الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لذلك منهجيًا ديكارت وبيكون وطبقه نيوتن مع تجديده للمنهج. يقول راسل: "وفي ميدان الفلك قدم -نيوتن- التفسير النهائي الذي كان كوبرنيكوس وكبلر قد اتخذا الخطوات الأولى في سبيله، وهو القانون العام للجاذبية، الذي ينص على أن هناك، بين أي جزأين من المادة، قوّة جذب تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتهما وتتناسب عكسيًا مع مربع المسافة بينهما"(1)، وأصبح ممكنًا تفسير حركة الكواكب وأقمارها والمذنبات، وكأن المفتاح الرياضي للكون قد اكتشف (2)، وحُلّ أحد الأسئلة الشائكة في تلك المرحلة حول السرّ في كون هذه الكواكب تسير مثلًا حول الشمس بما انقدح في عقله من فكرة الجاذبية بقانونها الرياضي.
قدّم نيوتن نظريته حول الجاذبية في مرحلة كانت هناك نظرية أخرى تفسيرية معتمدة في أوروبا، وهي ما اصطلح عليه بدوامات ديكارت (3) وخلاصتها: أنه تخيل كل جسم وكأنه ترس دائري يحتك بجسم آخر، وأن العالم كله بهذه الصورة، وعندما يتحرك فهي حركة تلك التروس، وكل واحد يؤثر في الآخر في حركة دائمة، وعندما عرضت نظرية نيوتن في الجاذبية ضد دوامات ديكارت لم يكن من السهولة تقبلها، وبقيت زمنًا تكافح نظرية ديكارت، وتمكنت فيما بعد من علم الفلك والفيزياء الكونية الحديثة.
أ- كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية
":
يُعد الكتاب بحسب الموسوعة العربية العالمية "من أعظم الإسهامات الفردية في تاريخ العلوم. وكان أول كتاب يحوي النظم الموحدة للمبادئ العلمية التي تشرح ما يحدث على الأرض وفي السماء"(4)، يتألف من ثلاثة أجزاء، عرض في الجزأين الأولين "علم الميكانيك" وبناها على ثلاثة قوانين (5)، ما
(1) حكمة الغرب، راسل، ترجمة فؤاد زكريا ص 56، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271 وانظر: الموسوعة العربية العالمية 17/ 483، 25/ 545.
(2)
انظر: حكمة الغرب، راسل ص 56 - 57.
(3)
انظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 133.
(4)
الموسوعة العربية العالمية، 25/ 546 وانظر: كتب غيرت الفكر الإنساني ص 165 - 176، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 270 - 271، وانظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 110 وما بعدها.
(5)
انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 270، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 149.
زالت معتمدة حتى اليوم، أشبه بقواعد النحو في اللغة، فهي قوانين لحركة الأجسام التي على الأرض أو في الكون، مع العلم بأن الفيزياء المعاصرة قد كشفت أجسامًا جديدة لم تنطبق عليها هذه القوانين وهي الذرة وما في باطنها من جسيمات ليتفرغ لها علم آخر فيما بعد الكم - الكوانتم. وقد جمع نيوتن بين قوانينه الثلاثة وقوانين كبلر في حركة الأجرام السماوية الثلاثة أيضًا ليخرج بنظريته الجديدة عن الجاذبية (1). وخصص الجزء الثالث وهو أهمها "لعرض نظريته في نظام الكون وهو نظام طبق فيه القوانين التي توصل إليها في الجزأين الأول والثاني، على مجموعة المشاكل التي كانت تناقشها فلسفة الطبيعة، واضعًا حدًا نهائيًا للتفسيرات الميتافيزيقية والافتراضات التي لا تقوم على أساس من التجربة، مجتهدًا في إرجاع مختلف ظواهر الطبيعة إلى مبدأين اثنين: المادة والحركة، فاكتسبت بذلك النزعة الميكانيكية سيطرة عامة في مختلف المجالات"(2)، وأيدت اكتشافاته المذهب الآلي الميكانيكي (3).
ويظهر توجه جديد دوّنه نيوتن في منهجه المقترح وأصبح سمة لنظرية المعرفة عند علماء أوروبا وهو الحرص على الملاحظة والتجربة والتعبير عنها بصيغ رياضية وجبرية، وما سوى ذلك فلا يلتفت إليه، حتى وإن وُجدت حوله تساؤلات ما دام أنه لا يمكن التأكد منه رياضيًا وتجريبيًا، وذلك تبعًا لـ "نظرية المعرفة" الجديدة، القائمة على مصدرية العقل والحس والتجربة، في الرياضيات والطبيعة، وإبعاد ما سوى ذلك من مصادر؛ كالمصادر الدينية والنظريات الميتافيزيقية واللاهوتية.
وقد يوجد بعض العذر لعلماء أوروبا باكتفائهم بالعقل والحس والتجربة وبتشككهم في مصادرهم الدينية واللاهوتية؛ وذلك لما تحويه الأخيرة من تناقضات توحي أو تؤكد بعدم مناسبتها للمجالات العلمية، ومع ذلك فإن الاكتفاء بمصدرية الحس والعقل قد فتح أبوابًا لمن جاء بعد هذا الجيل من العلماء لإنكار
(1) انظر: الطريق إلى المريخ، سعد شعبان ص 30 - 33، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271.
(2)
مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271، وانظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 115.
(3)
انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 154.
ما لم ينكره السابقون؛ بل قيام بعض المتأخرين منهم بالدعوة إلى الإلحاد تحت مظلة العلم مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، وغلب ذلك على علماء القرن التاسع عشر (12 - 13 هـ) وما بعده.
وهنا يظهر فرق مهم بين نيوتن ومن قبله من علماء أوروبا وبين العلماء الذين أتوا بعده حول قضية النظريات والقوانين والتفسيرات العلمية، فبينما كان الأمر عندهم يقف عند حدّ الاكتفاء بحدود ما يمكن التأكد منه بالملاحظة والتجربة، نجده عند اللاحقين لا يقف عند هذا الحدّ بل يضاف إلى ذلك منع التفسيرات الأخرى وتجريمها؛ لأنها ميتافيزيقية غيبية. وكان ممكنًا التفريق بين النظريات والتفسيرات التي مصدرها البشر، فهنا يُطالبون بالدليل والبرهان، قال -تعالى-:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وبين تفسيرات لها بعض الدلائل في الوحي، فهذه الأخيرة إذا صحت وكان معناها صريحًا كَفت في الموضوع، ولا يمنع ذلك وجود أسباب طبيعية لتلك الظواهر أوجدها الرب سبحانه في مخلوقاته. فلو فسر مجموعة من العلماء طريقة سقوط المطر طُولبوا بأدلتهم وبراهينهم، وإن جاء من يخبرنا بأن الله هو الذي ينزل المطر وأن ذلك من فضله وكرمه على البشر والكائنات الحية وجب قبوله ما دام ذلك واردًا في الوحي، أو أثبت بالوحي أن لله سبحانه ملائكة مخصصة بالمطر وجب قبوله، وهذا المعتقد لا يمنع وجود الأسباب المادية التي يلاحظها العلماء في دورة الماء ويعبرون عنها بمعادلات وقوانين؛ فإن الله سبحانه قد جعل لكل شيء سببًا، عرفه من عرفه وجهله من جهله، والسبب الذي نراه ونلاحظه لا يكفي لوحده، وإلا لاعترض معترض فقال: لماذا هذا المطر جاء بهذه الكمية فقط، في هذا المكان بعينه، في هذا الوقت بعينه، بهذه الصور المعينة؟ فهذا السؤال لا يستطيعون الإجابة عليه بما يذكرونه من تفسيرات ونظريات. ولو كابر مكابر كما فعل "لابلاس" (1) وقال: إن لذلك قانونًا معينًا لو كشفته لأخبرتك أنه سينزل هنا بهذه الكمية، فإنه سيقال له أيضًا: ولماذا كان هذا القانون بهذه الصورة؟
فهذا المثال يوضح الفرق بين موقف نيوتن، ومن قبله من العلماء، وهو
(1) انظر كلامه في: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 151، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 221.
التفسير بالملاحظة والتجربة والاكتفاء بها بوصفها مُعطىً ظاهرًا، والسكوت عما سوى ذلك، وعدم قبوله في التفسير إلا إذا أمكن التأكد منه، ولكن لا يعني هذا الموقف العلمي الرفض المطلق لوجود أسباب أعلى، وإنما يقولون: ليس ميدانها التجربة والحس والملاحظة.
وهو موقف فيه جزء من الصواب من وجهة دينية بحسب نظري؛ فإنه في بابه يبحث في تخصصه ويحاول اكتشاف مثل هذه الظواهر والتعبير عنها بنظريات وقوانين، ويكتفي بذلك؛ لأنه إن نفى ما سواها فهو غير عالم بما نفاه، وإن قبله فقد يقبل ما ليس بصواب، أما عند من حفظ الله لهم كتابهم، وعندهم من الله سبحانه البرهان والفرقان والميزان، فإنهم يزنون هذه الأمور بذلك الميزان فما كان صوابًا فهو كذلك، وما كان معارضًا لما عندهم علموا بطلانه، وما كان مسكوتًا عنه، فإن كان لهم حاجة في بحثه وتحريره قاموا بذلك، فلا يوجد ما يمنع ذلك.
ولأن البيئة التي كان فيها نيوتن تتجه نحو اللادينية والعلمنة، فقد جاء بعده من رفض هذا الاكتفاء أو السكوت، ومنع أي تفسير لا يمكن تجربته، بل اتخذ هذا النظام -الآلي للكون الذي صاغه نيوتن- ذريعة للإلحاد في نهايات القرن الثامن عشر (12 هـ) وما بعده.
والعجيب أننا نجد حتى في العالم الإسلامي من ينساق خلف هذه المنهجية؛ أي: منهجية الاكتفاء ومنع ما لا يمكن تجربته، حتى تلك التي يمكن تفسيرها دينيًا ويقرّ بها كل أهل الأديان فضلًا عن أهل الإسلام. وفي هذا الباب ما نجده عند أحد الرموز الفكرية العربية المعاصرة حول نظرية الجاذبية، حيث يقول:"وعلى الرغم من أن نيوتن يتمسك بفكرة الجذب كمعطى تجريبي، فإنه لم يتردد في إقحام الميتافيزيقا في تفسير طبيعة الجاذبية نفسها، وهنا يبدو الوجه الآخر من شخصية نيوتن"، وذلك أن من بين ما أثارته نظرية الجاذبية: هل الجاذبية خاصية ذاتية للمادة مثل الصلابة وغيرها أم أنها خارجة عنها؟ فكان رأي "نيوتن""منساقًا مع هذا الطرح الميتافيزيقي للمسألة كما يقول الجابري" بأن الله سبحانه عندما خلق المادة، خلقها بصفاتها من الامتداد والحركة الشيء الذي نتج عنه عالم يسير سيرًا ميكانيكيًا، وحتى يبقى العالم كما هو عليه فعلًا، "أضاف الله إلى هذه الطبيعة الميكانيكية للعالم، خاصية جديدة، بموجبها تنجذب الأشياء إلى