الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ميادين العلم المعروفة في أوروبا، في الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلم الأرض والفضاء والتقنية والصناعه وغيرها من العلوم التي يتميز الغرب بها في العصر الحديث، ولكنها أخرجت لنا قيادات التغريب بتياراته المختلفة، فهذا القومي وهذا الليبرالي وذاك الماركسي، وهي الأبرز وقت الاستعمار.
وقد تولى هؤلاء فيما بعد القيادة في العالم الإِسلامي بما مكنهم به الاستعمار من الوصول إلى السلطة، ومن ثم إدارة منظومة التعليم التي صنعها الاستعمار بروحه المتمثلة في العلمنة والبعد عن الإِسلام إن لم تصادمه.
5 - فتح الباب للنظريات الاجتماعية:
لقد أراد الاستعمار إرباك العالم الإِسلامي وإدخاله في دوامة لا تنتهي، وإذا كان الغرب قد عاش تلك الدوامة حوالي أربعة قرون وأكثر، فإنه أراد إشغالنا بها في زمن قصير، ومن ذلك أن المنظومة الغربية بقيت سنين طويلة حتى استوعبت مستجدات علم الفلك والفيزياء والرياضيات وبقية العلوم الطبيعية، ومع نهايات القرن التاسع عشر وأول العشرين (13 - 14 هـ) بدأت نظريات علوم الاجتماع وهي ما زالت تتفاعل داخل أوروبا ولم يتم استيعابها هناك، ولكن لأن هذه العلوم ذات مساحة ضبابية أوسع أُدخلت إلى العالم الإِسلامي بأشكال مختلفة، بدأ ذلك وبقوة وشهرة مع النظرية الدارونية، ولحقتها النظريات الاجتماعية المادية التي صاغتها الوضعية والماركسية تدخل عبر الصحافة والمفكرين وتشغل الفكر الإِسلامي آنذاك.
وقد كانت منظومة التعليم الاستعماري في مصر تتحرك في أجواء نظريات "سبنسر" التطورية، وعندما غادرت إنجلترا كان الوجود الأمريكي عبر مدارسة وإرسالياته وجامعاته قد تكثف داخل البلاد الإِسلامية فتم توجيه بوصلة التربية والتعليم من نظريات سبنسر إلى نظريات "جون ديوي"(1)، وكأن تاريخ المسلمين وتراثهم العلمي والفكري فضلًا عن واقعهم خالٍ من الأصول النظرية في هذه الميادين.
(1) انظر: موسوعة الجندي (المنهج الغربي) 9/ 277، وفيه:(ويتعلم الطلبة في مدرسة المعلمين العليا في القاهرة حجج سبنسر وديوي ضد الدين)، ومما ذكر بأنّه وإن كانت حججهما ضد الكاثوليكية إلا أن الطلبة طبقوها في مجال الدين الإِسلامي.
ثم فُتح الباب لدخول نظريات علوم الاجتماع المختلفة في علم الاجتماع والنفس والتاريخ واللغة والنقد والقانون والاقتصاد والسياسة وغيرها (1)، وأصبحت الدراسة العليا في بلاد المسلمين وكأنها نسخة من معاهد الغرب، بعد تفريغها من المحتوى الذي يمكن أن يعطينا القوة. ومع فتح الباب لهذه العلوم يمكن القول بأنه قد أُقفل مسار تطورنا نحو التحديث وامتلاك العلوم النافعة، وفتح في المقابل مسار الانشغال بنظريات وأفكار لم تُنجز بعد في بلدها، ونُقل لنا منها ما يخدم الاستعمار ويخدم تفوق الغرب فقط.
وهكذا نجد في الغرب مئات الجامعات المتخصصة في العلوم النافعة من طب وهندسة وتقنية فضلًا عن مراكز الأبحاث العملاقة، ومراكز ومعاهد وأكاديميات في هذه العلوم هي أهم وأكثر نفعًا لهم وللعالم، ولا تُقارن في عددها ونفعها بالجامعات المتخصصة في العلوم الإنسانية. وعندما جاءنا الاستعمار لم يمنحنا من النوع النافع شيئًا بينما أغرقنا في كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وليس مقصدي التقليل من أهمية العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي مهمة شريطة التأصيل الإِسلامي لها، ولكنها ليست هي ما كنا نريده من الغرب، فقد كان من الممكن إنشاء علوم اجتماعية أصيلة دون الالتفات إلى نظريات اليهود والماديين والوضيعين، بخلاف العلوم المادية فهي مهمة ونحن في حاجة إليها ولا توجد آنذاك إلا عند الغرب، ولكن الاستعمار نجح في تشكيل تيار تغريبي يرى أن التقدم مرهون بنقل الأفكار قبل العلوم، وتغيير العقول والتصورات في المجتمع الإِسلامي ثم نقل الجانب المادي، فبقينا إلى الآن دون استقلال حقيقي بعلوم اجتماعية نافعة أو علوم بشرية مادية مفيدة، نسأل المولى أن يغير حالنا إلى ما يرضيه سبحانه.
وخلاصة الفقرة أن الاستعمار يعد أخطر الأحداث التي وقعت بالمسلمين في العصر الحديث، وقد لعب دورًا خطيرًا في الانحراف بمسيرة العلم داخل البيئة الإِسلامية، من جهة صنع الانقسام بين العلوم الإِسلامية والعلوم العصرية، وزرع بذور المشكلات في بنية التعليم العصري، بالتركيز على أبواب نحن في غير حاجة إليها أو ضررها أكثر من نفعها.
(1) انظر: المرجع السابق 9/ 291.