الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدأت محاولته في مصر ولم تنجح وكذا في عهد السلطان عبد الحميد، ثم بعد انقلاب الاتحاديين تحمس لعرض المشروع على وزارتهم قبل أن تنكشف حقيقتهم للعالم الإسلامي، ثم عاد إلى مصر -بعد عام كامل من المحاولات داخل إستانبول فشلت في النهاية- عاد إليها، وتفاجأ بقبول الحكومة لمشروعه فبدأ فيه (1)، ولا شك أن هذه المقاومة من قبل السلطة لفتح مدارس نافعة تدلّ على عمق الأزمة وخطورتها.
دار الدعوة والإرشاد والمشاريع الجديدة:
أسس الشيخ "محمد رضا" وبعض فضلاء عصره "جماعة الدعوة والإرشاد" وكان أهم مقاصدها إنشاء "دار الدعوة والإرشاد" مدرسةً أو كلية من أجل تخريج علماء قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، كانت مدتها ست سنوات، ووضعت مناهجها، وقد كان يجمع فيها بين العلوم الإسلامية والعلوم العصرية، وافتتحت رسميًا سنة (1912 م)، وبعد معاناة تتصاعد يومًا بعد يوم توقفت تلك المدرسة، ولاسيّما مع دخول مصر أحداث الحرب العالمية الأولى، وقد حاول بعد ذلك إعادتها ولم يتيسر له (2).
عرض الشيخ العلوم والفنون التى ستدرس في "دار الدعوة والإرشاد"، والأهم من ذلك طريقة تدريس كل علم منها، فالمواد أكثرها مما هو معلوم في الأزهر، ولكن الطريقة التى ستعرض بها والروح التي تتخللها مختلفة، كما أن هناك شروطًا تحدد نوعية الطالب وأخرى تحدد الأستاذ، واهتم الشيخ بأن تُدرَّس بعيدًا عن المذهبية المتعصبة والتعقيد في الألفاظ أو المعاني، فهناك: "التجويد، والتفسير، والحديث، وأصول الحديث والمصطلح، والتوحيد، والكلام، والفقه، والفرائض، وحكمة التشريع، وأصول الفقه، وعلم الأخلاق والتصوف والتربية العلمية والعملية، وعلم الإرشاد والدعوة والدعاة والمرشدون، وتاريخ الإسلام ودوله، والتاريخ العام قديمه وحديثه وتاريخ الأديان، والملل والنحل والجمعيات الدينية، وتقويم البلدان. .، وحفظ الصحة، والاقتصاد -أو- تدبير الثروة،
(1) انظر حول المدرسة: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، د. أحمد الشوابكة ص 119 - 123.
(2)
انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 123 - 128.
وأصول القوانين وحقوق الدولة وضروب النظام، والمنطق، والمناظرة وآداب البحث، وعلم النفس والحكمة العقلية، وعلم سنن الاجتماع، وعلوم سنن الكائنات في المواليد وسائر الموجودات والعلوم الرياضية، واللغة العربية وفنونها وتاريخ آدابها، وفقه اللغة ومفرداتها وأساليبها، والنحو والصرف والعروض، والمعاني والبيان والبديع، والإنشاء والشعر والخطابة، وآداب اللغة العربية وتاريخها، والمطالعة والحفظ، والإملاء والخط والرسم، واللغات" (1).
ومن الملاحظ بأن أغلب المواد هي مما يدرس في الأزهر وغيره إلا أن طريقة عرضها تختلف إلى حد ما عما هو معهود، ونعرض مثالًا على ذلك إحدى المواد (1) وهي مادة التفسير (2)، فقد قسمها الشيخ إلى ثلاثة أقسام:
قسم يؤخذ في جميع سنين الدراسة بحيث يتم التفسير فيه "على طريقة الوعظ والخطابة بلغة فصيحة"، فهو يفيد الطالب لذاته ويمكنه أيضًا من إيصال معاني الآيات إلى الناس.
والقسم الثاني لصنف المرشدين: يأخذون التفسير كاملًا باختصار وسهولة، مع اجتناب اصطلاحات العلوم والفنون العربية والشرعية، ويتوخى فيه فهم الآيات كما يعطيه أسلوب اللغة، ويفسر القرآن بعضه ببعض ويصحح المأثور "وينبه فيه على أجوبة الشبهات عن بعض الآيات التي يعترض عليها المبطلون، أو يشتبه فيها الجاهلون من غير شرح للشبهة، بحيث إذا أوردت على الطالب يفطن لجوابها وإلا بقي غافلًا عنها"، ولا شك أن هذه الطريقة مفيدة في تركيزها على إدراك معنى الآيات بعيدًا عن كل ما ألحق بها مع إدراك بعض الأجوبة المساعدة للمتعلم للرد على أصحاب الشبهات أو إجابة صاحب الاشتباه.
والقسم الثالث لصنف الدعاة: فيقرأ فيها "تفسير الآيات التي ترد عليها الشبهات، ويجادل فيها الكافرون أو أصحاب المقالات، مع شرح الشبهات المتعلقة بالعلوم الكونية والفلسفة والتاريخ والقوانين ومجادلة أهل الأديان، والجواب عنها بطريق المناظرة" وفيه الجديد عما هو معهود في زمن الشيخ؛ لأنه
(1) انظر: مجلة المنار: "العلوم والفنون التي تدرس في دار الدعوة والإرشاد وطريقة تدريس كل علم منها في قسم الدعاة والمرشدين)، المجلد 14/ 801 سنة (1329 هـ -1911 م).
(2)
انظر: المرجع السابق.
انتبه لمشكلات عصره وآثارِها على عقليات المثقفين والمتعلمين، ولاسيّما تلك المتعلقة بالعلوم والفلسفة والاجتماعيات، وإن كان قد أُخذ على هذه الطريقة فيما بعد أنها تضعنا عادة في موقف الدفاع، وهي طريقة تجاوزها الفكر الإسلامي فيما بعد إلى اتخاذ طريقة الهجوم وربما القسم الأخير يؤدي إليها:
ففي هذا القسم يُقرأ تفسير "الآيات الدالة على ما امتاز به الإسلام على جميع الأديان، وبيان حقائق العلوم التي لم تكن معروفة في زمن التنزيل، ولاسيّما للعرب سواء كان ذلك في علوم الكون أو علوم الاجتماع والشرائع والآداب"، فقد أدخل في هذا القسم عرض حقائق العلوم التي كشفها البشر وهداهم الله إليها ومع ذلك فنجد في الآيات ما يدل عليها، أو بيان عدم وجود التعارض بين الحقائق الشرعية وحقائق العلوم المختلفة، ولكن ليس على سبيل التنظير بالقواعد بل عبر التطبيق العملي، ولا شك أن الشيخ كان يستحضر أزمة عصره وزمنه على تلك العقول الحائرة التي لم تجد جوابًا في تعليم الأزهر، وفي الوقت نفسه تزلزلهم تلك المدارس المختلفة التي لا تعتني بالدين، بل كما يقول الشيخ عنها:"يدخلها الطالب بدين ويخرج منها بدين".
نجد هذا واضحًا أيضًا في (2) الكلام (1) وهو العلم الذي يقصد به الشيخ "علم حماية العقائد الإِسلامية والدفاع عنها ورد ما يورده الملاحدة والمبتدعة من الشبهات عليها والتحريف فيها، بالدلائل الحقيقية، والإلزامية وقد تجدد في هذا العصر شبهات لم تكن معروفة في عصر المتكلمين السابقين، وبطل كثير من تلك الشبهات التي كانت رائجة في عصرهم، المستنبطة من العلوم اليونانية وغيرها، فتجب العناية في هذا العلم بما يحتاج في هذا الزمن على الطريقة التي ترجى فائدتها فيه".
ثم ذكر الجزء المخصص للدعاة فقال: "يتوسع لهذا الصنف في رد
(1) انظر: مجلة المنار، المجلد 14/ 801 سنة (1329 هـ -1911 م)، ويلاحظ هنا أنه فصل بين علم التوحيد وعلم الكلام، والشيخ كأكثر أهل عصره يعتبر "علم الكلام" مادة أساسية، إلا أن الشيخ عرض هذا العلم بصورة جديدة تجعله أقرب إلى نقد المذاهب المخالفة، كما أن تأثره فيما بعد بمنهج شيخ الإسلام ابن تيمية جعله يبتعد عن سلبيات علم الكلام، ولم يسلم من ملاحظات بيّنها تامر متولي في بحثه:(منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة)، وانظر: السيد رشيد رضا. . . .، أرسلان ص 37.
الشبهات المتولدة من العلوم الرائجة في هذا العصر؛ كالفلسفة والهيئة والتاريخ والقوانين أو غيرها على النحو الذي ذكر في الكلام على التفسير".
وكذا الحال في مادة (3) حكمة التشريع، وهي مادة ذات فكرة مميزة في عصرنا لكثرة ما أثاره المبطلون من شبهات حول الشريعة.
وكذا في تقويم البلدان والأهداف المرجوة من تعلمها، أو حفظ الصحة أو الاقتصاد أو القانون والعلاقات الدولية، فكلها مما له أهمية في عصرنا، ولاسيّما لعلماء الأمة والمتصدرين لقيادتها.
وكذا انتباهه لصياغة إسلامية لعلمي النفس والاجتماع وكذا لعلمي الرياضة والطبيعيات، وإدخال كل ذلك ضمن مواد الدراسة حتى تصاغ في "دائرة ثقافة إسلامية بعد تصفيتها من أوشال الثقافة الغربية.
كما اهتم الشيخ باللغة كونها أداة من أهم أدوات التعلم وبإصلاحها يتم إصلاح التعلم؛ ولذا نجد كثافة في مواد اللغة والأدب، وكذا لغة القطر الذي سيذهب إليه الداعية، وكذا تعلم اللغات الأوروبية.
فنحن أمام أول مشروع تعليمي ضخم في وقته، وكان يمكن أن يواصل مشواره ويتحسن مع الأيام ويكمل نقصه ويصحح خطأه، ولكن هذا المشروع حُوصر وحرم من النجاح (1) بخلاف الدعم الذي تجده مدارس المنصرين والمتغربين، لدرجة أنه في فترة من الفترات أنفق الوالي المسلم على مدارسهم ما حيّر كُتّاب التاريخ كما رأينا في بعض الحالات المزرية من تاريخنا المعاصر في الفصل السابق، بينما نجد المدارس الإِسلامية تُحرم من أجواء النجاح وشروط البقاء كمدرسة الشيخ الجسر في الشام أو مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا في مصر (2).
(1) انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 125 - 127.
(2)
لقد تخرج من هذه الكلية التي لم يتجاوز عمرها السنين الخمس نخبة كان لهم دورهم وأثرهم في القرن الرابع عشر، فكان منهم الشيخ "أمين الحسيني" القيادة الدينية والسياسية المشهورة في فلسطين، والشيخ "يوسف ياسين" المستشار للملك عبد العزيز، والعامل في كثير من المهام التي أنيطت به في عهده، ومنهم الشيخ "عبد الرزاق المليح" في الهند، عمل في الصحافة وله مؤلفات، [انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 127، وانظر: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، تامر محمد ص 91]، والشيخ "محمد حامد الفقي" مؤسس الجماعة المشهورة في مصر وهي جماعة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أنصار السنة المحمدية [وهي جماعة مشهورة في مصر والسودان وغيرهما، وكان لأصحابها دور كبير في نشر السنة ومواجهة البدع، وقد شارك أفاضل أعضائها في النهضة العلمية للملكة العربية السعودية ومنهم مؤسسها الشيخ "محمد حامد الفقي"، والشيخ "عبد الرزاق عفيفي" الذي درس بدار التوحيد -الطائف، ومعهد عنيزة ودرَسَ عليه الشيخ محمد بن صالح العثيمين بعض المواد، ثم درّس بمعهد الرياض ثم مشاركته بتأسيس كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض وتدريسه فيهما، وشارك في إعداد مناهج المعهد العالي للقضاء وإدارته والتدريس فيه، ثم تولى منصب نائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، واختير عضوًا في هيئة كبار العلماء إلى غير ذلك من أعماله، وممن تولى رئاستها الشيخ "عبد الرحمن الوكيل" وعمل أستاذًا للعقيدة بقسم الدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة إلى وفاته، وكذا الشيخ "محمد خليل هراس" الذي كان نائبًا لرئيس الجماعة في فترة من فتراتها ثم درّس بنفس الكلية السابقة، وأنشأ فرع العقيدة بقسم الدراسات العليا وترأسه إلى وفاته، ومن أعلامها الشيخ المحدث "أحمد محمد شاكر" وقد كان من شيوخه الشيخ "محمد رشيد رضا" وإن لم يدخل معهده، صاحب المؤلفات والتحقيقات المعروفة عند طلاب العلم، وكان من أعلام الجماعة الشيخ "محمد عبد الظاهر أبو السمح" وهو ممن درّس التجويد في معهد الشيخ محمد رشيد رضا وتعلم منه في الوقت نفسه، ثم أصبح إمامًا وخطيبًا ومدرسًا بالمسجد الحرام وأسس دار الحديث بمكة على غرار دار الدعوة والإرشاد للشيخ محمد رشيد رضا، ومنهم الشيخ "محمد علي بن علي عبد الرحيم" الذي دَرَس في معهد الشيخ محمد رشيد ولازمه إلى وفاته ثم أصبح عضوًا في جماعة أنصار السنة المحمدية وترأسها فترة، وكان من المصاحبين للشيخ عبد الرزاق عفيفي في المشاركة ببناء نهضة بلدنا العلمية فشارك في تأسيس المدارس والمناهج، ومما عرف عنه اهتمامه بعلم الجغرافيا وكان نابغًا فيها حتى قيل: إنه فاق المتخصصين فيها، فعمل في السعودية ما يقرب من ثلاثة وعشرين عامًا]، [نظرًا لأثر الشيخ محمد رشيد في أغلب مؤسسي أنصار الجماعة وكون بعضهم ممن درس في دار الدعوة والإرشاد، فقد عرضت أشهر شخصياتهم في مصر من خلال الدراسة الجميلة عن هذه الجماعة للدكتور أحمد الطاهر، جماعة أنصار السنة المحمدية. . . . ص 157 - 293]، وكان من مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا أيضًا الشيخ "محمد بهجت البيطار" السوري وعند زيارته لمكة سنة (1345 هـ) استبقاه الملك عبد العزيز وجعله مديرًا للمعهد العلمي السعودي ثم ولاه القضاء ثم استعفى منه، فواصل التدريس في الحرم، ثم دُعي لإنشاء دار التوحيد بالطائف وبقي سنين في السعودية، وكان عارفًا باللغة الفرنسية مع إجادته للعربية فضلًا عن العلوم الشرعية، [انظر: منهج الشيخ محمد رشيد في العقيدة ص 91، وانظر: علماء الشام في القرن العشرين. . . .، محمد الناصر ص 166]، والشيخ "محمد عبد الرزاق حمزة" الذي أصبح من أئمة الحرم المكي فيما بعد، وغيرهم، [انظر: المرجع السابق، منهج. . . . ص 91 - 92].
وقد كان كل واحد من طلاب هذه المدرسة التي لم يتجاوز عمرها أربع سنوات إمامًا في مجاله ورمزًا وعلمًا في الباب الذي عمل فيه، فكيف لو استمرت هذه الكلية وتطورت وقويت! وكيف لو كان مثل هذا المشروع عامًا في كل بلد مسلم وليس مشروع رجل واحد!
يوصلنا هذا المبحث إلى نتيجة حزينة، فالمؤسسات العلمية الإسلامية لم تنجح في مواجهة التحدي العلمي الحضاري، فما كان منها في نقاط الاحتكاك بالوافد الأوروبي لم يستطع عرض مشروع النجاة وقيادة الحركة العلمية نحو شاطئ الأمان، وكان الأزهر أعظم معاهد المسلمين في العصور الأخيرة وأمل المسلمين ولكنه ضعف -أو أُضعف بالأصح- عن تحقيق أثره، وتأخر حتى جاء من يفرض عليه وعلى غيره ما لا يريده، بل وضعت المؤسسات العلمية المنافسة وأصبح لها الصدارة في المجتمعات المعاصرة، وما أعظمها من خسارة خسرها العالم الإِسلامي عندما نشأ التعليم الحديث بعيدًا عن المؤسسات التاريخية الإسلامية العريقة، وقد ضاعف من المأساة أن مراكز معاهد المسلمين التاريخية صُدمت باحتلال بلدانها لتدخل في صراع ديني وثقافي وعلمي رهيب مع سياسة المستعمر الذي كان من أهدافه تحطيم هذه المؤسسات، وعندما خرج المستعمر كان المؤمل أن تسترجع تلك المؤسسات العلمية مكانتها التاريخية ولكن العالم الإسلامي وقع فريسة تجارب لسياسات تغريبية كان من أبرز ضحاياها مؤسسات التعليم الإسلامية. كما أن التجارب اليتيمة لإيجاد تعليم يلبي حاجة الأمة ويعيد لها شيئًا من كرامتها تمت محاصرته وإضعاف شروط بقائه فوُئِد سريعًا.
ومع ذلك فهناك محاولات جادة عبر الجامعات الإسلامية المعاصرة لتجاوز آثار تلك المرحلة التاريخية الحرجة، من جهة التأصيل الإسلامي للعلوم العصرية أو من جهة العناية بها وهي وإن كانت في أول الطريق، إلا أن الأمل معقود بها وبأهلها لتحقق لنا الإصلاح المنشود والاستقلال العلمي والمعرفي.