الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخفى، وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان" إلى أن قال:"فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه؛ لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم"(1)، وأعاد ضعف المسلمين إلى وجود طائفة منهم من ضعاف العقول صدّقوا مقولة التناقض بين الدين والتقدم، كما أن فيهم من تنكّر للدين فعوقب بالضعف والرق للكفار (2).
2 - الموقف من العلوم الدنيوية وكيف نحولها إلى أشرف العلوم:
بعد أن بيّن الشيخ أن القرآن قد دلنا على كل خير في الدين والدنيا، ورد على شبهة ترد هنا أو هناك تقول: إن الدين والتقدم يتعارضان ولا يلتقيان، نأتي إلى الموقف الصريح من العلوم الحديثة الموجودة في الحضارة الغربية، إذ هي المقصود بالكلام، وهي الأمر الجديد في تاريخ الفكر الإنساني الحديث.
من بين المواطن التي توقف فيها الشيخ لبيان الموقف من هذه العلوم ما قاله عند تفسيره لآيتين وهما:
قول الرب سبحانه وتعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا} [مريم: 78 - 79]، وقوله سبحانه وتعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، ومثلها قوله سبحانه وتعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29 - 30].
[الآية الأولى] قوله -تعالى-: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا} :
ذكر الشيخ "الشنقيطي" رحمه الله أن هذه الآية تحوي على دليل منهجي مهم أسماه "الدليل العظيم"(3)، وهو المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل، وقد جعل الشيخ من هذا الدليل أداة لبيان الموقف من أمور كثيرة، ولكن أهم ما يضربه من أمثلة ويتوسع في ذكره، هو الموقف من الحضارة الغربية. فلنعرف أولًا حقيقة هذا الدليل:
(1) أضواء البيان 3/ 438.
(2)
انظر: المرجع السابق 3/ 439.
(3)
انظر: أضواء البيان 4/ 365.
قال الشيخ: "وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين:
أحدهما: حصر أوصاف المحل بطريق الحصر. . . .
والثاني: هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها، وإبقاء ما هو صحيح منها" (1). وذكر الشيخ صوره في القرآن الكريم، وذكر أن "المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أهم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين" (2)، ثم عرّف باستعماله عند كل طرف من الأطراف الثلاثة (3)، وواصل الشيخ توضيح منزلة هذا الدليل إلى أن بلغ المسألة السادسة التي لها علاقة بالبحث:
دلالة "الدليل العظيم - السبر والتقسيم" على "الموقف من الحضارة الغربية":
قال الشيخ رحمه الله: "اعلم أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين الطبيعي من الحضارة الغربية، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار، والحسن من القبيح، والحق من الباطل. وذلك أن الاستقراء التام القطعي دلّ على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار:
أما النافع منها -فهو من الناحية المادية، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه. وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني". وهو اعتراف من الشيخ لا ينقصه الصراحة، وهو موقف كل عاقل فضلًا عن عالم من علماء الإِسلام. "أما الضار منها -فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه. وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكمية في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة،
(1) المرجع السابق 4/ 365.
(2)
انظر: المرجع السابق 4/ 367 - 368، وما بين القوسين ص 368.
(3)
انظر: المرجع السابق 4/ 369 - 377.
ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته". وهذا الإهمال نشأ داخل أوروبا والغرب عمومًا بعد أن أخذت بالخيار العلماني القائم على تأسيس الحياة الدنيوية بعيدًا عن الدين، ولذا "فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاسًا كليًا من الناحية الثانية. ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم، وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن .. " (1).
وإذا كان الاستقراء قد دلنا على الحقائق السابقة، بأن الحضارة الغربية فيها النافع الذي له أهميته لحياتنا الدنيوية، وفيها الضار النابع من إهمالها للتربية الروحية المعتمدة على الوحي، فلننظر إلى دليل السبر والتقسيم معها:
أولًا: يحصر التقسيم الموقف من تلك الحضارة في أربعة أقسام:
ترك الحضارة الغربية نافعها وضارها.
أخذها كلها، نافعها وضارها.
أخذ ضارها وترك نافعها.
أخذ نافعها وترك ضارها (2).
ثانيًا: ننتقل إلى السبر لهذه المواقف الأربعة، فنجد ثلاثة باطلة دون شك، وواحد صحيح دون شك، ونبدأ بالثلاثة الباطلة:
فتركها كليًا باطل؛ "لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم، والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله -جل وعلا-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. . . . الآية. . . ."(3).
وأخذها بكل ما فيها، فليس من العقل ولا من الدين القبول بهذا الموقف، ولاسيما مع إهمالها جانب الدين وتمردها على نظام السماء (4).
أخذ الضار وترك والنافع، وإن كان هذا غير متصور كما ذكر الشيخ، ولا يفعله من له أقلّ تمييز (5)، إلا أن واقع الحال يدل أن هناك فئات جعلت همها
(1) انظر: أضواء البيان 4/ 381 - 382 وما هو خارج الأقواس تعليق من الباحث.
(2)
المرجع السابق 4/ 382.
(3)
أضواء البيان 4/ 382.
(4)
المرجع السابق 4/ 382.
(5)
المرجع السابق 4/ 383.
تقليد الغرب في الضار أو ما لا نفع فيه، وكم نسمع اليوم عن من يقلد الغرب في أساليب الأكل والشرب واللباس والجمال، بل وكثير من المحرمات، وإذا نقبت في حاله وطلبت ما قلدهم فيه من النافع فلا تجد شيئًا، حصر همه في تقليدهم في المتع المباحة والمحرمة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله خلفهم تصديقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "(1).
يبقى الموقف الرابع وهو الذي يحتاج إلى جهد كبير من الأمة؛ لأنه يحتاج إلى ما هو أوسع من الكلام وأشق، فليس في سهولة المواقف السابقة، فالأول لم يفعل صاحبه شيئًا سوى حرمان نفسه من النافع خوفًا من الضار، والثاني استسلم لضغط الحضارة فأخذها بخيرها وشرّها، كان ضعيفًا فلم يستطع الاختيار، والثالث أحقرها حالًا، إذ قلد في متع الحياة وشهواتها، وهو وإن كان مما تلتذ به أنفس أقوام فما ذاك من طبع الأمم القوية، فلذتها في النافع والمفيد من علوم ومعارف وليس في الفنون والمتع وأبوابها، لم يقل الشيخ هذا الكلام ولكن كلامه يفيد ذلك.
ذكر الشيخ بعض الأدلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل كل الخير لهذه الأمة ومنبع علومها -أخذ من علوم الأمم حوله فكيف بحال أمته، ومن الأمثلة على ذلك:
أ- فمن العلوم العسكرية للفرس أخذ خطة حفر الخندق.
ب- ومن العلوم الطبية لفارس والروم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم جواز وطء المرضع بعد أن أُخبر أنهم يفعلون ولا يضر أولادهم، وقد همّ صلى الله عليه وسلم بالمنع، وغيرها (2).
والنتيجة أنه يتضح "من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية -هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية،
(1) في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، البخاري برقم (7320)، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وعند مسلم، برقم (2669)، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى.
(2)
أضواء البيان 4/ 383.
ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون -جل وعلا- فتصلح لهم الدنيا والآخرة" (1).
[الآية الثانية]: قوله -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]: يزيد الشيخ هذا المعنى توضيحًا في تفسيره لآية أخرى، وهي قوله -تعالى-:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، حيث هي تصف حال الكفار المعرضين عن دين الله سبحانه إذا برعوا في علوم الحياة الدنيا، فما موقفنا نحن المسلمين من ذلك؟
وقف الشيخ وقفه خاصة مع هذه الآية، حيث أعقبها بتنبيه وصدّره بـ"اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان: أن يتدبر آية الروم هذه تدبرًا كثيرًا، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس" (2). ومن بين أهم ما ذكره رحمه الله ما يأتي:
1 -
أهمية معالجة الهزيمة النفسية الخطيرة التى أصابت بعض المسلمين:
حيث ذكر أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلي بها ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فتوهموا أنهم على حق وأن من ضعف عن ذلك، فهو متخلّف وليس على الحق.
فجاء علاجها في هذه الآية الكريمة، ففيها "إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها، أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه"(3). ولا شك أن معالجة الهزيمة النفسية تسبق في الأهمية طلب النافع من العلوم الدنيوية؛ لأن من طلبها من حضارة أخرى وهو يعاني هزيمة نفسية، انساق وأخذ النافع والضار إن لم يترك النافع ويكتفي بالضار.
2 -
التحذير من الغفلة عن حقيقة الحياة الدنيا:
"ففي قوله -تعالى-: {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا،
(1) المرجع السابق 4/ 383.
(2)
أضواء البيان 6/ 477.
(3)
المرجع السابق 6/ 477.
فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة" (1).
ولكن إذا كانت هذه العلوم التي برعوا فيها هي من ظاهر الدنيا فهل نهملها، لكونها من ظاهر الدنيا وكونها من علوم الكفار؟
فكان جواب الشيخ الشنقيطي هو إيجاب تعلمها، بل تحويلها إلى علوم من أشرف ما يتعلمه المسلم، فيقول الشيخ رحمه الله:"واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية. . . . وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته -جل وعلا-، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن كما قال -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالًا لأمر الله تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة"(2).
وسيأتي جيل لاحق لمشروع الشيخ رحمه الله من طلابه وطلاب طلابه يحوّلون دعوة الشيخ إلى مشروع حضاري أوسع، فإن تحويلها إلى علوم "من أشرف العلم وأنفعها" كما قال الشيخ يحتاج إلى جهد كبير: نظري وعملي، حتى يتحقق لنا كل ما دعا إليه الشيخ، من الحرص على التقدم والحث على طلب العلوم الدنيوية ولو كانت عند الكفار، وأصبح المشروع الحضاري الإِسلامي للاتجاه السلفي وغيره من الاتجاهات الإِسلامية هو الدعوة إلى أسلمة العلوم والتأصيل الإِسلامي لها، كل علم بحسبه.
(1) المرجع السابق 6/ 478.
(2)
أضواء البيان 6/ 479.