الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع ذاته وهي تلك المتعلقة بالعلم، وكان أبرزها:"نقاد العلم" في المقام الأول، ثم "الوضعية الجديدة" بداية بـ "ماخ" أو مع أصحاب حلقة فيينّا وما خرج عنها تحت مسمى "الوضعية المنطقة". وفي مقابل هؤلاء تأتي "العقلانية العلمية الجديدة" ذات روح مثالية، وتأتي مذاهب "العمل والحياة" المعاصرة.
لقد شكلت كل هذه الاتجاهات موقفًا جديدًا حول طبيعة النظرية العلمية أو المعرفة العلمية، وحدودها، نقف فيما يأتي على أهم ما أثارته حول العلم ونظرياته.
1 - نقاد العلم:
لم تخل الساحة الفكرية الغربية من نقاد العلم؛ إلا أنهم كانوا فيما مضى من خارج دائرة العلم، وأما الجديد هنا فهو ظهور مجموعة من نقاد العلم من العلماء، أو ممن لهم صلة قوية بالعلم ولديهم معرفة جيدة به. ومما يُلحظ بأن هذه المجموعة عُرفت أولًا في فرنسا وبعضهم من الكاثوليك؛ أي: من أرض الدعوة للوضعية والعلمانية التي أسست للدين الجديد ممثلًا في العلم وظهور نزعة مذهبية وضعية علموية "ترى أن المعرفة العلمية، الفيزيائية والكيميائية هي وحدها المعرفة الحق"(1)، وميّز الدكتور "الجابري" بين نوعين لها:
الأولى علموية ميتافيزيقية: تعتقد أن العلم سيحل جميع المشاكل التي كانت من اختصاص الميتافيزيقا، وقد حاولت إقامة تصورات عامة عن الكون والإنسان بواسطة "النتائج العلمية" وهكذا نشأت تبعًا لذلك ديانات وضعية.
الثانية علموية منهجية: ترى أن المنهاج المتبع في الفيزياء والكيمياء هو وحده الصالح؛ ولذلك يجب تطبيقه في العلوم الإنسانية. واستعارت مفاهيم الفيزياء والكيمياء لتستعملها بشكل تعسفي ساذج في الميادين الاجتماعية والسيكولوجية (2).
ومع انتشار هذه النزعة ووصولها إلى ذروتها في القرن التاسع عشر (13 هـ) ظهر تيار من داخل العلم ذاته ينادي بالتوقف قليلًا عن هذا التعصب للعلم؛ لأنه
(1) مدخل إلى فلسفة العلوم، د. محمد الجابري ص 290.
(2)
انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم ص 290 - 230.
في الحقيقة ليس بتلك الصورة المتخيلة عند أصحاب النزعة العلموية. وقد كان نقاد العلم هم الأشهر صوتًا في هذا الميدان، وكانت بداياتهم في نهايات القرن التاسع عشر، وازدهرت في مفتتح القرن العشرين (14 هـ)(1).
هناك مجموعة أسماء أسست مجال نقد العلم في فرنسا وخصوصًا الفيزياء مثل: "بوترو" و"بوانكاريه" و"دوهيم" و"برجسون" و"لوروا"، وكان هدفهم من نقد العلم تعيين حدوده (2). وقد سار كل واحد منهم أو من المتأثرين بهم في طريق يصب في هذا المجال. فمنهم من ابتدأ بالرياضيات، ومنهم من جعل نموذجه الفيزياء، وآخر علم الفلك، ورابع القوانين العلمية أو النظريات العلمية، وهكذا، يعيدون قراءتها وتحليلها ويبحثون خلال ذلك حدودها وقدراتها، وبصورة درامية عبّر عنها "أندريه كريسون" بأن العلم يشرع بمقاضاة ذاته (3). وكان خلاصة ما قرروه بأنه "مهما تكن نظريات علوم الطبيعة كاملة، فلا ينبغي اعتبارها إلا كوسائل كلامية ملائمة. فلنعتبرها كوسائل لتصور الأشياء، كوسائل نافعة لأذهاننا البشرية. ولنعتبرها كمخطط، كوسيلة مذكرة، كحيلة مبتدعة للسيطرة على الكون، ويجب أن لا نعتبرها أكثر من ذلك"(4)، وأقرّ عندها "كثرة من المفكرين، المستقلين في أصولهم، بأن العلوم الوضعية لا تتمتع إطلاقًا بتلك الدلالة وذلك المدى الميتافيزيقي اللذين عزاهما إليهما سبنسر وتين" من أصحاب النزعة العلموية، وعكف بعدها الباحثون يتحرّون "عن دلالة المفاهيم الأساسية التي تستخدمها العلوم وعن قيمتها" (5). فلنأخذ بعض النماذج من هذا التيار:
بوانكاريه. لقد انطلق بوانكاريه في نقده للعلم من الرياضيات إلى بقية العلوم "وانتهى من نقده إلى تقرير أمرين:
(1) انظر: تاريخ الفلسفة. الفلسفة الحديثة، إميل برهييه 7/ 199.
(2)
انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 1/ 485، وانظر: تاريخ الفلسفة، إميل برهييه 7/ 187، الفصل الحادي عشر (نقد العلوم)، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي، أندريه كريسون ص 400 وما بعدها، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 42.
(3)
انظر: تاريخ الفكر الفلسفي، كريسون ص 300.
(4)
تاريخ الفكر الفلسفي ص 403.
(5)
انظر: تاريخ الفلسفة، برهييه 7/ 187.
الأول: هو أن العقل يتمتع بحرية تجربة واسعة في ابتكار المفهومات في الرياضيات والعلوم.
والثاني: أن النظريات الرياضية والعلمية هي في جوهرها اصطلاحية وفروض ميسرة" (1)، وهو بهذا يُسقط ما تصوره المذهب الواقعي عن النظريات العلمية من جعلها صورة طبق الأصل للواقع وإعطائِها قيمة مطلقة. فالعقل يتدخل في صياغتها، ولذا نجدها دائمًا تقبل التطور والتغير، والعالِم إنما يختار من النظريات ما يراه مناسبًا لعمله دون عنايته بموضوع مطابقته للواقع. وإذا كان الأمر كذلك فانه لا يُطبّق على النظرية العلمية معيار الصواب والخطأ ولا ينظر إليها من جهة المطابقة، وإنما ينظر إليها على أنها فرض، الغرض منه التيسير والتسهيل، ويمكن تغييرها عند الحاجة، وتم الانتقال من الصحة والخطأ إلى الملائم أو غير الملائم (2).
- دوهيم. وإذا كان "بوانكاريه" انطلق من الرياضيات في نقده للعلم فإن منطلق دوهيم ثاني أشهر شخصية في نقد العلم كان من الفيزياء، وهما أهم عِلْمين في العصر الحديث وأدقهما في باب العلوم الحديثة. فقد كان أهم كتبه "النظرية الفيزيائية: موضوعها وتركيبها"، ومما يراه عن النظرية أنها نظام يهدف إلى تمثيل مجموعة من القوانين على أبسط وأكمل وأدق نحو ممكن، ويرى بأن القوانين العلمية ليست نسخة من الواقع، وإنما هي من خلق العقل (3)، وربما هذا يفسر تغيّرها؛ لأنها لو كانت نسخة عن الواقع لما تغيرت. وفي كتابه المشهور: "نظام العالم، تاريخ المذاهب الكونية من أفلاطون إلى كوبرنك" في خمسة مجلدات، وجد في أثناء عرضه لمختلف المذاهب أنها ترجع في نظرياتها "إلى مذهبين: أحدهما أن النظرية العلمية تفسير حقيقي للظواهر. . . . والآخر أنها مجرد تصور للظواهر وقوانينها لا يدعي النفاذ إلى جواهر الأشياء، وهذا يجعلها
(1) موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 388 - 389.
(2)
انظر حول موقفه من النظريات العلمية وصورة نقده: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 437، وانظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 386 - 388، وانظر: تاريخ الفلسفة، برهييه 7/ 188، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 296، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 415.
(3)
انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 485 - 486.
افتراضًا ليس غير. . . ." (1). وهذا يؤيد الرأي القائل بأن النظرية فرض ميسر أو أن الطبيعة تقبل تعدد التفسيرات، وذلك يعني عدم وجود تفسير واحد يحتكر الحقيقة مما يقوله البشر، وتعدد التفسيرات يجعل كل التصورات ما دامت تذكر أدلتها صحيحة من وجهة نظر أصحابها، ألسنا نجد في الطبيعة بعض الظواهر تتعدد حولها التفسيرات؛ أكده من خلال أمثلة فيزيائية كالنظريتين المتصارعتين حول طبيعة الضوء: فإحداهما أنه من طبيعة جُسيمية والأخرى على أنه من طبيعة موجية -أكثر ما يلفت النظر حول هاتين النظريتين أن الشواهد التجريبية تؤيدهما معا بالرغم من أنهما تقومان على أسس فيزيائية مختلفة- مما دفعه إلى القول بأن الطبيعة تقبل العديد من التفسيرات (2).
هكذا قام كل من "بوانكاريه" و"دوهيم" بمحاكمة قاسية للعلم وكانت أهم نتيجة توصلا إليها وطرحاها مع غيرهما من نقاد العلم: أن النظريات العلمية إنما هي تفاعل بين العالِم وموضوع علمه، وأن لعقل العالِم أثره في صناعة النظرية، وهي تفقد بهذا صفة الموضوعية والتعبير الواقعي عن الواقع، وميزتها تكون في التيسير والتسهيل وبقدر ما تقوم بذلك نقبلها فقط، ويخطِئ من يظن أنها تُعبّر عن حقائق يمكن جعلها مرجعًا للتصويب والتخطئة.
ويعني هذا أنه لو جاء مستثمر للنظرية واتخذها مصدرًا ومرجعًا للتكذيب بأمور خارج إطارها أو التأييد فهو غير مصيب بفعله هذا، ويُعدّ هذا الوضع تغيُرًا كبيرًا حول تصور قيمة النظرية العلمية؛ لأنه قبل حملة نقاد العلم كانت النظريات العلمية مرجعًا للتصديق والتكذيب بالقضايا غير العلمية أما بعد حملتهم فقد أصبحت مرجعًا لعمل العالم فقط، وفتحت بذلك جبهة واسعة داخل إطار فلسفة العلم. ورغم تنوع المذاهب وتعددها فإن الميل السائد في مدارس فلسفة العلم الكبرى ينحى منحى التصور النسبي لقيمة النظريات العلمية، وممن تأثر بهذا الوضع الجديد من نقد العلم "الامتداد الوضعي في القرن الرابع عشر/ العشرين للوضعية القديمة"، إذ نراه رغم تمسكه بدور الحس والتجربة في إثبات قيمة العلم
(1) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 437 - 438.
(2)
انظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 226، وانظر: برونشفيك وباشلار. .، د. السيد شعبان ص 27 - 28.