الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأوضاع أرضية، إما أنه راجع لعامل اقتصادي أو لأثر الطبيعة في التطور وإيجاد ظواهر مختلفة أو بسبب التفاعلات الاجتماعية أو غير ذلك مما سيأتي مناقشته بإذن الله في الفصل الثاني من الباب الثالث.
ويعد علم الاجتماع بصورته العلمانية أحد أشهر العلوم التي احتك بها المسلمون وقت ظهورها ودعوة بعضهم إلى نقلها، وقد كان "دوركايم" مشرفًا على أحد أوائل رموز التغريب -طه حسين- في العالم الإِسلامي في الفترة التي بدأت تتهاوى فيها آخر دولة إسلامية كبيرة وتُقطّع أراضيها وتوزع غنيمة للمحتلين، في هذا الوقت يُشجع المتعلمون على تحصيل هذه العلوم أو تفرض عليهم. ومن المفارقات العجيبة: أن أول احتلال حديث لجزء من العالم الإِسلامي عبر حملة "نابليون" على مصر كان يصطحب معه مجموعة من السان سيمونيين أتباع سان سيمون أستاذ كونت، وقد بقي منهم مجموعة بعد خروجه استعان بهم "محمَّد علي" والي مصر آنذاك، وأما الاحتلال الثاني فقد كان بزعامة بريطانيا عام (1882 م) أرض النظرية التطورية الدارونية وهو عام موت "داروين"، وفيها كان اتصال مجموعة من المبتعثين بالمدرسة الفرنسية الاجتماعية وأشرف "دوركايم" على أحدهم، فعاصروا النموذجين: النموذج المؤسس مع "سان سيمون" والنموذج المجدد مع "دوركايم".
ب- علم النفس:
يدرس علم النفس السلوك والعمليات الذهنية (1)، ومنهجهم في ذلك مثل مناهج العلوم الأخرى غالبًا؛ "فهم يصوغون نظريات، تسمى أيضًا فرضيات، تعبر عن التفسيرات المحتملة لمشاهداتهم. ."(2).
ورغم الجهود المعروفة في تاريخ الفكر البشري في هذا الميدان، إلا أن تحوله إلى مجال العلم بمفهومه الحديث، الذي يعتمد على مناهج وبناء النظريات بدأ في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده، لاسيّما بعدما أسس الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" مختبرًا نفسيًا ومثله معمل الفيلسوف "فلهلم فونت" في ألمانيا.
(1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 25/ 315.
(2)
المرجع السابق 25/ 316.
وبسبب الاختلاف حول الموضوعات التي يجب دراستها في هذا العلم وكيف تدرس، انقسم علماء النفس إلى أربع مدارس أو مذاهب هي:"المدرسة البنيوية، والسلوكية، والجشطالتية، ومدرسة التحليل النفسي"(1).
وهناك تطورات لحقت هذا العلم وإن كان أغلب المعاصرين يميلون إلى طريقة الانتقائية من بين ما سبقهم من مدارس ومناهج، وتبقى مدرستا: التحليل النفسي والمدرسة السلوكية الأشهر في مجال علم النفس والأكثر تأثيرًا في ميادين الفكر. ومن بين المشاكل المشتركة بين أغلب مدارس علم النفس المعاصرة إنكارها لحقيقة الروح المُقرّة في الدين، وتعد آراء ونظريات كل من "بافلوف" و"فرويد" أكثر ما اختُلف حوله في الفكر المعاصر.
وكما أن أبرز مؤسسي علم الاجتماع الحديث يجعلون الدين ظاهرة اجتماعية، فكذا مع نظرية "فرويد" سيكون الدين عبارة عن ظاهرة نفسية أنتجها الإنسان من خلال عمليات لا شعورية يأتي ذكر نموذجها وأثرها في الفكر التغريبي في مبحث مستقل بإذن الله "الباب الثالث الفصل الثاني".
ومهما تكن المسائل التي قدمها علم الاجتماع غريبة، إلا أنها تعد مألوفة في الفكر والفلسفة، بخلاف ما قدم في علم النفس مع "فرويد" ومدرسته فهي غير مألوفة، وأحدثت آثارًا في مسيرة العلم يجعلها البعض شبيهة بالأحداث التي صاحبت النظرية الكوبرنيكية أو النيوتنية أو الدارونية، و"فرويد" نفسه يجعل نظريته إحدى ثلاث صدمات أصابت الفكر الإنساني وولدت عنده الشعور بالنقص والقصور والخيبة وحطمت كبرياءه وغروره (2).
ويعترف كثير من مؤرخي الفكر الغربي المعاصر ودارسيه بالأثر الكبير والخطير لـ"فرويد" في العلم والفكر والفن والمجتمع، وأهم ما يضاف إليه: نظريته العلمية في علم النفس، ويحتل فيها مفهوم الذهن اللاشعوري موقعًا عظيم الأهمية (3). ومن آثاره أن أصبح علم النفس بمفاهيمه الجديدة موضة العصر (4)،
(1) انظر: المرجع السابق 25/ 317.
(2)
انظر: التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان، عدنان حب الله ص 6.
(3)
انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، رسل، ترجمة الشنيطي ص 278، 280.
(4)
انظر: تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 337.
وأصبح اسم "فرويد" كما يقول "سترومبرج" شائعًا ومألوفًا وامتد "تأثيره إلى ميادين التربية والتعليم والآداب والفنون والدين والفلسفة والأخلاق والثقافة الشعبية"(1).
ومما صدم به "فرويد" المجتمع الغربي -بعد خروجه من الصدمة الدارونية- المكانة الكبيرة التي جعلها للجنس؛ فإن ما يحرك الإنسان ليس العقل فقط، بل هناك جانب لا عقلي أكبر أثرًا في توجيه العمل الإنساني يعود إلى الدافع الجنسي، وسار بنظرية "داروين" إلى أبعد مجال يمكن أن تصل إليه، فالإنسان مع "داروين" ما هو إلا صورة مطورة عن الحيوان، ومع "فرويد" يصبح "الإنسان مخلوقًا تسيّره الرغبات البهيمية، وقرر أن أجمل إبداعاته ومثله العليا إنما هي في الواقع نتاج شهواته السرية"(2). أما الدين فلم يرَ فيه فائدة لعمله، بل عدّه ظاهرة عُصابية مرضية نشأت بحسب نظريته من "عقدة أوديب" وهو يشابه في ذلك "ماركس" و"فيورباخ" و"دوركايم"، فالدين عند "فيورباخ" و"ماركس" يمثل استلابًا واستعبادًا ونوعًا من التعويض لوضع غير صحيح، وكذا هو مع "فرويد" فالمريض العصابي يجد في الدين وسيلة تعويضية، "وهذا الواقع يضع فرويد في معسكر أولئك المسمين "بالعقلانيين" وذلك من حيث كونهم أعداءً للدين، ويؤمنون بأن العقل السليم ينبغي أن يقنع ويكتفي بالنظرة الطبيعية إلى الكون". وهذه الصورة الفرويدية عن الدين فيها مزاجية ومكابرة؛ إذ هي بالمنهج العلمي غير مقبولة، وهذا ما اعترض عليه التيار الوضعي السلوكي: فمن ذاك الذي يعرف أين هي "عقدة أوديب" أو أحسّ بها، كما أن استدلاله ينقلب عليه: فإذا كان "فرويد" يقول: أن المرء متدين بسبب مرضه العصابي، فسيرد عليه المخالف: إن غير المتدين أو الملحد لم لا يكون للسبب ذاته أيضًا (3).
هكذا دخلت العلوم الاجتماعية في قائمة العلوم العصرية ذات النظريات
(1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 498، وانظر: مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، أحمد بدر ص 77، وانظر: فكر فرويد، إدغار بيش ص 39، ترجمة جوزف عبد الله، وانظر: ما وراء الأوهام، إريش فروم ص 136، ترجمة صلاح حاتم، فرويد والتراث الصوفي اليهودي، باكان ص 21.
(2)
تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 500.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 502، بتصرف باستثناء ما بين القوسين.