الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث وكان الأصل لو كانت قوية برؤية ورسالة تتفق مع هويتنا لمُنع ذلك الانحراف أو خفف منه، ولذا أجدها مشارِكة في الانحراف بالعلم بما تطبعه في عقول طلابها من أخطاء ارتبطت بالتيارات العلمانية ولا علاقة لها بالعلم في ذاته.
دور مدارس الأقليات:
عُرض فيما سبق تجارب العالم الإسلامي في طلب العلوم العصرية وفتح مدارسها في "مقر الخلافة - مصر - الهند - بلاد المغرب - فارس" ولم أتطرق للشام والعراق (1)؛ لأنهما كانا تحت النفوذ العثماني المباشر، ولذا كان ولاتها غير مستقلين كما هو الحال في مصر وغيرها، وكانت تجربة مركز السلطنة تغني عنهما، ولم تُشتهر تجارب خاصة تولاها ولاتها (2).
ولكن بلاد الشام شهدت أمرًا آخر كان واضحًا فيها مقارنة بغيرها ألا وهو النشاط التنصيري، فبعد أن شعر الغرب بضعف العالم الإسلامي وإمكانية اختراقه تجهزت الإرساليات النصرانية لدخول الشرق من أجل نشر النصرانية بين أهلها، وكان القرن الثالث عشر/ التاسع عشر أشهر فترات نشاطها الحديث، فضغطت الدول الأوروبية على الدولة العثمانية حول الأقليات الدينية من يهود ونصارى فحصلوا على امتيازات خطيرة جعلتهم أحيانًا في وضع أفضل مما عليه المسلمون، بل ناسب ذلك أحيانًا أهواء بعض الولاة، فقدمهم وأخر المسلمين كما حصل مع إبراهيم باشا في بلاد الشام.
ومع فشل الإرساليات في تحقيق هدفها بين المسلمين فقد تحولت للنصارى، كل طائفة في أوروبا تتنافس على أتباعها في العالم الإسلامي، فيمدونهم بالمال والدعم ويستعينون بهم في أمور التجارة والصلة بالمسلمين ويفتحون لهم أبواب أوروبا وينشئون لهم الكنائس والمدارس في موطن سكنهم.
(1) مما يُذكر عن العراق تجربة واليها "داود باشا"(1816 - 1831 م) حيث شابه بعض أعمال "محمد علي" ولكنها ضعيفة، انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 160 - 161.
(2)
انظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 188، وانظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، د. علي محافظة ص 211.
ولوجود طائفة لا بأس بها على سواحل الشام فقد انصب نشاط الإرساليات الأوروبية والأمريكية إلى تلك الجهة، وتنافست الإرساليات في بناء الكنائس والمكتبات والمستشفيات والمدارس، وهو نشاط واسع وخطير وفي حاجة إلى دراسة مستقلة، وأكتفي هنا بما له علاقة بمشكلة الاضطراب حول العلوم العصرية، وقد كان ذلك من خلال مدارسهم الكثيرة.
لقد شكل وجود الأقليات الدينية "اليهودية والنصرانية" داخل الدولة العثمانية عامل جذب للقوى الغربية المختلفة (1)، ومع الضعف الشديد للدولة العثمانية مارس الغربيون ضغوطهم عليها من أجل رعايتهم لأهل الملل داخل الدولة العثمانية بسبب الروابط الدينية والثقافية التي بينهم، ووصل الأمر أنه بحلول عام (1914 م)"كان هناك سبع عشرة ملة معترفًا بها من قبل الحكومة العثمانية تقع كلها تحت الحماية الأجنبية"، كما أن هذه الملل ذاتها بدأت تعرف الانقسام الداخلي، فمنذ ستينات القرن التاسع عشر بدأت تلوح تحديات لكبار رجال الدين في تلك الأقليات ظهرت بين صفوف صغار رجال الدين والعلمانيين منهم (2)، وسيكون للانقسام الداخلي وما يصحب ذلك من رعاية أوروبية للطرفين أثره فيهم وفي المجتمع المحيط بهم، ولاسيّما عندما يتخذهم الغرب جسرًا لاختراق الأمة الإسلامية.
حظيت سوريا بعناية أكبر (3) ومما مهد لذلك حكم محمد علي لسوريا، إذ
(1) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 188، 220.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 129.
(3)
كان يطلق على المنطقة التي تضم كلًا من سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن اسم سوريا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر. انظر: المرجع السابق ص 147، وكان دخول "إبراهيم باشا" واحتلاله لسوريا سنة (1832 - 1834 م)، وقد قسم "جرجي زيدان" نهضة الشام إلى ثلاثة أطوار، ومن الملاحظ أنه ركز فقط على نهضة النصارى، والأطوار هي:
1 -
من دخول "إبراهيم باشا" إلى حادثة (1860 م)، وقد خرج إبراهيم سنة (1840 م)، فجعل هذه المرحلة بداية النهضة، وذكر التفات إبراهيم إلى نصارى الشام على الخصوص ضد السنة الموالين للدولة العثمانية، وذكر أنه في هذه المرحلة تدفق المبشرون على المنطقة.
2 -
بعد حوادث (1860 م) حيث تدخل الغرب لإنقاذ مبشريه ونشطوا في ذلك (فابتنوا المدارس الكبرى وألفوا الجمعيات وطبعوا الكتب في العلوم الحديثة وغيرها، فنشأت =
لم يعتمد حكمه هناك على المسلمين السنة بسبب بقاء صلتهم في الغالب بالسلطة العثمانية، ومن أجل ذلك استخدم النصارى واليهود بصورة خاصة، ولم يكن توظيفهم آنذاك شيئًا جديدًا وإنما "الجديد في الأمر يتمثل في درجة توظيف أفرادها والمميزات التي منحت لهذه الأقليات"، وهي أمور ظاهرها السياسة ولكنها مكنت لهذه الأقليات في الدولة المسلمة (1)، وقد أخذ النصارى عند ذلك يُحسّنون من أوضاعهم من خلال التعلم الذي جعلهم مؤهلين لملء الوظائف التي تحتاج إلى مهارات خاصة (2)، ولم يكن حركة من تلك الأقليات فقط إذ صاحبها الرعاية المتصاعدة من قبل الأوروبيين لمثل هذه الأقليات.
يتحدث أيضًا "مالكولم" عن بلاد الشام في الفترة (1880 - 1914 م) فيقول: "أما بالنسبة للنصارى فقد أتيحت لهم فرص جديدة في التعليم في المدارس التبشيرية التي أنشئت لأول مرة خلال الاحتلال المصري لسورية، ثم تنامت حتى أصبحت تشكل شبكة ضخمة"(3)، وتعبيره بشبكة ضخمة يدل على حركة منظمة لتعليم النصارى تعليمًا قويًا في الشام، قامت به عدد من دول الغرب عبر تنافس كبير بينهم، وإذا علمنا بأن دول غربية قوية بكنائسها ودولها تتنافس على تعليم طائفة صغيرة، فالنتيجة هي وجود مجموعة قوية قادرة على اختراق
= طائفة من الأطباء والعلماء والكتاب. . . . وأصبحت بيروت مبعث العلوم العصرية ومنشأ رجال الصحافة وكتاب الأدب والسياسة. وفي هذا الطور نبغ مؤسسو هذه النهضة. .)، ومع وصول "إسماعيل" للسلطة في مصر رغب (الناس)(النصارى) بالنزوح لمصر. . وانتهى هذا الطور بحوادث عرابي.
3 -
(الطور الثالث يبدأ بالاحتلال الإنكليزي بمصر لتكاثر الوفود من أدباء السوريين في أثنائه. . . . وكان لهم شأن كبير في الحركة العلمية والمالية والصحافية، وكانت الهجرة في أول الأمر قاصرة على المسيحيين ثم تطرقت إلى المسلمين. .). انظر: تراجم مشاهير الشرق القرن التاسع عشر 2/ 166 - 168.
(1)
نفس ما فعل والده في مصر عندما أصبح واليًا عليها حيث (فتح بابه للنصارى من الأروم، والأرمن، فترأسوا بذلك، وعلت أسافلهم). انظر: عجائب الآثار للجبرتي 4/ 150 [حوادث شهر ذي الحجة، سنة (1227 هـ)]، عن الصلابي ص 385، وانظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث ص 168.
(2)
انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث ص 147 - 157 وبخاصة ص 151، وانظر: الدولة العثمانية، د. علي الصلابي ص 140.
(3)
نشوء الشرق الأدنى ص 224.
النهضة الإسلامية الناشئة والمشاركة في إدارتها، ومن ثم توجيهها بما يخدم أهدافهم.
ثم يتحدث الكاتب عن أثر كل جهة غربية، فالإرساليات التبشيرية الكاثوليكية الفرنسية تركز على تعليم المسيحيين الكاثوليك والروم والموارنة، وفي عام (1914 م) بلغ عدد مدارسها ما يقرب من (500) مدرسة في وقت يندر فيه وجود المدرسة في بعض بلاد المسلمين، وقد أنشؤوا بعدها جامعتهم (جامعة القديس يوسف) سنة (1875 م).
وفي مقابل الكاثوليك كانت للإرساليات التبشيرية البروتستانتية البريطانية والألمانية ولاسيّما الأمريكية جهودٌ مماثلة، مع حرصها على تأهيل المعلمين المسيحيين لاستخدامهم يومًا ما في تنصير المسلمين، ثم تحولوا عن هدفهم هذا إلى التعليم عمومًا وفتحوا ما يمكن أن يقال عنه: أول تعليم عالي في البلاد الإسلامية وهو الكلية البروتستانتية السورية سنة (1866 م) نواة الجامعة الأمريكية فيما بعد. وجاءت مدارس طائفة ثالثة وهم الأرثوذكس عبر الرعاية الروسية لتؤسس شبكة واسعة من المدارس (1).
طائفة صغيرة يخترقها التعليم الأوروبي الحديث بخلفياته الغريبة وأهمها العلمنة والرؤى المذهبية الجديدة وفي قائمتها المادية، فتمتلك الأقليات من خلال التعليم قوة داخل العالم الإسلامي تؤهلها للمشاركة والتأثير، ولكن هذه الطائفة أصيبت بانقسام بين القدامى والجدد عبر اختراق العلمنة ومذاهبها للجيل الجديد منهم.
وقد أعقب هذه المدارس التبشيرية ولادة التعليم العالي ولاسيّما الكلية البروتستانتية السورية -الجامعة الأمريكية حاليًا- التي حصلت على دعم غربي كبير كونها تمثل أداة صناعة لبني جلدتهم وأداة اختراق مهمة لذلك العالم المغلق أمامهم عبر وسيلة سلمية، ومما يشهد لذلك أن مجموعة كبيرة من قيادات التيارات الفكرية العلمانية تخرجت من هذه الكلية. وقد يُستغرب كيف تكون كلية ذات أساس ديني تبشيري مرتعًا لتيارات عُرف عنها معاداة الدين في الغرب! ويزول الاستغراب إذا علمنا التواطؤ الموجود بين التيارات الغربية المختلفة حول
(1) انظر: المرجع السابق ص 225.
أهمية اختراق العالم الإسلامي، ولذا كانت القوى السياسية العلمانية توفر الغطاء اللازم لعمل المبشرين علّه يخدمهم في عملهم، وهكذا العكس، ويزول الاستغراب أيضًا إذا علمنا أن القوى العلمانية الغربية وجدت في الكلية فرصة للحركة، فاخترقتها حتى وإن لم يرغب قادة التنصير منهم في ذلك الاختراق.
جُمعت تبرعات إنشاء الكلية البروتستانتية في أمريكا، وفي أثناء وجود فان ديك (1) -أحد أهم قادة التنصير في الشام- في أمريكا ليتولى طباعة "كتابهم المقدس" بعد أن تمت ترجمته للعربية على يديه وأصحابه، عُرض عليه إدارة تلك الكلية فوافق، وعاد ليباشر تأسيسها مع مبشر آخر صديق له (يوحنا ورتبات، 1827 - 1908 م)(2)، ووضعا وحدهما نظامها ودروسها، وقاما بتأليف الكتب العلمية وتدريسها في الباثولوجيا والكيمياء والفلك والتشريح والفسيولوجيا وغيرها (3).
وقد سبب هذا الاختراق الغربي -العلمي والفكري والسياسي- لنصارى الشام انقسامًا فيما بينهم من جهة، ودخول أفكار جديدة عليهم من جهة أخرى، ولاسيّما في طائفة المتعلمين منهم، وأخطرها ما كان ضد الدين؛ لأنهم حملوا تلك الأفكار ضد دينهم أولًا، ثم تعمم ذلك ليكون ضد دين الإسلام، ومن هذه الأفكار ما كان منتسبًا لتيارات "التنوير" و"الوضعية" و"المادية" الأوروبية مثل:"الماسونية" و"فولتير" و"كونت" إلى "الدارونية"، وفيها ما يمثل زعزعة فكرية، ولاسيّما أفكار "فولتير" و"رينان"(4) أصحاب الحملة القوية على الكنيسة والفكر الديني ممن عرفوا في تلك المرحلة، وفيها ما يمثل نشاطًا ميدانيًا مثل الماسونية.
(1) أهم وأشهر المنصرين الأمريكان في القرن التاسع عشر في بلاد الشام، انظر: ترجمته في المرجع السابق، جرجي زيدان 2/ 52.
(2)
مُنصّر أصله من أرمينيا وصل الشام وارتبط بالمنصرين، درس الطب حيث وجده طريقًا أفضل للتنصير، وحثه (فان ديك) على السفر لأمريكا للدراسة وفي أثناء عودته شارك صاحبه في الكلية، انظر ترجمته: المرجع السابق 2/ 310.
(3)
انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 58 - 59، وانظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 188 - 189.
(4)
انظر مثلًا: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 181 - 182، وانظر: الأثر الفكري لـ"فولتير" وغيره، تراجم مشاهير الشرق، جرجي زيدان 2/ 213 - 216، وهناك فقرة عن "رينان" جعلْتُها في الصحافة، أما "الماسونية" فلها فقرة خاصة أيضًا بشواهدها.
وقد كانت المدارس والكليات وما اتصل بها من مطابع وجمعيات وصحافة موطن تسرب تلك الأفكار والنشاطات، وأصبح أفرادها مادة ممتازة للنشاط في مصر كأهم مركز إسلامي آنذاك بعد هجرتهم إليها، ولاسيّما فترة حكم إسماعيل باشا.
يقول أصحاب التقرير الأمريكي عن التربية في الشرق الأوسط عن أثر المدارس: "لقد قامت المدارس الأجنبية بدور هام في حياة كل من سوريا ولبنان وفلسطين الثقافية في خلال ثلاثة أرباع جيل مضى، وكذلك في مصر إلى درجة محدودة. . . . وقد كانت المدارس الأجنبية طيلة هذه الفترة، ولاسيّما قبل قيام التعليم العام في تلك البلدان، في الطليعة فيما يختص بنشر التعليم في كل من الحضر والريف. . . . ورغم أن أثرها كان بالغًا في الأقليات على الأخص من مسيحيين ويهود، فإنها فضلًا عن ذلك قد امتد أثرها إلى المسلمين إلى حد كبير. فإلى سنة (1920 م) لم يكن هناك تعليم عال في سوريا وفلسطين والعراق، سوى الجامعة الأمريكية ببيروت، وجامعة سان جوزيف الفرنسية، ببيروت أيضًا. وقد عنيت الرسالات الأجنبية عناية خاصة بتعليم البنات، بل كثيرًا ما آثرتها على تعليم البنين،. . . . وفضلًا عن ذلك فإن عددًا كبيرًا من زعماء البلدان العربية في السياسة والأعمال والطب، من خريجي المعاهد الأجنبية. وحتى الحركة الوطنية، يمكن أن يقال: إن إذكاء روح الحماسة فيها، يرجع إلى حد كبير إلى بعض المدارس الأجنبية المتصفة بحرية الرأي. وفي مقدمة زعماء الحركة الوطنية في تلك البلدان تخرجوا في الجامعة الأمريكية ببيروت، وقد حازت المدارس الأجنبية في العالم العربي منذ عهد طويل شهرة واسعة ومركزًا ممتازًا"(1).
ثم ذكر التقرير بعض سهام النقد التي وجهت إلى تلك المدارس وهي باختصار:
ا- إجبار الكثير من تلك المدارس طلابها من غير النصارى على حضور الدروس الدينية والعبادات الخاصة بهم.
(1) أُعد التقرير لصالح مجلس التعليم الأمريكي بواشنطن عن (التربية في الشرق الأوسط العربي) في (مصر والعراق وفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان)، وركز على النصف الأول من القرن العشرين مع خلفيات في القرون السابقة لمؤلفيه، د. متى عقراوي، وترجمة د. أمير بقطر، وهذا النص ص 732.
2 -
تقوم تلك المدارس بزرع الولاء لبلدان أجنبية على حساب الولاء للوطن، وتصبح ميول الطالب إلى بلد "المدرسة الإرسالية" ويتعلق بها.
3 -
فرّقت الشباب إلى جماعات، تُكنّ كل مجموعة الولاء لبلد أوروبي مثلًا، ويحدث التحزب ثم التنازع بينهم، ففرقوا الأمة، وأصبح كل فريق يدعو للولاء لبلد ما أو منهج أو طريقة.
4 -
كانت المدارس الأجنبية مستقلة تمامًا وتعمل ما تشاء، وذلك أنها في فترة الحكم العثماني محمية بنظام "الامتيازات الأجنبية" بل كانت متمتعة بقوانينها الذاتية إلى حد كبير (1).
كانت مدارس الأقليات والمدارس الأجنبية عمومًا أحد أهم مراكز تحصيل العلوم العصرية، لقد صيغ فيها المنهج والمواد وطريقة العرض والعلاقة بين العلم والدين، وجاء المدرس الأجنبي بخلفياته العلمية والثقافية وبأهوائه الدينية والسياسية، فشكلت بذلك النموذج الجديد بكل مكوناته الذي سيتصدر كنموذج للتعليم في البلاد الإسلامية، فانتقل ذلك النموذج بحسناته وسيئاته إلى "المدرسة الوطنية" الحديثة.
يظهر الغياب الكامل لدور الدولة نحو التعليم العصري في بلاد الشام، والبعض يعيد السبب إلى عدم استقرار الوضع السياسي -الإداري فيها، إذ ما إن يُنصب والٍ عليها إلا ويعقب ذلك قرار سريع بتغييره، وهو سبب مفهوم في ظل الأوضاع الإدارية المزرية التي عرفتها الولايات العثمانية آنذاك، ومع هذا الغياب جاء البديل الخطير عبر المدارس الأجنبية بأهوائها المختلفة.
(1) انظر: المرجع السابق ص 732 - 734، وقد كان هذا النظام العجيب (الحماية والامتياز) من بين أخطر الأدوات التي اخترق بها الغرب العالم الإسلامي، فقد كان ظاهره إعطاء امتياز خاص للأجانب داخل البلاد الإسلامية، وحماية خاصة اتسعت لتشمل الأقليات التي يعملون داخلها، فيعملون دون رقيب أو حسيب، وما كان يعكرها إلا تنافس الغربيين فقط، وقد أصبح نظام الحماية هو السائد في كل مكان يتحركون فيه، ومن ذلك ما ذكره "عبد الكريم غلاب" عن حاله في مركزٍ آخر من العالم الإسلامي (المغرب) حيث شبهه بتكوين دول داخل الدولة، وقد يفعل الرجل جريمة ولكن لصلته بقنصل أو أجنبي فيكرمه بالحماية فتمنع الدولة من ملاحقته، انظر كتابه: قصة المواجهة بين المغرب والغرب ص 76 - 78 - 84، 116 - 122.
ولم تكن الحال أحسن في الولايات الأكثر استقرارًا، مثل مصر في ظل حكم محمد علي وأبنائه، فقد كان لطول حكمه وتعاونه مع الغرب وتحالفه معهم، ثم نجاحه في توريث الحكم في أبنائه، كان لكل ذلك أثرٌ كبيرٌ في الاستقرار، ومن ثم إمكاننا رؤية عملية التحديث دون انقطاع ورؤية آثارها. ومع ذلك فلم يكن الحال بأحسن في نظام التعليم الحديث فيها؛ إذ سيطر الأجانب على إدارته والتدريس فيه ووضع المناهج واستثماره بما يخدم مصالحهم، وبما أنه خدم طائفة النصارى أكثر من غيرهم، فإننا نجد ثناءً كبيرًا من قبل الكتاب النصارى على دور محمد علي وأبنائه باستثناء عباس باشا الأول (1)، وهذا ما لم يكن يوافق عليه قادة الفكر الإِسلامي المشهورون في تلك البلاد كالأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، إذ انتقدوا بشدة ذلك التعليم (2).
كان التعليم في ولاية مصر يخضع في الغالب لإدارة "ديوان المدارس" الذي أنشئ في سنة (1836 م) وناظره الأول "مصطفى مختار" وأعضاء الديوان هم: "كلوت بك" مدير مدرسة الطب، والكولونيل "كياني بك"، و"يعقوب أرتين بك" مدير مدرسة الإدارة، و"أسطفان أفندي" مدرسة الإدارة، "فاران" مدير مدرسة الفرسان، "هيكيكان" مدرسة المهندسخانة، "رفاعة الطهطاوي" مدير مدرسة الألسن، "بيومي أفندي" مدرسة المهندسخانة، "لامبير" مدير مدرسة المناجم، "هامون" مدير مدرسة الطب البيطري، "دورول" سكرتيرًا، وكان أربعة منهم أدخلوا الديوان بطلب الوالي "مختار وأرتين وأسطفان ورفاعة"، ويبدو -بحسب كتاب أنور- أن فكرة الديوان ترجع إلى تأثير كل من "السيمونيين" و"المبتعثين العائدين من أوروبا"(3)، وقد كان "كلوت بك"(4) الدينمو الأساسي
(1) تختلف الآراء حول "عباس" هل كان معيقًا لمسيرة التعليم أو معيقًا للتغريب، ولا شك أنه أعاق التغريب ولكن ماذا فعل للتعليم؟ انظر مثلًا: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 187، وانظر: نهضة مصر. . . .، د. أنور عبد الملك ص 161.
(2)
سبقت شواهد في الفقرة السابقة.
(3)
انظر: (حول الديوان) نهضة مصر. . . .، د. أنور عبد الملك ص 155 - 156، والنص السابق باختصارٍ منه، وانظر: نشوء الشرق. . . .، مالكولم ص 151، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، الزهراني ص 177.
(4)
انظر حول دوره: تراجم مشاهير الشرق. . . .، جرجي زيدان 2/ 7، وانظر: المرجع السابق، نهضة مصر ص 160 حاشية رقم (16).
في صياغة التعليم الموازي الجديد للنظام القديم المتمثل في الأزهر، وقد كان طلاب هذا النوع يُخطفون من أسرهم ويُدخلون مدارس أشبه بمعسكرات الاعتقال أو الجندية الشديدة فينفر الناس منها (1)، بخلاف الأزهر ومدارسه، فمع ضعفه إلا أن النفوس تشتاق للدراسة فيه وتفتخر الأسر بوجود أبنائها في حلقاته.
طلبت الحكومة الفرنسية من "بيليسييه" منتصف القرن التاسع عشر (1849 م) أن يعطيها دراسة عن حال مصر ولاسيّما بعد الانتكاسة التي وقعت لتجربة محمد علي بسبب العدوان الأوروبي عليه في أثناء محاولته التوسع، فذكر انهيار التعليم وتدهوره، ولكن العجب هو ما ذكره من أسباب ومنها:
1 -
ضعف المكانة التي أعطيت للفرنسيين في التعليم العالي.
2 -
عدم ترقي الطلاب الفلاحين بسبب بقاء اتصالهم بغير المتعلمين من ذوويهم.
3 -
أن استظهار القرآن في سن مبكرة قد أفسد عقول التلاميذ (2).
بمثل هذا المكر تُكتب التقارير، والمقصود بالتعليم هنا "العلوم الحديثة" حيث جعل أسباب الضعف هو ما يريد الوصول إليه من أهداف أو يريده الاستعمار، فمرادهم تمكين أكثر للأجانب في إدارة التعليم، وعزل تام للفئة الدارسة عن مجتمعها، وإبعادها تمامًا عن مصدر دينها وعقيدتها وقوتها وهو القرآن الكريم، ومن غير المستغرب تغرب هذه التجارب ما دامت تتحرك بإدارة أجنبية، وبرغبات دينية أو سياسية تتعارض تمامًا مع دين الأمة ونظامها، ومن الطبيعي أيضًا أن ينجح على مستوى الفكر في غرس بعض أفكار العدو من خلال مدارسه الخاصة أو المدارس التي أوكلت إليه من مدارس المسلمين.
جاءت مرحلة خطيرة من جهة تمكين الأجانب ومدارسهم من أرض مصر زمن الوالي سعيد ثم إسماعيل، في ظاهرة تُعد من أغرب الظواهر في تاريخ الأمة الإِسلامية -ولاسيّما زمن سعيد- وكأن هناك قناعة بعدم قدرتنا على فتح المدارس، وأن الأولى تركها للأجانب، فيذكر صاحب كتاب نهضة مصر بأنه
(1) انظر: مجلة المنار، آثار محمد علي 5/ 175 سنة (1320 هـ - 1902 م).
(2)
انظر: نهضة مصر. . . . ص 161.
"مع مجيء سعيد كان قيام مدارس البعثات الأجنبية يمثل أكبر ظاهرة سائدة في السياسة التعليمية. ولم يحاول الحاكم الجديد المنفتح على النفوذ الفرنسي أن يفعل شيئًا لإعادة فتح المدارس الابتدائية والإعدادية، مفضلًا ترك هذه المهمة للمدارس الأجنبية"، إلى أن قال:"وكانت المدارس الأجنبية في ذلك العقد تتكون من نوعين من المؤسسات"، ثم ذكر مدارس كل نوع من النوعين:
1 -
مدارس الجاليات والطوائف الأجنبية من نصرانية ويهودية، وما يعود لدول لها أتباع في مصر، وقد بدأ ظهورها من زمن محمد علي واستمرت مع أبنائه.
2 -
مدارس البعثات الدينية الأجنبية، وهذه بدأت من سوريا التى سبق وجودهم فيها، فبعد أن حصلوا على موافقة محمد علي فتحوا مدارسهم في مصر، وتحول التنافس بين كنائس أوروبا إلى مصر ما بين الكاثوليك الفرنسيين والبروتستانت البريطانيين، "وبينما كانت المدارس الدينية الفرنسية تتمتع بمساندة حكوماتها المباشرة، وخاصة "جيزو"، استهدفت المدارس البروتستانتية الأنجلو -أمريكية تحويل الأقباط إلى بروتستانت وكانوا يعتمدون في ذلك على أموال المنظمات التبشيرية"، وكان الهدف التنصيري لهذه المدارس هو الهدف الأول، واهتمت بالنصارى واليهود (1).
والعجيب أن هذه المدارس قد حظيت بدعم من قبل الوالي أكثر من دعمه لمدارس المسلمين، لدرجة أن عددًا من المدارس الأوروبية استمرت بفضل المساعدات الأميرية، وأن المبالغ التي صرفها الوالي لمدارس "الفرير" وغيرها تفوق على الأرجح ما صرفه على ميزانية التعليم العمومي خلال حكمه كله، فضلًا عن المباني الحكومية التي تنازل عنها لصالح أعمالهم. لقد نفض يديه فعلًا من مسئولياته كوالي فيما يتعلق بالتعليم العمومي (2)، ولا ندري كيف يتحول بعضهم إلى مُحسن للأجانب والأعداء، بينما هو مسيء ومتجاهل وربما طاغية على أهل ولايته وملَّته.
(1) انظر: نهضة مصر. . . . ص 163 - 165.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 165، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، الزهراني ص 187 - 188.
تعدّ فترة ولاية إسماعيل مشهورة في تاريخ مصر الحديث، فمن جهة طغت عليه رغبة في تحويل مصر إلى قطعة أوروبية (1)، في محاولة استئصال لها من جغرافية الشرق وإلحاقها بالغرب، وإذا كان الوالي بمثل هذا التفكير فمن الطبيعي أن يفتح صدره للوجود الأجنبي بكل مؤسساته ومنها التعليم، وقد وقع الكثير من ذلك لدرجة أن كاتبًا متسامحًا مثل شكيب أرسلان (2) يتحدث عن نفوذ للأجانب لا يتصوره العقل، وأن أهل البلد أصبحوا كالعبيد للأجانب.
ومع ذلك فقد عرفت هذه المرحلة رجلًا مهتمًا بالتعليم وتطويره أعقل من رجل السياسة صاحب الأوهام وهو "علي مبارك"، الذي اعتمد عليه إسماعيل كما اعتمد جده ومن بعده على الطهطاوي ولكن ذلك لم يعطل نشاط المدارس الأجنبية فقد استمر وضعها (3) على حاله وربما أقوى.
قام "علي مبارك" بإعادة تشكيل التعليم الحكومي، وخفف من عسكرته السابقة، وفتح المدارس المختلفة، وأدخل بعض المواد الحديثة، واهتم بالمدارس العليا التي كانت نواة الجامعة المصرية فيما بعد، وقد كان من أهم مشروعاته "دار العلوم" التي أسست سنة (1871 م) هدفها إعداد المعلمين بعد تخرجهم من الأزهر، وأدخل فيها الأدب العربي والفلك والطبيعة والعمارة والميكانيكا والتاريخ العام والفقه على مذهب أبي حنيفة وعلم النبات وغيرها (4)، ولا شك أن جهود علي مبارك رغم المآخذ التي عليها أفضل من ترك الساحة للمدارس الأجنبية التي فرضت نفسها وأوجدت لها حماية أجنبية وأتباعًا لا يتخلون عنها.
ومع ذلك فقد أثرت تلك النماذج الأجنبية على التعليم في مصر وغيرها، أثرت في تكوين مدرسة جديدة تختلف عن "المدرسة المعروفة" عند المسلمين، ولاسيّما في عصور الضعف الأخيرة، حيث كانت مهمة المدرسة الموروثة لا تتجاوز تعليم قراءة القرآن بأساليب غير مناسبة مع القراءة والكتابة والحساب، ثم
(1) انظر: الفصل السابق ص 567.
(2)
انظر: الشاهد ص 615.
(3)
حول المدارس الأجنبية انظر: نهضة مصر. . . . ص 170 - 171.
(4)
انظر: نهضة مصر. . . .، 166 - 170، ولاسيّما ص 169.
يخرج منها الطالب ليلتحق بحلق العلم وقليل من يفعل ذلك، بينما الدولة الحديثة تريد الجيش العصري والأطباء والمهندسين والإداريين والصناع وغيرهم، وكان النموذج المقترح لذلك هو المدرسة الأجنبية، ولاسيّما أن خريجيها هم من يتولى المناصب العليا في دولة محمد علي وبنيه، فأُخِذَت نموذجًا يُحتذى مع تعديلات لم تؤثر في جوهرها، وبتعبير -ربما يكون صحيحًا- لأصحاب التقرير الأمريكي عن التربية في الشرق الأوسط "ولذا جاز لنا القول: إن التقدم التعليمي في العالم العربي يدل على الانسلاخ من الماضي والاتجاه إلى ناحية جديدة" (1)، وكان ذلك عبر تأسيس المدارس الحديثة المغايرة للمدارس القديمة، وذكروا أن من العوامل التي دفعت إلى هذا الاتجاه "تأثير الأجانب من أفراد وجماعات، في الشرق الأدنى والعالم العربي. فمجلس التعليم الأول الذي أنشأ في سنة (1837 م)، كان يتألف برمته إما من أعضاء أجانب من موظفي الحكومة المصرية، أو من طلبة مصريين ممن تلقوا علومهم من الخارج، لاسيّما فرنسا. وعقب ذلك تعيين مفتش أجنبي ظل في وظيفته زهاء العشرين عامًا، وبعد الاحتلال البريطاني قام البريطانيون بدور هام في وضع السياسات التعليمية إلى سنة (1922 م)، أما في غير مصر من الأقطار العربية، وعلى الأخص سوريا ولبنان وفلسطين، فقد سبقت مدارس الرسالات الأجنبية، أية مدارس منظمة حديثة حكومية أنشأها الأتراك. وقد أصبحت هذه المدارس بطبيعة الحال نموذجًا تنسج على منواله المدارس الحكومية والأهلية بعد ذلك" (2). وكذا كان النظام العثماني الذي تأسس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر متأثرًا بالطابع الغربي، ولما دخل الانتداب -الاحتلال- إلى سوريا ولبنان وفلسطين، أصبحت اليد العليا في رسم خطط التعليم للبريطانيين والفرنسيين، ثم بعدها في العراق (1915 م) وضعت بريطانيا أساس النظام التعليمي في العراق (3).
لو كان التعليم الأجنبي داخل الأقليات الدينية فقط في ظل حقوقهم لما كان هناك إشكال، ولكن التعليم الأجنبي الموجه أولًا للأقليات الدينية أصبح هو
(1) انظر: التربية في الشرق الأوسط العربي ص 703.
(2)
المرجع السابق ص 703.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 703.
التعليم المرغوب فيه عند ولاة المسلمين، وخريجو تلك المدارس هم المؤهلون لمناصب الدولة وأعمالها المختلفة، بخلاف الأزهر ومؤسساته فالمتخرجون منه يُؤهلون لأعمال خاصة بالمجتمع من إمامة مسجد أو خطيبه أو عاقد أنكحة أو فقيه للإفتاء أو مدرس للعلوم الإسلامية أو اللغوية، فتوجهت الدولة أولًا لخريجي المدارس الأجنبية فولّتهم الأعمال الخطيرة، ثم قامت في مرحلة تالية بتأسيس مدرسة تابعة للدولة على النموذج الأجنبي نفسه ومنعزلة في الوقت نفسه عن النموذج الإسلامي، بل منافسة له ومتصارعة معه.
فنشأ التوتر من البداية بين نموذجين، واتسع ذلك ليشمل المدرس هنا وهناك، والمنهج هنا وهناك، والرؤية هنا وهناك، والنتائج هنا وهناك، فالمدرس في الأجنبية للأجنبي بخلاف الإسلامية فهو من أهل العلم الشرعي، والمنهج في الأجنبية ما بين علوم لغوية أو عصرية من رياضة وطبيعة واجتماع والإسلامية كما هي على العلوم الشرعية واللغوية، والرؤية في الأجنبية ما بين هوى التنصير وهوى العلمنة بحسب إدارتها وملكيتها فهي إما عائدة للكنائس أو لتيارات علمانية والرؤية في الإسلامية لا تخرج عن الإسلام، والنتائج في الأجنبية أن خريجيها يحصلون على أفضل الوظائف والتقدير الاجتماعي والاحتفاء الرسمي بينما الإسلامية لا وظائف لهم إلا ما هو معلوم من قبل ولا يمثل وظيفة حقيقية فهي أقرب لعمل التطوع ولا تقدير اجتماعي إلا للنخبة منهم ممن برز في العلم الشرعي وقليل ما هم.
وقد كان يمكن تلافي هذه الازدواجية وهذا التوازي غير المعتدل مما يؤدي إلى التصادم كثيرًا، وبالرغم من الأفكار الداعية للتقريب بين المدرستين التي رفعها الطهطاوي في المرحلة الأولى أو علي مبارك في كتابه:"علم الدين" في المرحلة الثانية إلا أن ذلك التقارب لم يقع، أو لم يُرَد له أن يقع، حتى حَلّ ما حل ببلاد المسلمين من الاحتلال الخطير -الذي بدأ بالجزائر وتونس ثم مصر، ثم عم العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى-؛ ليصبح التعارض حقيقة، وتظهر محاولات خطيرة صريحة جادة إلى حسمه لصالح التعليم الوافد برؤيته ومنهجه وأهدافه على حساب دين الأمة وهويتها وتاريخها.
وخلاصة القول: إن مدارس الأقليات الموازية للمدرسة الإسلامية قد أسهمت بنشاطها في الانحراف بمسيرة العلم العصري؛ حيث تم اختراقها من
التيارات العلمانية الغربية، ولاسيّما مع موجة الاستعمار، ثم تحولت إلى نموذج يحتذى أول نهضتنا الحديثة، وسارت بالجنب مع التعليم الوطني، وما زالت إلى اليوم منافسًا خطيرًا للتعليم الوطني في البلاد الإسلامية، وأغلب رموز الفكر التغريبي قد مرّوا بها، ولا يعني أنها لا تقدم علومًا نافعة ولكن ذلك كان ثانويًا مقارنة بما تفعله من أثر تغريبي خطير في المجتمع المسلم، فضلًا عما تقوم به من تطبيق الرؤية العلمانية على العلوم العصرية بعد اختراقها من تيارات الفكر العلمانية الغربية، وهي بهذا قد أسهمت في توسيع البيئة القابلة للانحراف بالعلم، ولاسيّما أن العلوم النافعة لم تقدمها بقوة تقديم العلوم القابلة للأدلجة والانحراف.
لقد ظهر من العرض السابق أن المدرسة العصرية "الإسلامية أو مدرسة الأقليات" التي تهتم بالعلوم العصرية قد وقعت في مشكلات ولاسيّما في جانب الرؤية العامة والإطار المعرفي الموجّه لها؛ ويرجع ذلك في الغالب إلى تحكم الأجنبي بإدارتها ووضع محتواها، وهو رجل من اثنين: إما أنه من رجال التنصير أو أنه من رجال العلمنة، وبسبب ذلك غابت المدرسة العصرية الإسلامية، التي تأخذ رؤيتها وتصورها من الإسلام وتختار من المحتوى العصري: النافع المفيد الصحيح، وسيكون لذلك أثره في العلاقة بين الدين والعلوم العصرية.