الكنيسة مما هو معروف عند أهل الأديان مثل استشهاد لوثر بقصة إيقاف الرب سبحانه الشمس لنبي من أنبيائه.
وسنجد أن جاليليو قد استمر في الدفاع عن النظرية الجديدة، وهي التي أوصلته إلى المحاكمة، بخلاف نشاطه العلمي الدنيوي فقد بقي قائمًا حتى في ظل إقامته الجبرية.
قد يقال بأن الكنيسة كانت منزعجة من شهرة جاليليو، وتخشى أن يخرج العلماء من خارج إطارها ومؤسساتها، وأنها استثمرت معارضته لعقائدها في محاولة ضربه وإقصائه، وأنها تريد محاربة كل ما أتى به إلا أنها تركز على الجانب الفرضي غير المؤكد في كلامه حتى لا تشوّه صورتها، وتبقى هذه إحدى الافتراضات القوية المحتملة، وذلك لما عُرفت به الكنيسة من طغيان وجهل. ومع ذلك فإنه لم يُعرف عن الكنيسة أنها حاربت العلوم الجديدة التي لا تخالف معتقدات كنسية معينة، وإنما حاربت من أتى بشيء يخالف ما تقرر عندهم عقديًا.
ومن المؤكد بأن تيارات كثيرة جاءت بعد أحداث الثورة العلمية كانت لها مصالح في إبراز التعارض بين العلم الجديد والدين أيًا كان هذا الدين، وتُصوره على أنه تعارض محتوم، وأن العلم يتعصب للعقل والمعرفة وأما الدين فيتعصب أهله للجهل ويحاربون العلم.
آلية حل المشكلة وفك الصراع بين الكنيسة ورواد الثورة العلمية:
لقد عمل جاليليو سنين في جامعة "بادوا" أشهر جامعات أوروبا آنذاك، ومما يذكر عنها بأنها قد تأثرت بمذهب ابن رشد القائل بالفصل بين الحقيقتين: حقيقة دينية لها طريقها ومنهجها وأهلها، وحقيقة فلسفية لها طريقها ومنهجها وأهلها، وصياغته لقانون خاص بالتأويل لتطبيقه عند الحاجة من قبل الراسخين في العلم.
أما السائد في أوروبا وعلى المستوى الرسمي للكنيسة: فإن ما تقدمه الكنيسة هو الحقيقة وإن ما يخالفها فهو خطأ، وقد استقرّ الوضع على التلاحم بين اللاهوت والفلسفة لاسيّما بعد اعتماد اجتهادات توما الإكويني.
ولكن الجديد في الساحة الأوروبية هو بروز النظريات والكشوف العلمية، وبعضها يتصادم مع ما تقرر لديهم في اللاهوت، هنا برزت من جديد مشكلة التعارض بين لاهوتهم والعلم الجديد. وقد بدأت بوادر الخلاف بما رصده ذلك الرجل عن جاليليو وأثبت "مخالفته التأويل السلفي للكتب المقدسة" كما يقول، مع العلم بأن التحريف قد لحق بكتبهم المقدسة، وأن عقائد باطلة أُضيفت إلى المعتقد المسيحي، ومن أهمها عقيدة ألوهية المسيح عليه السلام، وأن تجسّده كان على الأرض، ولذا فهي معظمة ومقدسة ومركز الكون وثابتة؛ لأن هذا هو ما يليق بالإله، فخلطوا في كلامهم المعتقد الباطل بالتصورات اللازمة عنه.
ولمعالجة هذه الأزمة استخدم جاليليو منهجية التأويل لتقريب النصوص من نظريته أو منهجية التفسير لوضع معنى آخر للنصوص لا يخالف نظريته. والملاحظ أن القائم بالتأويل والتفسير هو عالم الفلك لا رجل الكنيسة؛ وذلك أنه كان في حاجة لتمرير نظريته مع حرصه على السلامة من مخالفة الكنيسة، على أنه يوصف بالتدين أيضًا.
ولكن الوضع تغيّر بعد ذلك بسنين حيث ضعفت الكنيسة، وتمّ إقصاؤها في المجتمع الغربي بعد نجاح الثورات العلمانية، عندها تحولت عمليات التأويل والتفسير من رجال العلم إلى رجال الكنيسة، وأصبحت الكنيسة هي الأضعف والأحوج لمنهجيتي التأويل والتفسير لتمرير عقائدها، ولتسلم قدر الاستطاعة من مخالفة العلم الحديث وأهله، واعتمدت في كثير من النصوص التفسير بالظاهر فيما يتعلق بهذه النظرية.
مع العلم بأن جزءًا من رجالات العلم وأغلب التيارات الفكرية لم تعد تحترم نصوص كتبهم المقدسة، بل الأوجع من ذلك على الكنيسة أنه بعد ضعفها ترك المفكرون منهجية التأويل والتفسير وتحولوا إلى منهجية النقد، وقد كان أشدّها ما قام به "إسبينوزا" و"شتراوس"(1) وغيرهما، وقد كان مصدر نجاحهما كثرة التحريف والتزييف الذي قامت به الكنيسة، وكان أشدّ ما توجه له هجوم هؤلاء هو القول بألوهية عيسى عليه السلام والأقانيم والعشاء الرباني وغيرها، وهي مما يُعلم من دين الإسلام كذبها وبطلانها، وهذا ما يقرّه العقل الصحيح والفطرة السليمة.
وهنا يتضح دور انحراف الكنيسة في فتح الباب للملاحدة وأمثالهم للطعن في الأصول الدينية، كالإيمان بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغيرها، ويتضح بأن الخلاف المزعوم ليس حقيقيًا؛ لأنه قام بين دين محرّف ونظريات تجمع بين الظن واليقين أو الحق والباطل.
والذي يناسب ذكره في هذا المقام بأن "التأويل" وسيلة الأضعف، وأنه ينصب على النصوص الدينية فهي موضع الاشتباه أو التشابه عندهم، ولا يُنزل على النصوص والنظريات العلمية مع أنها قد تكون موضع الاشتباه أو التشابه كذلك، وأنه ما قام التأويل إلا بسبب الثغرات الموجودة في الكنيسة وتحريفاتهم الكبيرة لما جاء من الوحي، وأما الحق فواحد في الأبواب الخبرية، وما ثبت منه فلا يمكن أن يظهر من العلوم ما يعارضه.
ويُظهر هذا التحليل التاريخي للحديث بأن منهجية التأويل تفتح من المشاكل أكثر مما تحل، وهذا يبرهن على عدم صلاحيتها في معالجة القضايا الدينية معالجة حقيقية، ويكفي أنها توحي بعدم صحة النص أو عدم صحة الفهم أو المعنى. ومن الخطأ ما نلاحظه في هذا الزمان من انسياق بعض المسلمين خلف طريقة التأويل لكل ما يتوهمه متعارضًا مع النظريات العلمية من أجل الدفاع عن الدين في وجه طوفان العلوم الحديثة، وذلك أنه يعبر عن الضعف وعدم الثقة بما بين أيدينا من الحق، وهذا سيكون مدخلًا للتوسع في نبذ النصوص والعقائد، والكلام هنا لمناسبة السياق، وإلا فهناك مبحث خاص بقضية التعارض ومنهج الناس في حلّها ومناقشة كل ذلك بإذن الله.
(1) انظر: الحديث عن شتراوس لاحقًا ضمن اليسار الهيجلي.
وفي ختام تحليل الصراع الأول تبرز لنا قضية وأنها كانت خاطئة، فمقولة:"إن الكنيسة عارضت العلم باسم الدين" ليس بصواب، وذلك أن هناك من سيعمم هذه العبارة فيما بعد ويجعل الدين أيًا كان عدوًا للعلم، وأيضًا فإن المنهج الذي استخدمه جاليليو سواء كان تأويلًا أو تفسيرًا جديدًا لم يكن حلًا سليمًا؛ لأنه حافظ على أخطاء الكنيسة حتى جاء من يُقصي الدين بعد ذلك ويبعده عن المجتمع عندما ضعف شأنه وأهله في أوروبا، والمسألتان السابقتان ينبغي الاحتفاظ بهما لفصول قادمة، والآن لنتجه إلى تحليل الصراع الثاني.
ب- الصراع الثاني: سبق في الصراع الأول تخطئة جاليليو من قبل الكنيسة واستسلامه لرأيها، ووعد بالامتناع عن الجهر برأيه، وهذا يعني: أنه سيكون تحت دائرة الملاحظة والمراقبة، وأن أي عمل يعمله سيستفز بعض رجالات الكنيسة.
1 -
في هذا الجوّ ظهر مُذنّب في الفضاء، وتكلم عنه جاليليو بكلام، فرد عليه أحد اليسوعيين.
2 -
صنف جاليليو كتابًا أسماه "المحاول"؛ أي: محاولة في المنهج التجريبي، ووجّهه لأحد رجال الدين، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم.
3 -
بعد ثماني سنوات من كتابه "المحاول" أخرج كتابه المشهور "حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم" يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، مع أن تعاطفه كان مع نظرية كوبرنيك.
4 -
تمت مساءلته فأجاب "أنه ما زال منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا الجواب، فكان كاذبًا مرتين. . . ."(1).
لم يحدث جديد في الصراع الثاني، فإن مشكلة النزاع لم تكن حول جهوده العلمية وإنما بقيت حول دفاعه عن النظرية الجديدة في الفلك، ورفضه أن يجعلها فرضًا كغيرها من الفروض أو أن يؤكدها بحجج يقينية تقطع الشك عن الجميع.
والذي يظهر بأن الطرفين كانا يصارعان من أجل حفظ كرامة الوجه كما يقال، وأن الجميع لم يكن همّه الحقيقة بقدر ما كان همه الخروج بأقل الخسائر،
(1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 21.
ويظهر أيضًا بأن الاستفزاز كان سيّد الموقف من الطرفين، فكل طرف يستفز الآخر، وكل ذلك كان على حساب الحق والصواب.
وقد ذكر "يوسف كرم" بأن المخالفين لجاليليو كانوا كُثرًا، فليس فقط الكاثوليك، بل وطائفة البروتستانت وجميع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملاحدة وغيرهم، ولذا فالشبهة في حقه أكبر، فخرج حكم الكنيسة بتجريمه، ففي عام (1633 م)"أصدرت محكمة التفتيش حكمًا بالإجماع على غاليليو يقضي بسجنه وبإلزامه بالتخلي عن معتقده"، وكان نصه "إننا نقضي ونحكم ونصرح بأنك أنت يا غليليو قد جعلت من نفسك متهمًا بالهرطقة تمامًا، وذلك بسبب تمسكك بعقيدة خاطئة ومضللة، ومنافية لما جاء في الكتاب المقدس، من أن الشمس هي مركز الكون، وأنها لا تتحرك أو تنتقل من الشرق إلى الغرب، وأن الأرض هي التي تتحرك، وأنها ليست مركز الكون". وبعد إطلاق الحكم عليه بأيام تلفظ وهو جاث على قدميه -كعادتهم- في كنيسة سانتاماريا في روما بعبارة الارتداد والتخلي عن معتقده على الوجه الآتي: "أنا غاليليو، في السبعين من عمري وماثل بشخصي أمام القضاء وأمام ناظري الكتاب المقدس الذي أضع يدي عليه بقلب ملؤه الإيمان، أصرح بأني أتخلى عن معتقدي وبأني أكره وأشجب الهرطقة المتعلقة بحركة الأرض"(1).
وهناك اختلاف في الدراسات اللاحقة في سبب الحكم عليه، هل هو علمه ومعتقده الناتج عنه؟ أم أنه شخصه وأسلوبه في معارضة الكنيسة؟ فالمدافعون عن الكنيسة والمائلون إليها يرون السبب الثاني، أما أعداء الكنيسة فيرون السبب الأول. والشخص المحايد يعرف بأن للسببين أثرًا في المحاكمة، إلا أن مجرى التاريخ الأوروبي قد سار لصالح جاليليو ضد الكنيسة، وأصبحت الكنيسة هي من يبحث عن تفسير جديد لنصوص الكتاب المقدس -المحرف- وغلب عليها اعتماد التفسير بالظاهر، وترك الخوض في المجالات العلمية أو مجادلة العلماء.
وبعد تدهور قوة الكنيسة طالب أنصار "جاليليو" الكنيسة بمراجعة حكمها والاعتذار عنه، وقد بقيت عشرات السنين تتهرب من ذلك، وتجد صعوبة في الاعتذار، إلى أن جاء البابا "جون بول الثاني" عام (1980 م) فأمر بتشكيل لجنة
(1) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما فريتش، وترجمة عادل شقير ص 61 - 62.
من العلماء والمؤرخين ورجال الكنيسة لتقويم الحكم الذي صدر على جاليليو. وقد توصلت اللجنة إلى أن القضاة الذين حاكموه قد جانبوا الصواب، وفي عام (1984 م) تمّ ردّ الاعتبار لجاليليو أي بعد ما يقرب من (350) سنة من إدانته (1).
أما جاليليو فقد حُكم عليه بالسجن، إلا أن البابا آنذاك خفف عنه وجعله في إقامة جبرية خاضعة للمراقبة والمتابعة، وفيها أخرج أهم مؤلفاته في الفيزياء والميكانيكا الحديثة.
ج- ما بعد الصراعين "النتائج":
ذهب "جاليليو" وبقيت آثار الصراع، منها ما كان خاصًا بالمجال العلمي، ومنها ما له علاقة بالنظريات العلمية، ومنها ما له علاقة بالأنظمة الثقافية والدينية والاجتماعية السائدة، ومن أهم ما يختم به هذا الحدث من نتائج أربع قضايا وهي:
أولًا: أثر الصراع في بروز الحل العلماني القائم على الفصل بين الكنيسة والعلم.
ثانيًا: قضية تكافؤ النظريات العلمية.
ثالثًا: القانون وآلية حركة الكون.
رابعًا: التقدم العلمي والمنهج الجديد.
فالأولى تبين أبعاد الطلاق القائم في الغرب بين العلم والدين وترسباتها التاريخية الحديثة، والثانية توضح مسألة مهمة تخص النظريات العلمية وتتعلق بالتساؤل حول إمكانية وجود أكثر من نظرية حول قضية واحدة، وأما الثالثة فهي بعض ما رسّخَهُ جاليليو في حركة العلم الحديث، ولها آثارها على المجال الديني، وأما الأخيرة فتبين حقيقة الأثر الإيجابي لجاليليو في حركة العلم الحديث.
أوّلًا: أثر الصراع بين جاليليو وبالكنيسة في بروز الحلّ العلماني القائم على الفصل بين الدين والعلم أو بين الكنيسة والعلم:
سبق أن ذكرنا بأن هذه المرحلة في أوروبا مرحلة صراعات كبيرة كان
(1) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم ص 100، ويُعدّ جون بول الثاني المنتخب عام (1978 م) أول بابا غير إيطالي منذ (1523 م)، انظر: مادة (البابا) في الموسوعة العربية العالمية.
أهمها: موجة الإنسانيين الخارجين على الكنيسة وقيمها، وانشقاق تيارات الإصلاح الديني والحروب المصاحبة لها وأشهرها حركة البروتستانت، وقام ثالثها بين الكنيسة ورجال العلم. ولعل هذا الصراع الأخير لأول مرّة يحدث في أوروبا منذ سيادة الكنيسة الكاثوليكية، فقد كان رجالات العلم هم رجال الكنيسة أو من أتباعها أو من المسالمين لها، إلا أن علماء الفلك بالدرجة الأولى -وإن كان عند بعضهم أكثر من علم- هم أول من أقام هذا الصراع بعرضهم نظرية جديدة وتحمسهم لها ودفاعهم عنها.
وسبق القول بأن الكنيسة لا تعارض العلم، ونشاط العلماء كليًا لاسيّما، وبعض رجالها هم من العلماء في مجالات مختلفة، إلا أن الذي فاجأها هو النظرية الجديدة التي تخالف ما تعتقده من مكانة الأرض لتجسد الرب فيها في صورة عيسى عليه السلام كما يزعمون، واستدلالهم بأن الله سبحانه أوقف الشمس لنبي من أنبيائه ولو كانت ثابتة لما كان الإيقاف لها وإنما للأرض، وينبغي أن نعلم بأن بعض اعتراضات الكنيسة كانت وجيهة وذات أصل صحيح وإنْ فُهمت أو فسرت خطأ؛ إلا أن خلط الحق بالباطل من قبل الطرفين أضاع الحقيقة بينهما.
ومنذ إحراق "برونو" وأوروبا محتارة في طريقة معالجة مثل هذه المشكلة، ثم جاءت محاكمة "جاليليو" كأشهر محاكمة في تاريخ أوروبا لتدخل الصراع مرحلة خطيرة، يقول "برنال":"إن واقعة محاكمة جاليليو تميز عصرًا جديدًا؛ لأنها حولت الصراع بين العلم والعقائد الدينية إلى مسرحية درامية"(1)، وعدها "كويستلر""أكبر فضيحة في تاريخ المسيحية"(2)، وقد كانت الحلول المقدمة محدودة، وجميعها صعبة، فإما تقديم أحد الطرفين وإلغاء الآخر وهذا لم يعد ممكنًا، أو القول بصواب أحدهما وخطأ الآخر وهذا عسير على الطرفين، أو محاولة التقريب وهو ما فعله جاليليو عن طريق التأويل، ولكن ذلك أغضب الكنيسة، فهي تراه غير مؤهل لفهم اللاهوت والكتاب المقدس.
عندها برز حلّ آخر يظهر أن "جاليليو" حاول عرضه وهو: الفصل بين اللاهوت والعلم، وقد قُبل هذا الحل بعده بسنين عند انتصار الثورات العلمانية
(1) العلم في التاريخ 2/ 77.
(2)
غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما ص 60.
في أوروبا، وتمّ الفصل لصالح العلم وأصبح لكل منهما الحق في الوجود وعدم السماح لأحدهما بمنع ما يراه الآخر. وربما كان استمرار الصراع دون حل أحد الدوافع الكبيرة في نجاح العلمانية، يقول "حسن حنفي" عن "جاليليو":"دافع عن الفصل بين اللاهوت والعلم؛ لأنهما مختلفان موضوعًا ومنهجًا وغاية وحتى لا يتعارضا ويتصادما. وبذلك وضع جاليليو أساس استقلال العلم الحديث عن اللاهوت"(1)، وإن كان البارز من سيرة "جاليليو" ميله إلى التوفيق أكثر من ميله إلى الفصل، إلا أن حدث الصراع اتخذ ذريعة فيما بعد لأهمية الفصل بين اللاهوت والعلم.
وإذا كان هذا يكشف لنا السند التاريخي الذي يعتمد عليه دعاة العلمانية في أوروبا للفصل بين الدين والعلم، فهو سند مفهوم لواقعهم التاريخي؛ وذلك أن اللاهوت فيه ما فيه من التحريف والانحراف، وفيه من المزاعم ما لا يقبله عقل ولا يقرّه نقل، ولكنه غير مقبول إن طبق في مكان آخر لا يجد مثل هذه الملابسات التاريخية والمنهجية.
ثانيًا: تكافؤ النظريات العلمية:
كانت النظرية المعتمدة عند الكنيسة في الفلك هي نظرية "بطليموس" القائلة بمركزية الأرض وثباتها، والنظرية الجديدة هي نظرية "كوبر" ومن بعده، والتي دعمها جاليليو والقائلة بمركزية الشمس ودوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. وقد كان أحد الحلول المعروضة القول: بتكافؤ النظريات؛ لأنه لا يمكن للإنسان العادي التأكد من صحة إحداهما، ولكل واحدة منهما إيجابيات وسلبيات، فلماذا لا تقبل النظريتان، ويقال بهما؟!
إن قضية تكافؤ النظريات كانت قضية يصعب قبولها آنذاك؛ لأنها تعد من اختلاف التضاد الذي لا يمكن الجمع بين طرفيه؛ فالحقيقة في هذا الجانب واحدة فقط، والحقيقة الوحيدة آنذاك هي الموجودة في الكنيسة، وما عداها فلا يمكن قبوله. ولكن فلاسفة العلم المعاصرين يعلمون صعوبة الجزم بأن النظرية؛ أيًا كانت، أنها حقيقة مطلقة، وينظرون للنظريات بأنها أداة تفسير مناسبة في وقتٍ
(1) مقدمة في علم الاستغراب ص 178.
ما، ولكنها قد تكون مملوءة بالثغرات التي تُعالج مع الزمن أو تستبدل بنظرية أخرى، بل ربما نكتشف بعد زمن خطأَها، وبهذه النظرة الجديدة يمكن القول بتكافؤ النظريات العلمية؛ لأنه لا توجد نظرية تزعم لنفسها بأنها الحقيقة المطلقة، وظهر في الإبستمولوجيا المعاصرة نظرة جديدة لمفهوم الحقيقة العلمية، فهي حقيقة مؤقتة إذا صح التعبير، وما هو حقيقة علمية اليوم قد يكون غدًا خطأً علميًا. بل أكثر من ذلك هناك إمكانية القول بنظريتين حول موضوع واحد، مثل القول بالموجات أو الجسيمات، تفسيرًا لظاهرة حركة وانتقال الأشعة، وكلتا النظريتين لهما من التأكيدات العلمية ما يكفي لتبريرها كحقيقة في المجال العلمي (1).
إذًا فما كان ممنوعًا زمن "جاليليو" أصبح اليوم مقبولًا، وهذا يؤيد عدم التساهل في تقديم النظريات العلمية على ظواهر النصوص الشرعية؛ وذلك أن من قدم ما يظنّه "حقيقة علمية" فهي حقيقة مؤقتة أو حقيقة نسبية، والعلم بعضه ينسخ بعضًا. فمفهوم "الحقيقة العلمية" يختلف عن مفهوم الحقيقة الشائع عند الناس، فالشائع عند الناس أنها حقيقة مطلقة، ويبنون على ذلك أحكامهم ومواقفهم، بينما أصحاب العلم الحديث أو فلاسفته لا يرون ذلك الإطلاق ولا يرون مانعًا من ظهور نظرية جديدة أفضل من الأولى وأقدر على إجابة ما لم تجب عليه الأولى.
أما "جاليليو" فقد دافع عن نظرية على حساب أخرى ولم يفعل ما فعله "كوبر" من جعل الفرضيتين متكافئتين، وقد دفع ضريبة ذلك فيما بعد، وبعد أكثر من ثلاثمائة سنة برز فلاسفة وعلماء من أنصار الفلسفة الوضعية ومن الإبستمولوجيين المعاصرين يدافعون عن موقف "أوزياند" صاحب مقدمة كتاب "كوبرنيكوس" في جعل الفرضيتين متكافئتين، ويعدون "كافة الفرضيات العلمية متكافئة من حيث الأهمية أو القيمة؛ لأنها ليست سوى تعابير مختلفة لا يمكننا اعتبارها صحيحة كما لا يمكننا -وفي الوقت نفسه- اعتبارها خاطئة ما دمنا نفتقر إلى تجارب حاسمة تمكننا من ترجيح أحد الاعتبارين على الآخر"(2). وهذا النص من أحد الكتب المدافعة عن جاليليو ولذا فهو لا يرى رأيهم، وإن كان
(1) سيأتي الحديث عنها في فقرة (النظرية النسبية ونظرية الكم) نهاية الفصل ص 237.
(2)
غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما ص 70.
رفضه لكلامهم دون حجة أو دليل قدمه، ونقل أيضًا رأي "بيار دوهيم" في كتابه:"مفهوم النظرية الفيزيائية من أفلاطون إلى غاليليو" بأن "المنطق كان بجانب كل من أوزياندر وبلّرمان وأوربانوس الثامن وليس بجانب كبلر وغاليليو، ذلك أن أولئك أدركوا المدى الحقيقي للعلم، أما هؤلاء فقد أسيء فهمهم في هذا الصدد"(1)، وقريبًا من هذا المعنى موقف "هنري بوانكاريه"(2). وقد اعترض آخرون على الموقف السابق، وتتركز اعتراضاتهم على استثمار مقولة تكافؤ النظريات في التنقيص من موقف جاليليو، ومع ذلك فالمقولة ذاتها ذات مكانة كبيرة في فلسفة العلم المعاصرة (3).
والمتأمل من خارج دائرة العلم الحديث يدرك بأن مقولة تكافؤ النظريات تخفي في طياتها أمورًا كبيرة، وعلى رأسها الصراع الكبير بين النظريات العلمية ذاتها، فالنظريات المتعارضة يتتابع ظهورها، وبروز النسبية في الحقيقة التي تقولها كل نظرية من النظريات، فهذه وغيرها تدفع بمقولة التكافؤ إلى الواجهة. وإن كان هناك مِنْ درْسٍ لمن هم خارج الإطار العلمي الحديث ومشاكله فهو عدم تقديس النظريات العلمية وادعاء العصمة لها، وكذا عدم الاستعجال في تقديمها على ظواهر النصوص الشرعية، وبالمقابل عدم تنزيل نصوص شرعية على نظريات علمية؛ لأنه في البابين: إن قدمت نظرية فهناك غيرها يكافِئها، وإن نُزّل عليها نص شرعي فعلى أيّة نظرية يُنزّل؟!
ثالثًا: القانون وآلية حركة الكون:
دخلت مفاهيم جديدة مع العلم الجديد أصبحت من مكونات العلم الحديث، وقد سبق أثر "كبلر" عندما وضع ثلاثة قوانين لتفسير حركة الكون وأثر ذلك. وقد تطورت كثيرًا مع "جاليليو"، وأصبحت -معه ومن بعده- سمة مهمة للعلم الحديث، وهي محاولة وضع صياغة رياضية لتفسير الظواهر الطبيعية. فمن خلال التجريب والملاحظة يمكن إدراك بعض مظاهر الطبيعة، ومن خلال
(1) المرجع السابق ص 70 - 71.
(2)
انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 23، وسيأتي توضيح موقف (دوهيم وبوانكاريه) وغيرهما من نقاد العلم في فقرة قادمة.
(3)
انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، السابق ص 69 - 73.
الاستعانة بالرياضيات يمكن صياغتها في قوانين ومعادلات تُسَهِّلُ فهم الظاهرة وتمكّن الآخرين من الاستفادة منها، وبهذا أصبح التقدم العلمي مربوطًا بالتجريب والرياضيات (1)، وأسهم ذلك في عقلنة الظواهر الفيزيائية وكشف القوانين المنفصلة التي تخضع لها الأجسام المتحركة (2)، وحوّل جاليليو -بهذه المنهجية- الطبيعة إلى رياضة كما يقول "هوسرل" وغيره (3).
وإذا نجح العالم في إيجاد معادلة أو قانون لتفسير ظاهرة طبيعية يبدأ بعدها في قياس حالات عليها أو تنزيلها على عدد من الجزئيات، وبقدر ما تنجح في تفسير كل هذه الجزئيات دون شذوذ تعدّ صحيحة، وعندما توجد حالة تشذ تظهر حاجة المعادلة أو القانون إلى تصحيح أو تغيير.
وقد نجحت قوانين "كبلر" وإضافات "جاليليو" في تفسير كثير من الظواهر الكونية وفهم حركة الأجسام، ولذلك أثرٌ كبير فيما بعد على تطور العلم وتطور الانتفاع به في الصناعة والتقنية وغيرها من أبواب الانتفاع. ولكن جهود كبلر وجاليليو وغيرهما كانت تثير من الأسئلة بقدر ما تقدم من أجوبة، وبقيت الاعتراضات عليها قائمة وعدم انتظامها بشكل دقيق أمر بارز، وستبقى كذلك إلى أن يأتي عالم أوروبا في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، وهو "نيوتن" ليحل كثيرًا من تلك المشاكل، ويفتح في الوقت نفسه مثلها من النقاشات.
ومن المعلوم بأن مفهومي المعادلة والقانون وغيرهما لم يكن الأصل فيها أن تثير إشكالات كبيرة مع الدين، وما كان يخطر ببال مبتكريها من العلماء أنها ستُظهر شيئًا من ذلك، بل هي تعبير واضح على أن خلف هذا الكون -صغيره وكبيره- خالقًا عليمًا حكيمًا سبحانه، خلق كل ذلك عن علم وحكمة وقدرة كاملة، وجعل لكل شيء قدرًا، فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. ولكن فئة أبت أن تنظر من خلال هذا المنظار وجعلت لمفهومي المعادلة والقانون وما في بابهما دلالات أخرى. وقد كان من أهمها وأخطرها ما بنوه من ضلال على القول بالنظرية الآلية -الميكانيكية- للكون.
(1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 365.
(2)
انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، رسل، ترجمة الشنيطي ص 69.
(3)
انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 179.
وأساس النظرية الآلية بأنه متى وجدت الحركة لأي جسم فستبقى هذه الحركة مستمرة ما لم يُعقها عائق، وهو أحد القوانين التي كشفها جاليليو وأخذ به نيوتن فيما بعد، فهذا القلب ينبض باستمرار دون توقف، وهذه الرئة، وكذا كثيرٌ من حركات الأعضاء غير الإرادية، وهذا في الأجسام الصغيرة، ومثلها الأجسام الكبيرة وغيرها، فمتى تحركت فهي تبقى في حركتها.
وبحسب رأي جاليليو: فإن الحركة متى وجدت استمرت دون افتقار إلى علّة (1)، وهذا ما أخذه بعد ذلك نيوتن وجعله أول قوانين الحركة الثلاثة "فكل جسم ساكن، أو في حركة منتظمة على خط مستقيم يظل كذلك ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج تجبره على تغيير حالته.
وتفسير ذلك، أنه لو وجد جسم سماوي يتحرك حركة منتظمة فإنه يظل في حركته إذا لم تطرأ عليه آية مؤثرات خارجية. ومثال ذلك الكواكب والتوابع التي حولها. والأقمار الصناعية التي نطلقها في الفضاء، تظل تدور لأنها لا تلقى مقاومة" (2).
وسأترك الحديث عن مفهوم "الآلية - الميكانيكية" إلى موضع الحديث عن آخر أعلام الثورة العلمية وهو نيوتن، ويكفي هنا ربط هذه المفاهيم الجديدة بالنظرية الجديدة من جهة، وبالثورة العلمية الجديدة من جهة أخرى.
فالقول بالآلية أول ما ظهر في علم الفلك لتفسير حركة الأفلاك دون البحث عن علل خارجية لتفسير تلك الحركة. فمع القول بأن الأصل في الجسم استمراره في الحركة إذا لم يوجد عائق فإنهم لا يبحثون عن السبب الذي كان الأصل في الحركة، وهل هي حركة مستقلة أم أن استمرارها محفوظ بسبب خارجي عنها!
رابعًا: التقدم العلمي والمنهج الجديد:
لقد كانت بصمات جاليليو على العلم واضحة، وهناك من يجعله أعظم مؤسسي العلم الحديث، فما أهم معالم تلك البصمات؟
(1) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 23.
(2)
الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان ص 32.
يظهر في هذه الفقرة الأثر الإيجابي لأعمال جاليليو في تقدم العلم وتحقيق ثورة علمية حقيقية، وهذا النوع يتساوى الناس فيه، فقد يبرع فيه المؤمن والملحد، المصدق بالأديان والمكذب بها، بل قد يفتح الله للكفار إذا بذلوا أسباب ذلك كما قال -تعالى-:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الدنيا "لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"(1)، فعلوم الدنيا ميسرة لمن طلبها، ولذا فهي ليست لوحدها علامة صلاح صاحبها أو فساده، أو صلاح تلك الأمة التي ظهرت فيها أو فسادها. وإن كان المؤمن والأمة الصالحة إذا اشتغلوا بهذه العلوم طاعة لله سبحانه وقصْد نفع الناس بها، كان لهم من التوفيق ما لا يكون لغيرهم، وتحقق لهم الانتفاع الصالح بها ما لا يكون لغيرهم، فإذا عرفنا مثل هذه الحقيقة انتفى ما يردده بعض الجاهلين:"لِمَ تقدّمَ الكفار وهم كافرون بالله العظيم"؟!
بعد هذه الوقفة نرجع إلى ما أعطاه الله لهؤلاء القوم عندما اشتغلوا بالدنيا وعلومها، ومما يسره الله لجاليليو وأمثاله وساعدت في تقدم العلم: اكتشافه للأدوات التي كانت سببًا في تقدم العلم كالمقرب -التلسكوب- مثلًا، واكتشافه لبعض قوانين حركة الأجسام، وإشاؤه لعلم الميكانيكا، وتطويره لعلم الفيزياء، وما ترتب على ذلك فيما بعد من اختراعات وصناعات لم تعرفها أمة من الأمم.
وقد كانت إحدى أهم نقاط انطلاقه دعوته الملحّة إلى تجاوز منهج أرسطو، فهو وإن كان نافعًا في بعض الأبواب إلا أنه لا يقدم نفعًا في كشف الجديد، ودعوته لاستخدام المنهج التجريبي المقنن رياضيًا. وهذا يذكرنا بنقد آخر لمنهج أرسطو المتبع في العلم في جهة أخرى وقبل جاليليو بسنين كثيرة، وهو نقد علماء المسلمين، وقد كان من أهم ما أخذوه على منهج أرسطو: بأنه لم يظهر نفعه لأهل علم من العلوم أو صنعة من الصنائع، بل كان تطور علومهم وصنائعهم دون اعتمادهم عليه، ومنهم الكثير لا يعرفونه. وبعد سنين من ذلك
(1) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه رواه الترمذي برقم (2320)، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، وابن ماجه برقم (4111)، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (686).
النقد الإسلامي يظهر في أوروبا الاعتراض نفسه، الموجّه لمنطق أرسطو ومنهجه مع الدعوة إلى التخلص منه في باب العلوم والبحث عن منهج جديد، هو ما أطلق عليه فيما بعد المنهج التجريبي وعمدته على المشاهدة والتجريب والملاحظة ثم التعبير عن ذلك بصيغ رياضية ورموز جبرية.
وقد أثبتت بحوث كثيرة -من الشرق والغرب- بأن الغرب مدين للمسلمين بالمنهج التجريبي، فهم من أرسى دعائمه الأولى بعد النقد الكبير الذي وجّهوه للمنهج الصوري الأرسطي، ثم تعرف عليه الغرب في نهايات عصورهم الوسطى وتعلموه وطوروه في حركة الترجمة المعروفة لعلوم المسلمين. ثم جعله علماء أوروبا منهجهم العلمي المعتمد، وانطلق به كل عالم في ميدان علمه فحققوا نتائج كبيرة.
وقد تسبب هذا المنهج في إيقاف الطريقة المدرسية السائدة في عصورهم الوسطى، وكان عمدة تلك الطريقة على متون فلسفية وعلمية تُشرح مرارًا وتعاد تكرارًا. ولكن بعد هذه الثورة المنهجية أصبح العلم ليس شرحًا للقديم وإنما اكتشاف الجديد، أو إضافة تصويبات للقديم. وأصبح مصطلح العلم مرتبطًا بمن يكتشف جديدًا أو يطور علمًا قائمًا، أما ذلك الذي يفهم العلوم الموجودة ويشرحها فلا يسمى عالمًا حقيقة. وأصبح ذلك سمة من سمات العلم الحديث، حيث تجد كل باحث شديد الحرص على إضافة الجديد أو تطوير القديم أو تصحيح أخطائه أو سدّ ثغراته، والعالم هو من يكتشف علمًا جديدًا، أو قانونًا جديدًا، أو نظريةً جديدة، وهكذا ظهر مصطلح التقدم تعبيرًا عن مواصلة الاكتشاف والتجريب وما يرتبط بذلك من تغيرات تصيب المجتمعات. وأحد أهم الأسباب التي أعطاها الله لهم هو حصولهم على منهج التجريب من المسلمين وتخلصهم النسبي من منطق أرسطو ومنهجه، وكان هذا أحد الأسباب المنهجية في التقدم العلمي الحديث، ومع ذلك فقد أغراهم بهجر كل قديم بحجة عدم علميته، حتى وإن كان الدين والقيم فوقع الغرب فيما بعد في أزمات، واختلط التقدم بأضرار كبيرة توازيه.
وإذا كان هذا الوضع يصح على حالهم؛ لأن العلم المدرسي لا نفع فيه، فما هو إلا شرح أو محافظة على ما لا نفع فيه، أما في العلم المنزل من السماء والذي أكمله الله سبحانه برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإن العلم الأكمل هو ما ارتبط به حفظًا أو تفسيرًا أو شرحًا أو استنباطًا، ويتبع ذلك العناية بعلوم الدنيا وتطويرها.
3 -
ماذا بعد جاليليو؟
جاليليو وفكر عصره وظهور التيار العقلي والتيار التجريبي:
شهدت البلاد الأوروبية غير إيطاليا انتشارًا لطائفة البروتستانت، وكانت تلك البلاد أيضًا قد شهدت بوادر حركة فكرية فلسفية جديدة تحاول الانفصال عن الماضي الفلسفي كما حدث مع التيار العلمي.
ومن المعلوم بأن أوروبا منذ عرفت الفلسفة أيام اليونان والعلم فرع عنها وتابع لها، فهي الأصل وهو الفرع، إلا أن الفرع مع العلماء الجدد قد حدث له تطورات جديدة مما يعني أن الأصل -الفلسفة- لابد له أن يتغيّر. فقد كانت هناك أصوات في عصر النهضة تنتقد أرسطو ومنهجه وتدعو إلى تجاوزه، إلا أنها كانت ضعيفة الصدى، ولكن بعد الأحداث الكبيرة في ميدان العلم ما كان يمكن بقاء الفلسفة بعيدًا عن تلك التطورات.
وقد عرفت أوروبا بعد عصر النهضة تيارين فلسفيين كبيرين، وما زالا إلى الآن مع بعض التعديلات والتطويرات لهما. وهذان التياران هما: التيار الفلسفي العقلي والتيار التجريبي الحسي. عُرف الأول في فرنسا وعرف الثاني في إنجلترا، ومن الطبيعي أن يكون للفلاسفة معرفة بالعلوم إن لم يكن بعضهم علماء في بعضها؛ وذلك أن العلوم فرع عن الفلسفة، ومن كان فيلسوفًا فلابد أن يكون على معرفة بالعلم.
لم يكن هذان التياران قد ظهرا بوضوح زمن جاليليو، وذلك أن رواد التيارين كانوا بعد زمنه أو ممن عاصروه وعاشوا بعده بفترة. وقد كان لمؤسسي هذين التيارين صلة بجاليليو بطريقة أو أخرى، وذلك أن جاليليو أصبح يمثل ذروة علمية في أوروبا لابد من الاعتراف بها، وبهذه الصلة بدأت الفلسفة تربط نفسها بحركة العلم الجديد، وهي إما أن تتأثر به أو تحاول استثماره في الدفاع عن أصولها، وهذا أحد أهم الأسباب للتعرجات التي حدثت في مسيرة العلم، فما سرّ العلاقة؟ أو كيف كانت بدايتها؟
- الاتجاه العقلي. لا يكاد يوجد اختلاف في أن "ديكارت" الفيلسوف