الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترة التحولات واضطراباتها ومشروع الشيخ حسين الجسر
جاءت مستجدات خطيرة عطّلت هذه المسيرة السلفية بخاصة والإِسلامية بعامة وأوجدت مسارات أخرى، عُرض بعضها في الفصل الثالث، حيث ظهرت مشروعات تحديث في عاصمة الدولة العثمانية، وفي بعض ولاياتها المشهورة كمصر وتونس، ولكن لم تُظهر ما يكفي من عناية بالإصلاح الديني، وفي الوقت نفسه ربطت التحديث ببناء جسر جديد مع أوروبا، ونقل حضارتها أو شيء منها إلى البلاد الإِسلامية، وكان القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ورشة عمل ضخمة لهذا التحديث تدخّل فيها جهات مختلفة لكل جهة قبلة هي موليتها.
وإذا كانت دعوة الإمام محمَّد بن عبد الوهاب قد نجحت في القرن الثاني عشر الهجري وما بعده في إعادة الاعتبار لمذهب السلف وبداية انتشار الاتجاه السلفي -في العالم الإِسلامي بعد أن غرق في بدع التصوف والطرق والمذاهب الكلامية والشيعية وغيرها- فإن مشروعات القرن الثالث عشر تكشفت عن اتجاهين جديدين هما: "العصراني" و"التغريبي".
وقبل الحديث عن هذه الاتجاهات الثلاثة: "السلفي""العصراني""التغريبي" أذكر أن هناك اتجاهات أخرى بعضها تخرج عن إطار هذه الدراسة كالشيعة والباطنية، وبعضها له صله بالدراسة وهو الاتجاه الديني السائد أول العصر الحديث وهو "الكلامي- الصوفي"، فقد كان لأعلام هذا الاتجاه "الكلامي- الصوفي" شأن كبير في القرون الأخيرة ودعمته الدولة العثمانية، فضلًا عن تمركزه في جامعات المسلمين الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة وجامع الأمويين والقسطنطينية، ولاسيما الأزهر حاضرة المسلمين العلمية، وأعلام هذا
الاتجاه يمكن تصور موقفهم في ثلاثة مسارات: الأول: وهو الموقف السلبي، الذي آثر السكوت وعدم الانشغال بهذه المستجدات مع تفرغه للعلوم التي برع فيها بالتدريس والتأليف، وربما كان هذا حال جمهورهم، ومن يطّلع على وفيات الأعلام الذين ذكرهم الجبرتي، ويطلع على ما ذكر عنهم من نشاط وتأليف، يجد ابتعادها عن هذه المستجدات، وقد سبق الحديث عن بعض أحوالهم في أثناء الحديث عن دور الأزهر. والثاني: المائل إلى الموقف العصراني، وكان فيهم من تحوّل إلى رمز من رموزه بعد أن كان محسوبًا على القسم الأزهري المحافظ، وهؤلاء سيأتي الحديث عنهم وعن منهجهم. وأخيرًا: هناك مسار مهم لمجموعة من العلماء والفضلاء سلكوا طريقًا وسطًا داخل مذهبهم، فهم متمسكون بالمذهب الأشعري والتصوف مع دعوتهم إلى إزالة ما التصق بهما من انحرافات ولاسيما في باب التصوف، وهم مع ذلك أهل علم في العلوم الشرعية أو أحدها: كالتفسير أو الحديث أو الفقه وغيرها، وكان لهم مواقف حسنة من التحديث والعلوم الجديدة والحضارة الغربية، وفي هذا الموضع بالذات لم يكن بينهم وبين علماء الاتجاه السلفي خلاف، بل كانوا كالجيش المسلم الذي يختلف جنده أحيانًا في بعض تصوراتهم ولكنهم يتفقون على هدف يهدد كيان الأمة الإِسلامية، لهذا نشترك وإياهم في كثير من الخطوط حول الموقف من العلوم الجديدة ومناهجها ونظرياتها وإن كان هناك اختلاف في أبواب أخرى، ولاسيما فيما يتعلق بمذهبهم الكلامي والصوفي.
فإذا جاء لأحدهم موقف حسن من العلوم الحديثة يتفق مع موقف الاتجاه السلفي فإني أجعله ضمن الاتجاه السلفي في موقفه هذا مع بيان مذهبه الاعتقادي، ولاسيما أن مجموعة من متأخريهم قد وسعوا مصادر تلقيهم، فتجد أنهم قد عاشوا في بيئة "كلامية - صوفية" ثم اطلعوا على "السلفية" ومذهبها فتأثروا بذلك واستفادوا من أعلامها ولاسيما شيح الإِسلام ابن تيمية ومدرسته العظيمة، ومع ذلك لم يتخلصوا من كل مواد بيئتهم القديمة، لهذا أجد لنفسي العذر في وضع هذه الاجتهادات في إطار واحد وإن كانت تختلف في قوتها ومنزلتها، ويوجد في هذا الباب شخصية مميزة وغريبة، مما يجعلني أخصها بفقرة قبل الحديث عن الاتجاهات الثلاثة "السلفي - العصراني - التغريبي" وهو الشيخ "حسين الجسر".
مشروع الشيخ حسين الجسر:
يشكل دخول ثقافة أجنبية على ثقافة أمة تمرّ بمرحلة ضعف ظاهرة خطيرة لما في ذلك من تهديد لهويتها، وقد كان هذا حال أمتنا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر؛ فحركة الإصلاح والتجديد الديني التي ابتدأها الإمام المجدد محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله في القرن الثاني عشر قد حُوصرت، وحوربت، وقضي على تمثيلها الاجتماعي، وإن كانت تتسع على مستوى نخب المجتمع الإِسلامي عبر اقتناع علماء وفضلاء بها، فحُرمت دعوة الإصلاح والتجديد الديني من مواصلة نموها حتى تستعيد أمتنا قوتها وعافيتها. وفي أثناء ذلك حدث التدخل الثقافي الأجنبي "الغربي" الخطير إلى أمة تحاول أن تتعافى وتنطلق من جديد، وقد تسبب مجيء هذا التسرب الثقافي وقت محاولات النهوض في التفات البعض إلى هذا المُنتج الثقافي والأخذ به والتأثر بمواده وموضوعاته.
أصبحت المدارس المشهورة والصحافة الذائعة والمنتديات المهمة والجمعيات الخطيرة تتولى نشر هذه الأفكار الثقافية الأجنبية بسبب إدارة الأجنبي لها، ووصل الأمر إلى انتشار أفكار جديدة تتصل بأغلب الموضوعات الدينية يغلب عليها التلبيس وإثارة الشُبه. وإذا كانت الشُبه القديمة التي نشأت بسبب الاحتكاك بثقافات أجنبية قد عالجها علماء الإِسلام، فإن الفكر الغربي الحديث قد أوجد أشياء جديدة تحتاج -بعد أن انتشرت- إلى معالجات جديدة، وقد كان أخطرها ما يُدّعي ارتباطه بالعلم، حيث كانت هناك موضوعات ومسائل متناثرة نجدها هنا وهناك دون أن يمثلها تيار واضح كما حدث فيما بعد في القرن الرابع عشر/ العشرين، ولكنها كانت بمجموعها تمثل شكلًا جديدًا يشارك إن لم ينافس التصور العقدي عند المسلمين، ومن الطبيعي وجود علماء وفضلاء يحاولون الرد على تلك المسائل عندما يُستفتون أو يُسألون ولكنها كانت اجتهادات جزئية لم تتحول إلى مشروع متكامل، باستثناء ما قام به جمال الدين الأفغاني والشيخ محمَّد عبده في مواجهة المستجدات الفكرية، ولاسيما ما ارتبط منها بالعلم الحديث، ورغم مكانة الدور الذي قاما به فإنه بقي في باب العموميات، يبحث العلاقة بين الدين والعلم في العموم، بحيث يؤكد أن الإِسلام هو مع العلم فكيف يقال: إنه يتعارض معه! ويؤكد أن أمة الإِسلام هي أمة العلم، وأن الضعف الذي هي فيه لا علاقة له بما يثيره الغرب من أننا
أمة ضد العلم وإنما هو بأسباب سياسية واقتصادية وخارجية.
أما أول مشروع علمي وفكري إسلامي استوعب المشكلة ورصدها بكل أبعادها وحاول معالجتها في رؤية متكاملة فقد كان مع الشيخ "حسين الجسر"، أحد أبرز علماء الشام وفضلائها، الذي عاش مرحلة التحولات الكبيرة على المستوى الفكري والسياسي آنذاك (1261 - 1327 هـ -1845 - 1909 م) وأخرج في ذلك كتابيه المشهورين:"الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإِسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية" التي أتمها في رمضان (1306 هـ - 1887 م) و"الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية" جاء بعد السابق دون تاريخ.
جاء هذا المشروع قبل تميّز التيار التغريبي في جمعيات وأحزاب ومنظومة فكرية متكاملة من مفكرين وأفكار ووسائلهم التعبيرية وموضوعاتهم التي تمثل منهجهم ودعوتهم، كما أنه أول مشروع قدّمته الاتجاهات الدينية بمثل هذا الشمول، ولاسيما في أبواب العقائد وعلاقتها بالعلم الحديث، وحقق شهرة كبيرة لدرجة تصدّره ليكون المنهج العقدي في منظومة التعليم العثماني.
نجد في هذا النموذج لمشروع الجسر المحاولة الإِسلامية الأولى دون أن تتميز ملامح اتجاهها نحو أي مذهب من مذاهب المسلمين، مع أن صاحبها يكاد يكون موغلًا في التصوف وملتزمًا تمام الالتزام بالمذهب الأشعري، ومع ذلك فإن موقفه من العلم الحديث -وإن أثّرت في بعض مفاصله طريقته الصوفية ومذهبه الأشعري- فيه الكثير من العناصر التي تجعله ممثلًا للفكر الإِسلامي عمومًا في مقابل التغريب والفكر الوافد، وعنده مجموعة مهمة من الرؤى الاجتهادية التي لا اعتراض عليها عند المذاهب الأخرى، ولاسيما الاتجاه السلفي.
وبما أنه المبادرة الإِسلامية الأولى الشاملة فسأقف مع تفاصيلها المهمة: ما المشكلات التي وجدها انتشرت في الأمة الإِسلامية ضد الدين وتزعم علميتها؟ وما الطريقة التي عالج بها تلك المشكلات؟ لنخرج منها إلى التمايزات الواضحة بين ثلاثة مناهج جاءت بيّنة في القرن الرابع عشر الهجري.
يذكر الدكتور "فهمي جدعان" في دراسته الشهيرة عن "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" أن المشروعات الفكرية السابقة لمشروع "الجسر"، ولاسيما
"الأفغاني وعبده"، لم تكن قادرة على حل "مشكلة العلم الحديث" الذي غزانا الغرب به في عقر دارنا "لا في صورة منجزات مادية جزئية عجيبة وفعّالة -فهذا لا يجلب بادئ ذي بدء سوى الدهشة والإعجاب اللذين ما يلبثان أن يتبددا بأثر العادة والإلف- ولكن في صورة "نظريات علمية" لا تبعث على الدهشة فحسب، وإنما تبعث أيضًا على تعديل أو تغيير أو قلب "أنماط التفكير" و"طرائق النظر" لدى أولئك الذين تغزو هذه النظريات عقولهم"، إلى أن قال:"ولقد كان المفكر السوري حسين الجسر الطرابلسي. . . هو الذي تصدى لمجابهة العلم الحديث في صورة أشهر نظرياته في القرن التاسع عشر: النظرية "النشوئية" الدارونية"(1).
المؤهلات والآمال:
جاور الشيخ "الجسرُ" الأزهرَ سنوات، ثم عاد إلى طرابلس، وكان على مقربة من مدارس الإرساليات وعلى اطلاع بأحوالها، فكوّن بذلك رصيده العلمي الجامع بين العلوم الإِسلامية -حيث كان أحد أعلامها آنذاك- وبين العلوم العصرية عبر جهده الشخصي حيث كان قد حصل منها على ما يجعله قادرًا على فهم فوائدها وإدراك مشكلاتها، وعن ذلك يتحدث الشيخ "محمد رشيد رضا" عن شيخه "الجسر":"وتخرجت في العلوم العربية والشرعية العقلية على الشيخ حسين الجسر. وكان له إلمام واسع بالعلوم العصرية كما يعلم من كتابه "الرسالة الحميدية" (2)، وقد تفرغ للعلم وتعليمه وكان رأيه بحسب كلام رضا: "أن الأمة الإِسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية" (3)؛ ولذلك أسس مع آخرين "المدرسة الوطنية الإِسلامية وهي أرقى من المدرسة الرشدية وجميع التعليم فيها باللغة العربية إلا اللغتين التركية والفرنسية، وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية" وكان هو مديرها (4)، وكان يأمل من هذه المدرسة خروج جيل جديد قادر على النهضة بالأمة، ولكن المدرسة لم تلق الدعم من السلطنة، فأقفلت
(1) أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 214 - 215.
(2)
السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، أرسلان ص 39.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 36.
(4)
انظر: السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة ص 35.
وتفرق طلابها، ومنهم العلم البارز الشيخ "محمَّد رشيد رضا".
وقد كان يريد من هذه المدرسة تدريس العلوم النافعة بروح إسلامية، فلا يتخرج طلاب المدارس العصرية بروح معادية للدين، ولذا كان يرد على من يقول "بأن من يدخل هذه المدارس التي تدرس علوم الكائنات هذه "يخرجون بعد درسها ومعرفة أسسها مارقين من الدين الإِسلامي مروق السهم من الرمية"، فلا يرجع ذلك إلى دراسة هذه العلوم في ذاتها، وإنما إلى عدم وجود المرشد الذي يكشف في مظاهر الموجودات، عن علتها الحقيقية وعن مصدرها الفعال. فالذي يحدث هو أن تدريس هذه العلوم يناط بمعلمين يرددون القول: إن هذه المظاهر إما إلى الطبيعة أو إلى المادة وحركة أجزائها أو إلى النواميس نفسها وكفى. والذي ينبغي قوله هو أن هذه الأمور كلها ترتد إلى علة أولى أو إلى الله. أما ما ينبغي فعله فهو أن يقوم في المدارس معلمون أحكموا العلوم الدينية والعقلية والطبيعية على حد سواء. فهذا يمكن حفظ العقائد من الزيغ والفساد"(1). فهو يرى أهمية المدرسة العصرية ويلقي بالثقل على المعلمين، والحقيقة أن المشكلة أبعد من ذلك، فإن العلوم ذاتها تحتاج إلى إعادة تبيئة؛ لأننا قد لا نجد دائما ذاك المدرس المميز الذي يشترطه الشيخ، فكان من المهم أن تكون العلوم ذاتها متوافقة مع هُوِيَّة الأمة. ولكن المؤسف أنك تجد الشيخ، وكأنه يتحرك لوحده، فالمشروع ضخم، والآمال كبيرة، وفي المقابل التفاعل الإيجابي من قبل السلطة والمجتمع لم يكن في حجم الخطر ولا في حجم آمال الشيخ.
المشروع الفكري:
عند العودة إلى إنتاجه المهم في مشكلة العلاقة بين الدين والعلوم الحديثة في أحد كتابيه: "الحصون الحميدية" أو "الرسالة الحميدية" نكتشف صدى المشكلات التي انتشرت في زمنه من جراء اقتحام هذه العلوم ومناهجها ونظرياتها والمنظومة الفكرية العملاقة التي خلفها، كما نكتشف شجاعة الشيخ في مواجهة المشكلة بحسب الاستطاعة، وما قَدَّمه من رؤى حول كيفية العلاقة بهذه العلوم، ولاسيما ما انتشر في زمنه من اكتشافات علمية أو نظريات أو غيرها، وسألخصها في الفقرات الآتية:
(1) عن أسس التقدم عند مفكري الإسلام، جدعان ص 222 - 223.
1 -
الاستئناس بالعلم في توضيح العقيدة أو الدفاع عنها.
2 -
بناء منهج حول الموقف من النظريات بأداة كلامية أشعرية في الغالب.
3 -
مناقشة أشهر النظريات وشبهاتها.
1 -
الاستئناس بالعلم في توضيح العقيدة أو الدفاع عنها:
كان المعهود في الفكر الإِسلامي عند التأليف في العقائد أن تُذكر الأصول العقدية وأدلتها من الكتاب والسنة ومذهب السلف فيها، ويذكر ولاسيما لدى المتأخرين توضيحات عقلية تؤكد صحة هذا المعتقد وردود عقلية على النافين والمعطلين، وتبقى هذه العقليات أمورًا نظرية تتفتّق عنها أذهان العلماء وأرباب المذاهب، وبسبب انتشار "علم الكلام" فقد كان الكثير منها مبنيًّا على أصول عقلية اتفق عليها أرباب الكلام، وان كان لا يُسلّم لهم غيرهم بها، وقد تكشف مع الزمن عقم الكثير منها وضعفها، بل فساد عدد من أصولها، ولاسيما بعد نقد أهل السنة لها، وأجمع ما أنتجه أهل السنة من نقد لها في عصورهم الأخيرة هو الجهد الذي حققه شيخ الإِسلام ابن تيمية ونخبة من العلماء في القرن الثامن الهجري.
اختلف الحال في العصر الحديث، إذ أصبحت الشُبه الجديدة تدّعي ارتباطها بالعلم، فهي ليست تصورات عقلية لا يمكن تصورها إلا في ذهن صاحبها، ومن اتفق معه عليها، وإنما هي تصورات علمية عمدتها الملاحظة والتجريب والحس، يتفق عليها كل من لديه قدرة على ممارسة العلم والتأكد بنفسه، هكذا يُوهمون الناس، وقد استشعر الشيخ "الجسر" هذه المشكلة، مما يعني عدم الاكتفاء بذكر أدلة عقلية تؤيد العقائد أو عقلية تبطل كلام المخالفين، وإنما نحن في حاجة إلى أدلة علمية أيضًا تؤيد العقائد وأخرى تبطل كلام المنحرفين، وفي ذلك يقول الجسر بعد أن ذكر آثار الترجمة القديمة وظهور الشبه ورد العلماء عليها: "وقد استمر الحال على هذا المنوال، إلى أن ظهرت في هذه العصور الأخيرة الفلسفة الحديثة، التي خالف فيها أربابها طريقة أسلافهم الفلاسفة المتقدمين، واعتمدوا في ذلك أصولًا في الرياضيات والطبيعيات لم تكن تعرف قبل هذا الحين، وانتشرت هذه الفلسفة بواسطة المطبوعات بين أهل الإِسلام، ونشأت عنها شبه لم تكن معهودة في غابر الأعوام، وصار كل عاقل
يخشى على إيمان الضعفاء من غوائل هذه الشبه الجديدة، فتجدد الاحتياج إلى استئناف الردود السديدة، وتأليف كتب في حفظ الإيمان مفيدة" (1)، والجديد هنا أن أصحاب الشُبه الحديثة قد اعتمدوا على ثمرات العلم الحديث، ولاسيما الرياضيات والطبيعيات.
ومن بين الأمثلة التي توضح "المقصدين" عند الشيخ -أي: تقريب بعض مسائل العقيدة بأمثلة علمية، أو الرد على الشبه حول العقيدة أيضًا بأمثلة علمية- ما نجده في باب المعجزات، فإنه بالعودة إلى كتب العلماء قديمًا نجد أدلتهم والشبه التي عالجوها والردود التي ذكروها، ولكن مع الاختلاف الذي حدث أصبح الشيخ يبحث في العلم الحديث ما يؤكد أن الدين الذي ذكر "المعجزات" وآيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعارضه العلم، بل فيه ما يدلّ عليها، ولو من باب الأولى وبإمكانه وجوازه.
ومن المعجزات التي ذكرها "نبع الماء من الحجر" عندما ضربه موسى عليه السلام بعصاه بأمر الله تعالى، فإن كان منكرها ممن يؤمن بالله وتمام قدرته "فيكفيه لتصديق هذا الأمر أن يتصور أن نبع الماء من الحجر له طريقان جائزان:
الأول: "أن الله سبحانه يخلق ويبرز من العدم مقدارًا من الماء يكفي بني إسرائيل، ثم يجعل سبيل بروزه في مشاهدتهم من الحجر عندما يضربه موسى"، وربما الشيخ يعلم أن هذا التصور مما يرفضه أصحاب العلوم الحديثة المعلمنة، لذا انتقل إلى الثاني:
"أن يحول الله تعالى الهواء ماء، ويجعل سبيل بروزه في المشاهدة أيضًا من الحجر، وتحول الهواء ماء وعكسه هو من الأمور الجائزة التي دخلت تحت تصرف قدرة الكيماويين كما يعلم من فن الكيمياء، وفي هذا العام قدروا أن يحولوا الهواء سائلًا من السائلات، فما بالك بقدرة من خلق الكيماويين وجميع أعمالهم؟ "(2). فالشيخ هنا يُقرّب المعنى بهذا المثال، وإلا فهناك فرق بين المعجزة التي لا يستطيعها أحد من البشر، وبين عمل الكيمائيين في تحويل الغاز إلى سائل، فهو
(1) الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإِسلامية، الشيخ حسن الجسر ص 4.
(2)
الحصون الحميدية ص 58 - 59 مع تصرف يسير. وانظر: أمثلته الأخرى بقية الفصل الثاني من الباب الثاني.
يقرب للشكاك معنى تلك الآية معتمدًا على الاكتشافات العلمية الحديثة، وفي الوقت نفسه يرُدّ على الطاعنين عن طريق قياس الأولى والجواز العقلي.
ومن الملاحظ أن طريقة الشيخ هذه ستصبح أسلوبًا لبعض أهل التفاسير المعاصرة، فيستفيد أصحابها في أثناء تفسيرهم للآيات الكونية وعالم المخلوقات الواردة في القرآن من المستجدات العلمية من باب الاستئناس، وتقريب المعنى وتوضيحه، فمنهم الغالي في ذلك كالشيخ "طنطاوي جوهري" ومنهم المعتدل وهم الأكثر (1).
وقد كان الشيخ الجسر يعرض ذلك بحذر وحيطة وأحيانًا حتى في الأمور الواضحة، ويُحمد له من جانب؛ لأنه لم يتوسع التوسع المتسرع، ولكن قد يُؤخذ عليه توقفه في الأمور الواضحة، ومن ذلك ما نبّه إليه تلميذه البارز الشيخ "محمَّد رشيد رضا"، حيث ذكر أن شيخه سأله عن رأيه في "الرسالة الحميدية" قائلا له: إنه يعجبني من بين أولادي فهمك ورأيك، فقال "رضا":"إن الحاجة إليها لشديدة، ولم يسبق مولانا أحد إلى مثلها في الدفاع عن الإِسلام، ولكن لي عليها أنكم توردون المسألة القطعية في العلم ككروية الأرض ودورانها بعبارة فرضية تدل على شككم فيها. قال: أنت تعلم تعصب الجاهلين بهذه العلوم في بلادنا، فلا نترك لهم مجالًا للقيل والقال. قلت: إذا كان مثلكم في ثقة الأمة بدينه وعلمه لا يجرؤنا على التصريح بالحقائق فممن نرجو هذا؟ "(2). وقد تُضاف مشكلة أخرى تكبر مع الزمن هي نفس ما امتدح الشيخ "رضا" شيخه بها، وهي كون المشروع من منطق دفاعي، وهذا المنطق يُبقي صاحبه دائمًا في انتظار هجمات المهاجمين وهو فقط يدافع، فينشغل طوال العمر بالمدافعة، ومع ذلك فإننا وإن استشعرنا مأزق الدفاع، فإنه لا يمكن التهوين من فائدته وأهميته وحاجتنا إليه، بشرط أن لا يكون هو منطقنا السائد.
2 -
بناء منهج حول الموقف من النظريات بأداة كلامية أشعرية في الغالب:
أصعب عمل يواجه أي صاحب مشروع فكري هو تكوين منهج للتفسير أو
(1) انظر: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر، الفصل الثاني والثالث من الباب الثاني.
(2)
السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، أرسلان ص 45.
منهج لمعالجة مشكلات فكرية، وقد حاول الشيخ -بالاعتماد على تركة كلامية أشعرية في المقام الأول- بناء منهج يستفيد منه المسلم في فهم المسائل العلمية التي لها صلة بأبواب دينية، ولاسيما في الباب الذي يوهم التعارض مع الدين أو الطعن فيه.
يواجه الشيخ مشكلة واضحة أثارها أصحاب الأفكار الجديدة مع زعمهم أن العلم يؤيدهم في ذلك، وهي بارزة مع أصحاب المادية النشوئية: فهم يرون أن ما تضمنته الشريعة المحمدية "من بعث الإنسان بعد الموت ووجود دار للنعيم ودار للعذاب ووجود الملائكة والجن والسموات والعرش والكرسي واللوح والقلم وأفعال الملائكة العظيمة وأمثال ذلك. . . . أنه لا دليل عليها في علومهم. وما يبدو منها خارقًا للنواميس الطبيعية ترفضه هذه العلوم وتراه ممتنعًا"(1)؛ أي: إننا أمام قضايا اعتقادية لها حالان:
1 -
إما أنه لا دليل من العلوم عليها، مثل الأمور الغيبية.
2 -
أو أن الأدلة العلمية ضدها، مثل المعجزات والكرامات وما في بابها.
فإذا كانت هذه الحال قد انتشرت بين الناس وأثّرت في بعضهم، فإن المطلوب من العلماء تحقيقًا للواجب المناط بهم والمسؤولية الملقاة عليهم أن يعالجوا هذه المشكلة، وسيكون أمامهم:
أولًا، تذكير الناس أن العلم الحديث ليس الدليل الوحيد على الحقائق، فعلى افتراض أن العلم الحديث لم يدل على كثير من مسائل الغيب، فإن عدم دلالته عليها ليس دليلًا على عدمها، فإن الله سبحانه قد أرسل رسله وأنزل كتبه، وعلمنا علم اليقين صدقهم وأنهم من عند الله سبحانه، وأن ما جاءوا به هو الحق.
ثانيًا، وربما يكون الأخطر، وهو إزالة شبهة أن العلم ضد بعض المسائل والأصول الدينية.
وبالعودة لمنهج الشيخ الذي قدمه نجده يرجع لطريقتين: "الرد أو التوفيق"، "رد شبه عن نصوص شرعية تعتمد في الاعتقاد، أو التوفيق بينها وبين ما ثبت
(1) انظر: الرسالة الحميدية ص 148 ص 228 - 229.
بالدليل العقلي القاطع مما ينافى المعاني الظاهرة لتلك النصوص" (1)، فما كان شبهة فحقه الرد، وما كان حقيقة بدليل قاطع وخالف ظاهر النص فحقه التوفيق بينه وبين النص.
ليست مهمة الرد على الشبهات عملية هيّنة، فإن الشبهات قد اكتسبت في العصر الحديث من الزخارف ما يجعلها قوية الإقناع، قوية التغلغل، قوية التأثير، خطيرة الأثر. وليس المقصود بالرد هنا عدم قبولها أو تكذيبها فقط، وإنما المقصود قدرة الناقد على إثبات بطلانها في ذاتها، واقناع من تأثر بها بعدم صحتها، وإزالة الافتتان بها، بحيث يتحقق في الرد مجموعة مستويات "من تقرير المسألة بالدليل النقلي والعقلي، وإماطة ما يعرض من الشبه على المسألة، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المفازة"(2)، فمثل هذا الرد وبهذه المستويات يكون المشروع النقدي ذا قيمة وأثر، ولا شك أن الشيخ قد بذل جهده في مشروعه، أما حجم نجاحه في ذلك فيحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكنه قد حاول، ويبقى الأبرز في مشروع الشيخ هو الجانب الثاني منه، أي محاولة "التوفيق" في كثير من المسائل بين النصوص الشرعية أو العقائد الدينية وبين العلم الحديث، ولاسيما العلوم الطبيعية من ذلك وفيزياء وكيمياء وعلم الأرض وما في بابها مما عرف منها في زمانه.
معالم المنهج التوفيقي عند الجسر:
1 -
النصوص التي اعتمدها الشيخ هي الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية، وإن كان قد استثنى حديث "الآحاد" واعتمد "المتواتر" وإلى حدٍ ما "المشهور"(3). وفي هذا الجزء بالذات يرفض الاتجاه السلفي هذه القسمة الاصطلاحية إذا كانت ستؤدي إلى قبول أحاديث، وإبعاد أخرى بغير حق؛ أي: القسمة إلى متواتر وآحاد، فما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق إذا صح سواء كان
(1) الحصون الحميدية، الجسر ص 148.
(2)
مستفاد من كلام لشيخ الإِسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 517 - 518، وانظر: ص 269 و 276، بتحقيق حمد التويجري.
(3)
انظر: الحصون الحميدية ص 148.
متواترًا أم آحادًا (1).
2 -
"يجب عينًا -في كل نص- أن نعتمد معناه الظاهر المتبادر منه، ولا يسوغ لنا تأويله وصرفه إلى معنى آخر غير متبادر، إلا إذا قام دليل عقلي قطعي يناقض معناه الظاهر، فحينئذ يكون قيام ذلك الدليل العقلي قرينة دالة لنا على أن معناه الظاهر غير مراد للشارع، بل مراده معنى آخر غير ما يتبادر منه، فنؤول النص حينئذ، ونصرفه إلى معنى آخر غير الظاهر المتبادر على سبيل الاحتمال، يكون قابلًا له، وغير مناقض لذلك الدليل العقلي القطعي. هذه هى القاعدة الكلية في النصوص الشرعية التي اعتمدها أهل السنة والجماعة"(2). وهذا من أحسن مواقف الشيخ مع التنبه إلى أن كثيرًا مما ظنّه المفكرون دليلًا قطعيًا عقليًا قد لا يكون كذلك وإنما هو من الشُبه. وحتى في الأدلة العلمية الحديثة، فإن "العلم الحديث" لا يعترف بمبدأ الدلالة القطعية، والدلالة القطعية أقرب إلى المنهج الصوري الاستنباطي، أما المنهج التجريبي الاستقرائي القائم على جزئيات ونماذج، ثم تتحول إلى تعميم، وتبقى علمية ما لم يحدث ما ينقضها في مستقبل العلم. والسؤال هنا: من المؤهلون الذين سيحكمون أن الدليل المخالف لظاهر النص الشرعي هو قطعي الدلالة؟ وهي مهمة عسيرة، يأتي بعدها المؤهل لصرف اللفظ عن ظاهره، فإلى أي معنى يُصرف هذا اللفظ؟ ففي الآيات المتعلقة بالمخلوقات وللعلم الحديث مقال فيها: هل نصرفه إلى ما دلّ عليه العلم الحديث؟ فالقاعدة التي ذكرها الشيخ قاعدة مميزة، وإنما تظهر الصعوبات في حقيقة قدرتنا على تحديد "الدليل القطعي" المخالف لظاهر النص الشرعي، وإلى أي معنى نصرف اللفظ (3).
(1) انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية 2/ 526 وما بعدها، وانظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة. . .، سليمان الغصن 1/ 163 وما بعدها، وانظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، عثمان حسن 1/ 115 وما بعدها.
(2)
انظر: الحصون الحميدية ص 148 مع تصرف خفيف.
(3)
ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله أربعة شروط لصرف النص الشرعي عن ظاهره، انظر: الفتاوي 6/ 360 وما بعدها، وانظر: هذا المبحث عند الأصوليين، شرح مختصر الروضة 1/ 558 وما بعدها، تحقيق د. عبد المحسن التركي، وفي باب العقيدة، انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة .. ، د. سليمان الغصن 2/ 798 وما =
3 -
إذا قام دليل عقلي ظني -ويدخل فيه العلم الحديث كما هو واضح من أمثلة الشيخ- يعارض النص الشرعي، "فلا يكون ذلك داعيًا لترك الظاهر من معنى النص؛ لأن رفض الدليل الظني لا يوجب رفض العقل، لاحتمال أن هذا الظن باطل في نفس الأمر، فلا ضرورة تدفعنا إلى ترك المعنى الظاهر من النص، فاتباع الدليل الظني وترك ظواهر النصوص يوجب اختباطًا واختلاطًا في الاعتقاد لا يحد، فإن الظنون كثيرة، والاعتقاد في الشرائع وإنما يعتمد فيه اليقين، فكان الصواب أن يتمسك بظواهر النصوص اليقينية الورود، ولا يتحول عنها لمجرد الظنون"(1).
4 -
التحذير من إحسان الظن مطلقًا في علماء العلوم الحديثة وتقليدهم: فبعد أن بيّن وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين أحكام اتباع العلماء وتقليدهم (2)، انتقل بعدها لبيان خطأ تقليد علماء العلوم الحديثة فيما له علاقة بأمور الدين فقال:"فمن هنا يظهر لك خطأ بعض أهل هذا العصر في تقليد فلان الفلكي أو فلان الجغرافي أو فلان الجيولوجي المشهورين في فنونهم في بعض مسائل ربما تكون مخالفة لظواهر نصوص الشريعة التي تعتمد في الاعتقاد"، وبيّن خطورة ذلك فقال:"فهذا الحال ربما يوقع هؤلاء المقلدين في الخروج عن الدين -والعياذ بالله تعالى وهم لا يشعرون".
ثم بين سبب وقوعهم في هذا التقليد المذموم فقال: "والذي يوقع أولئك المقلدين في تقليد فلاسفة هذا الزمان في تلك المسائل هو أنهم نظروا لهم أدلة في بعض مسائل فنونهم يقينية قطعية كأدلتهم في المسائل الحسابية والهندسية وبعض التجريبيات الطبيعية المحسوسة، فاغتروا بهم وأوقعهم الوهم في اعتقاد أن كل ما يقوله أولئك الفلاسفة صواب يقيني الثبوت، وأنهم لا يعتمدون في أدلتهم في جميع فنونهم إلا على اليقين".
وأجاب عن ذلك فقال: "ولم يدروا أنه يوجد فرق بين أدلة المسائل الحسابية، وما ذكر معها، وبين أدلة كثير من المسائل الفلكية مثلًا؛ بأن تلك
= بعدها. وانظر: دعوى التعارض من هذا البحث: الباب الثالث، الفصل الأول.
(1)
الحصون الحميدية ص 149 مع بعض التصرف.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 150 - 151.
يقينية وهذه قد يوجد بينها كثير من الظنون والتخمينات، وقياس الغائب على الشاهد الذي قد يكون في نفس الأمر قياسًا فاسدًا" (1)، وهو يُحيل إلى ما هو سائد في المناهج العلمية المعاصرة، أن العلوم التجريبية رغم ضخامة الثمار الناتجة عنها وكثرة الحقائق التي تحويها؛ فإنها نسبية لا تصل إلى الحقائق المطلقة، وهذا في الثابت منها فكيف بغير ذلك ولاسيما بعد ظهور "النظرية النسبية" وأثرها على العلم والمناهج (2). ورغم هذا الاتفاق إلا أن الروح المادية الطاغية على طائفة من صانعي العلم الحديث أو الملتفين حوله، تجعلهم يقدمون هذا العلم بصورته النسبية على الحقائق الدينية، مع أن العلم يقبل الملاحظة والتجريب ودخول المختبر، أما الدين وحقائقه فلا نستطيع التأكد منها بمثل ما نتأكد به من المسائل المحسوسة التي يشتغل عليها العلم، وهذا يعني أن العلم يحتاج إلى مظلة جديدة غير تلك المظلة المادية التي أفسدت علاقته بالدين.
وانتقل الشيخ بعد جوابه عن شبهة الاغترار بهذه العلوم وأهلها قياسًا على القطعي منها إلى شبهة أخرى، يرددها المقلِّدون لأرباب العلوم الحديثة، وهي دعوى أن هذه المسائل العلمية مجمع عليها عند أهلها، وأجاب الشيخ بجوابين:
1 -
أن المسلم مأمور بتقليد إجماع واحد هو إجماع علماء الإِسلام لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يجمعون على ضلالة.
2 -
أن إجماع علماء علم من العلوم قد يكون مبنيًا على دليل ظني، وهذا لا يفيد عصمة إجماعهم من الخطأ.
وذكر نموذجًا لإجماع علماء الفلك قرونًا طويلة على النظرية القديمة، وكم ألفوا فيها من الكتب، وكم دونوا من الأصول والقواعد، وكم صوروا صور الأفلاك، وذكروا لها من الأحكام الطويلة العريضة، فجاء المتأخرون وأبطلوا كل ذلك من أصله، وصار بينهم يُعدّ خرافة من خرافات البشر، وقد كان فيهم من هو مصدق بتلك النظرية، وأنها الحق المطلق ويستحيل عندهم وجود غيرها، وعلى هذا فلابد من تحرير حقيقة ذلك الإجماع، هل هو واقع في المسألة المقصودة،
(1) المرجع السابق ص 151.
(2)
انظر: الفصل الأول من هذا البحث.
وهل هو قائم على دليل قطعي أم على دليل تجريبي ظني، فإذا تحقق مثل هذا وغيره، عند ذلك نبحث عن المعالجة (1).
5 -
ليس من مقاصد الشريعة بيان عالم المخلوقات على طرائق العلوم:
"فالشريعة المحمدية بل وسائر الشرائع إنما يقصد منها بيان ما يرشد الخلق إلى معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلى كيفية عبادته وأداء شكره، وإلى الأحكام التي توصلهم إلى انتظام المعاش وحسن المعاد.
أما تعريف الخلق بمباحث العلوم الكونية من كيفية خلق العالم، وما هي النواميس القائمة في السموات أو في الأرض وأمثال ذلك، فليس شيء من نحو هذا من مقاصد الشرائع، بل هذه المباحث هي معارف تتوصل الناس إليها بعقولهم، فربما ينتفعون بها في دنياهم وربما يكون حظهم فيها مجرد الاطلاع. . . . نعم قد تذكر الشريعة شيئًا منها مجملًا على قدر ما يكون له دخل في مقاصدها الأصلية" (2).
وفي هذا تنبيه لطيف من الشيخ -وقد سبقه إلى ذلك علماء- إلى الانتباه لمقصد النصوص الشرعية إن ورد فيها شيء من أبواب العلوم، فليس المقصد أن تتحول إلى كتاب في الرياضيات أو الفيزياء أو الفلك، فهذه قد تركها الرب سبحانه لتحصيل البشر ونشاطهم العقلي، وما يُذكر فيه من نصوص لها دلالة بهذه العلوم فمقصدها الأساسي ديني. ومما يستفاد من الكلام السابق أن الانشغال بإيجاد تفسيرات علمية للنصوص الشرعية والغلو في ذلك يخالف مقاصد النصوص ذاتها، كما أن ادعاء المتأثرين بالشبهات -المرتبطة بالتطورات العلمية- ربما كان منبعها أنهم نظروا في النصوص وفهموها بحسب ما تمليه الفلسفات المرتبطة بحركة العلم الحديث، فحكّموا فيها النشاط البشري، فوقعوا في حيرة، بينما النص لم يكن من مقصده كما هو الظاهر من كلام طائفة من أهل العلم أن يكون نصًا في هذه العلوم مباشرة (3).
(1) انظر: الحصون الحميدية .. ص 151 - 153 ما بين المعقوفتين إضافة من الباحث.
(2)
انظر: الحصون الحميدية ص 153.
(3)
انظر حول هذا الموضوع البحث القيم: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر.
3 -
مناقشته لأشهر النظريات وشبهاتها حول الدين "الرد أو التوفيق":
بعد أن تحدد المنهج في الأصول المذكورة في الفقرة السابقة جاء دور المناقشة للنظريات والاكتشافات العلمية التي يظهر منها مخالفة لظاهر النص أو لظاهر المعتقد، وليس بالوسع إعطاء تقويم لكل ما قدّمه الشيخ، على أنه لا يُسلّم له بكل ما وصل إليه. إلا أن الفرق واضح بين عصر المؤلف أول القرن الرابع عشر وعصرنا بداية الربع الثاني من القرن الخامس عشر الهجري، فاليوم هناك عشرات العلماء من المسلمين في فنون العلوم المختلفة الحديثة، وهناك إلى جانبهم الجامعات الكثيرة وأساتذتها من المتخصصين في العلوم الشرعية أو العلوم العصرية، وهذا يُسهل الأمر إن وجدت عزيمة وهمة لمعالجة الوضع، ومع هذه الكثرة فإن مشروعات الأمة في مواجهة هذه التحديات ما زالت ضعيفة ودون الأمل. أما في عصر الشيخ فمن النادر أن تجد العالم بالشرع العارف في الوقت نفسه بعلوم عصره وشبهاتها ومشاكلها، ويتجاوز الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي فيجتهد في رفع الشبه ويقرّب المسائل بلغة يفهمها من وقع بين فكي تلك الشبهات، وإنها لمحاولة صعبة وضخمة وشاقة تلك التي قام بها الشيخ لمن تذكّر إمكانيات عصره وتحدياته.
لقد مرّ الشيخ وهو يعرض لمجمل العقيدة على أغلب ما أثاره العلم الذي عُرف في زمنه، وناقش كل ذلك مدركًا حدود الإمكانيات ومدركًا الصعوبات، وقد كان لذلك أثره في نفوس المطلعين على مشروعه من ناحية الانتفاع والرد على المخالفين باعتماد كلامه.
ظهر العلم الحديث بوضوح في مشروع الشيخ الجسر، وقد أخذ ثلاثة مظاهر: الأول، في أثناء عرضه لبعض موضوعات العقيدة حيث كان يقربها للأذهان ببعض الأمثلة العلمية، وهذا يعني أن العلم يخدم الدين ولا يتعارض معه، والمظهر الثاني يأخذ طابع الرد على من جعل بعض ما يفهم من موضوعات العلم الحديث ضد الدين، والمظهر الثالث عبر سعيه للتوفيق بين ما ظهر منه التعارض بين ظاهر النصوص والقطعي من العلم الحديث.
فمن النوع الأول مثلًا تقريب خروج الماء من الحجر في معجزة النبي موسى عليه السلام بما اكتشف عند أهل الكيمياء من تحويل الغاز إلى سائل (1). ونجد
(1) انظر: الحصون الحميدية ص 58 - 59.
تقريبه إلى الأذهان حدث رفع جبل الطور بما كشفه العلماء المحدثون من قانون الجاذبية الذي هو أقرب تفسير علمي لحركة الكواكب والنجوم، فالله الخالق لهذا الناموس قادر على خلق مثله يرتفع به جبل الطور، فإنّ حمل هذه الكواكب الضخمة في هذا الفراغ أعظم من رفع جبل (1). وتقريب حدث ظهور الدم في الماء ضمن الآيات التي جعلها الله سبحانه لموسى عليه السلام مع فرعون وقومه بما كشفه العلماء المحدثون من حيوانات مجهرية، ربما هي تحولت إلى دم بأمر الله سبحانه، وهكذا (2). مع تنبيه الشيخ إلى أن المؤمن بالله سبحانه وبكمال قدرته يُسلّم بكل ما جاء به الوحي من هذه الآيات، ولكن الكلام مع من أثّرت فيهم الشبهات، فيريد تقريب ما استغربته عقولهم واشتبهت فيه بأمثلة جاء بها العلم، وهو نفسه الذي يعتمدون عليه في الإنكار.
أما الثاني في باب الرد فيكتفي الشيخ أن ما جاؤوا به مسائل ظنية، ولا يجوز تقديم الظني على ظاهر النصوص (3).
وأما الثالث: في باب التوفيق -وهو الأكثر حضورًا في مشروع الشيخ-، فهو يشعر بثقة الناس في العلوم الحديثة ثقة عمياء، وأن من سيكذبها لابد أن يثبت بطلانها بدليل منها، وليس بدليل خارج عنها، فالقوم لا يقبلون أن يُرد عليها مثلًا بأقوال لعلماء في الشريعة، ولكن أيضًا لا يوجد في المسلمين من عنده قدرة على إثبات بطلان ما يُشتَبه فيه من هذه العلوم من داخلها، فلا يوجد لدينا علماء كبار في هذه العلوم يستطيعون مجاراة أهلها، فيردون عليها إن كانت خاطئة. وبما أن الشيخ لا يستطيع إثبات بطلانها من دائرتها الخاصة فما بقي له إلا وضعها في دائرة الاحتمال، على طريقة: إن كانت صحيحة فالجواب كذا وكذا، مع أن الأولى البقاء مع ظاهر النص، هكذا يردد الشيخ.
أكثر ما نجده في هذا الباب هو ما له صلة بعلم الفلك ونظريته الحديثة، فإن القرآن الكريم يتحدث كثيرًا عن هذا الباب، وهو باب ظهرت له علوم مستقلة
(1) انظر: المرجع السابق ص 60 - 61.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 16.
(3)
من ذلك مثلًا موقفه من النظرية الدارونية ولاسيّما في مسألة وجود آدم عليه السلام. انظر: المرجع السابق ص 178 - 180، وهي أوسع في الرسالة الحميدية، فهي غالب القسم الرابع (الإيمان والعلم)، ولاسيّما ص 228 - 286.
في الفكر الحديث، وقد ظهر فيها مسائل كثيرة استغلها "الماديون" في التكذيب بالدين ووقعت من نفوس الكثير موقعًا خطيرًا، ولذا جاء دور العلماء في ردّها وبيان الحق فيها بحيث لا يُترك أي طريق لأهل الشُبه.
ولست هنا في موضع التقويم لاجتهادات الشيخ، وإنما المقصود اكتشاف أول صورة متكاملة لعرض المشكلة وطريقة المعالجة، والتوقف مع المنهج فقط.
فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12]، حيث ذكر أن من أهل العلم من قال إنها مركوزة في السماء، بينما نجد في العلوم الحديثة أنها في فضاء متماسكة بقانون الجاذبية، فيقول: إن ذلك "جائز عقلًا داخل تحت تصرف قدرة الله تعالى، ويكون ذلك الناموس من جملة الأسباب العادية التي وضعها الله في الأكوان، فإذا قام لنا الدليل العقلي القاطع على قيام تلك الكواكب في الفضاء كما يقولون: نتأول النص الذي ظاهره أن الكواكب مركوزة في السماء وهو قوله -تعالى-: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} بأنه من المحتمل أن يكون مراده تعالى بكونها زينة، أنها زينتها بحسب مرأى الرائين وإن كانت تحتها- كما قال بذلك جملة من علماء الإِسلام. . . ."(1). وكما سبق فليس المقصود الوقوف مع ما ذُكر من تفسير للآية، فقد يكون التفسير الراجح مما لا علاقة له بما ورد من مسألة القول بأنها مركوزة، وإنما المقصود بيان المنهج، والأمثلة التي حاول الشيخ معالجتها.
ومن الأمثلة أيضًا: هل السماء مرئية كما هو ظاهر النص، أم هي غير مرئية كما هو السائد في العلوم الحديثة، على أن الماديين منهم ينكرونها. والسبع الأراضين على افتراض صحة الأثر المنسوب لابن عباس رضي الله عنه بوجود سبع أراضين، فهل هي سبع؟ أم أن المقصود سبع طبقات أو قارات على قول مفسرين؟، وبهذا يرتفع التعارض المتوهم مع العلوم الحديثة. والمثال الأكثر طرافة هو حول "كروية الأرض"، ففي قوله -تعالى-:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات: 30]، فهناك من قال إن المعنى أنها مبسوطة غير كروية، حيث ذكر أن مذهب جمهور العلماء على أنها مبسوطة، وقال بعضهم إنها كروية (2)،
(1) الحصون الحميدية ص 158.
(2)
انظر: الحصون الحميدية ص 156.
ومما قال: "وأما قول هؤلاء الفلكيين: إن الأرض كرة فبعد إقامتهم لنا الدليل العقلي القاطع الدالّ على كرويتها لا مانع لنا من القول به، ويمكن تأويل النص الذي ظاهره أنها مبسوطة، كقوله -تعالى-: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} بأن جعل سطحها صالحًا للسكنى. . . ."(1)، مع أن الأخير هو تفسير السلف، وهو ما يوضحه السياق حيث ذكر الرب سبحانه بعدها قوله:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} [النازعات: 31](2)، وهنا يظهر ثقل التركة "الكلامية - الصوفية" على الشيخ حتى في الأمور البينة، وهذا ما أخذه عليه تلميذه الشيخ "محمد رشيد رضا" كما سبق.
وتوقف الشيخ في بعض المواضع حول مسألة حركة الشمس، فظاهر النصوص أن الشمس هي التي تدور حول الأرض بخلاف النظرية الفلكية الحديثة، فهل هناك تعارض؟ وأجاب عن ذلك جوابه (3)، وقريبًا من ذلك جوابه عن غروب الشمس في عينٍ حمئة (4). لقد حاول جمع كل ما له علاقة بالنظرية الفلكية الحديثة وأجاب عنها بجواب إجمالي (5) لا يخرج عن القواعد التي قد أصلها.
ملحوظات حول مشروع الشيخ الجسر:
سبق بعض الأمثلة من مشروع الشيخ الجسر، وأختم ببعض الملحوظات حول هذا المشروع المهم:
قد يقع الخلاف مع الشيخ حول ما قدّمه من معالجات، ولكن الذي لا خلاف حوله بأن الشيخ قد استوعب مشكلة العلوم الحديثة عندما دخلت إلى العالم الإِسلامي، واستوعب خطورة التوظيفات السلبية والخطيرة التي قام بها المتغربون وأمثالهم للعلم الحديث في نقض الدين، وأنه رغم ثقل التركة "الكلامية - الصوفية" عليه إلا أنه كان مع ذلك معتدلًا في موقفه من هذا الباب على الأقل؛ حيث وافق -بحسب ما أرى والعلم عند الله- الحق في أكثر مواقفه
(1) المرجع السابق ص 159.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير ص 1395 - 1396.
(3)
انظر: الحصون الحميدية، الجسر ص 156، 160.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 164.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 156 - 158.
من هذا الباب، أما التطبيق وأمثلته فذاك موطن الاجتهادات التي يصيب فيها العالم ويخطئ، ولكن هناك ملحوظات تتأكد هنا وأهمها ما يأتي:
1 -
يلاحظ الباحث في منهج الشيخ تعظيمه النصوص بشكل لا لبس فيه، ولكن يكدر على هذا التعظيم موقفه من حديث "الآحاد" الذي لا يتماشى مع ما نلاحظه من تعظيم الشيخ للنصوص.
2 -
اكتفاء الشيخ بالمرجعية "الأشعرية" مع أنه كان عليه أن يعتمد على الاتجاه السلفي من أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، لما لهم من جهود هائلة في هذه الأبواب، ويستفيد من جهود الآخرين.
3 -
مشكلتا "التجويز والسببية". فهي عند الشيخ تؤثر في مشروعه سلبًا، فقد اتسع "التجويز" عنده على طريقة مذهب المتكلمين، وهذا ما يرفضه أهل العلوم في أثناء المجادلة؛ فإنه عند المجادلة لهم إن قالوا له: إن العلم لا يؤيد هذا الأمر، أجابهم: وما المانع؟ فإن ذلك جائز في التصور العقلي. وهم لا يقبلون إلا بالجائز علميًا، فالجائز العقلي لا يمكن تصور طريقة لملاحظته أو إخضاعه للتجريب ولو في الزمن القادم مع تطور العلم، أما الجائز علميًا فهو قد يكون اليوم في حكم المستحيل لصعوبته، ولكن عند العلماء أمل مع تطور الأجهزة والأدوات والعلوم أن نتأكد من صحته.
أما "السببية" فيظهر تأثر الشيخ بمذهبه "الكلامي - الصوفي" في نفيها، مع أنها عمدة في العلم الحديث، فالعلم لا يمكن قيامه في غياب مفهوم العلة والاطراد والسببية، فهو في أثناء حديثه مثلًا عن المعجزة التي كانت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام من عدم احتراقه بالنار العظيمة، وهو مثال يجتمع فيه رأيه في الجواز والسببية، فيقول:"فمن يكن مؤمنًا بوجود الإله القادر، ويعتقد أن النار لا تحرق بطبعها، ولا بقوة أودعت فيها، بل إحراقها هو بخلق الله تعالى، وعدم إحراقها من الجائزات العقلية الداخلة تحت تصرف الإله سبحانه، وإن كان ذلك خلاف العادة، فلا مانع يمنعه من تجويز وقوع هذه المعجزة،. . . ."، إلى أن قال:"النار ليست محرقة بطبعها بل يخلق الله تعالى الإحراق عندما تمس شيئًا قابلًا للاحتراق. . . ."(1). وهذا الموقف من السببية عند الشيخ نرفضه نحن أهل
(1) الحصون الحميدية ص 63، وانظر: رأيه في السببية قبل ذلك ص 52 - 55.
السنة، فإن الله سبحانه قد خلق هذه الأسباب وهو الخالق لآثارها، وهي مؤثرة بما جعل الله فيها من قوة (1)، ومن المؤكد أن الموقف الخاطئ من السببية سيكون له آثاره التصورية، وقد بلغت درجة من الانحراف مع غلاة الصوفية وأمثالهم في نفي الأسباب الشرعية والكونية. كما أن لذلك أثره في إضعاف الموقف من العلوم الحديثة، فإن أي مُنكرٍ للسببية سيكون موقفه ضعيفًا أمام العلوم الحديثة، مع أن الفكر الحديث قد ظهر فيه مثل هذا المذهب كما عرف عن المشكلة التي أثارها "ديفيد هيوم" حول السببية (2).
4 -
مشكلة منهج التوفيق. فمع الاحتياطات الواضحة عند الشيخ، إلا أن هناك نقاطًا غامضة هي موطن ضعف في هذا المنهج، فهو لم ينجرف مع طريقة المتكلمين في القول بأنه إذا تعارض العقل والنقل قُدم العقل، وإنما هو يقول: إذا ثبت التعارض مع ظاهر النص ويكرر دائمًا "الظاهر" بدليل قطعي، عندها يجوز التأويل بشروطه. فمن الواضح أن الشيخ أكثر اعتدالًا من سلفه المتكلمين، ومع ذلك نجده أحيانًا يقول بأنه يجب التأويل حتى لا نطعن في الأصل الذي عرفنا به النقل وهو العقل، وسيأتي لهذه الإشكالية عرض مستقل بإذن الله.
5 -
إذا سلّمنا بالأهمية لمشروع الشيخ في العلاقة بين الدين والعلم ورياديته المعاصرة، فإننا نختلف معه جذريًا في مذهبه "الكلامي - الصوفي"(3)، حيث عرض العقيدة في كتبه على الطريقة الكلامية، وهو مخالف لمذهب أهل السنة. كما أنه يوغل في المسائل التي لها علاقة بالتصوف دون تحفظ، مما يدفع المتأمل في مشروعه إلى الاستغراب من هذا التناقص عند الشيخ: إذ كيف تجتمع العقلانية باللاعقلانية، وكيف يجتمع مثل هذا الإقرار بالعلم مع بعض الخرافات الصوفية، قطعًا إن وقوع الشيخ في هذه المآزق يشوه مشروعه ويضعف من قيمته.
(1) انظر: الكلام السابق في هذا الفصل عن موقف شيخ الإِسلام ابن تيمية من هذا الموضوع.
(2)
انظر مثلًا: نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب محمود ص 284 وما بعدها.
(3)
أربط بين الاتجاهين: الكلامي والصوفي، وذلك أن أغلب المتأخرين، في هذه المرحلة، يخلطون بين المنهجين، فيكون في معتقده على طريقة المتكلمين، ويكون في مسلكه متبعًا لإحدى الطرق الصوفية، وإلا فالعادة هو الحديث عن أهل الكلام لوحدهم، وأهل التصوف لوحدهم.
ولولا ما أُمرنا به من العدل والاعتراف بالفضل لأهله لتجاهلنا هذا المشروع بسبب هذا التناقص، ولكن الشيخ قام بما لم يقم به غيره، فاستحق فيما أحسن أن نقول: إنه أحسن فيه، والله أعلم وبعباده أرحم.
وخلاصة التمهيد أن لبعض الاتجاهات المعاصرة جذورها المنهجية في كتابات العلماء، ولاسيما السلفي والتوفيقي، أما المنهج التغريبي فهو وإن اعتمد في بداياته أو مع بعض مفكريه على الجذور الداخلية إلا أنه غلب على غلاتهم -وهم الأكثر- الانتماء للجذور الغربية، وهي جذور ظهرت بوضوح في أسباب الانحراف بالعلم في الفصلين الثاني والرابع.
وبعد أن عرفنا هذه المكونات المنهجية ينطلق البحث الآن مع الاتجاهات الثلاثة البارزة في العصر الحديث، يرصد منهجها ورؤيتها ومواقفها البارزة من العلم الحديث مع محاولة كشف العلاقة التي بينها والنتائج التي وصلوا إليها، وهي الاتجاه السلفي، والاتجاه العصراني، والاتجاه التغريبي.