الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد الأصول الثقافية للوضع المعاصر
اختار الرب سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون الرسول الخاتم، قال -تعالى-:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} [الأحزاب: 40]، وجعل أمته خير الأمم، قال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، قال ابن كثير رحمه الله:"والوسط هاهنا الخيار، والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا. . . ."(1). وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وذكر في معناها ابن كثير عن أبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس وعطية العوفي: خير الناس للناس، والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس (2).
أدركت أمة الإِسلام هذا التشريف الرباني لها أن جعلها خير الأمم، وعرفت في الوقت نفسه أن لهذا التشريف تبعات، وهي أن تكون أنفع أمة للناس، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من سرّه أن يكون من تلك الأمة، فليؤدِّ شرط الله فيها"(3)، فقامت بدورها أحسن قيام وأهدت العالم هذا الدين
(1) تفسير ابن كثير ص 127.
(2)
انظر: تفسيره ص 250.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 253.
العظيم، وكلما حققت شرط خيريتها ارتفعت ونفع الله بها، وإذا تكاسلت عن أداء ذاك الشرط أصابها الضعف الذاتي وتسلط عليها العدو الخارجي.
كانت تعلم أن شرط الخيرية يبدأ من الذات بإصلاحها بالتوحيد الخالص والعبودية الحقة. ولذا كانت الأمة في كل مرحلة ضعف تمرّ بها يأتي بفضل الله من يجدد لها أمر دينها، فتظهر على حال أحسن مما كانت عليه. ولم يظهر في تاريخها أن ربطت إصلاحها بتبني نظام خارجي عنها، أو باستلهام حضارة أخرى مغايرة لهوية الأمة. وهذا لا يمنع من وجود استفادة من علوم الأمم الأخرى التي يبرع فيها البشر، كالطب والصناعة والإدارة والعلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، ولم تظهر حول هذه العلوم مشكلة في تاريخ الحضارة الإِسلامية، بل كانت تؤخذ من أهلها، حتى من غير المسلمين، وقد كان أهل الذمة مثلًا فيهم الأطباء والصيادلة والصناع، ويؤخذ عنهم من تلك العلوم النافعة؛ لأنها مما يبرع فيها كل البشر، فكانوا من ضمن الوسائط في نقل تلك العلوم عن الأمم الأخرى.
رؤية أبي حامد الغزالي:
وعندما انتشرت العلوم في الأمة وكثرت معاهدها، ثم اختلط الأمر فيها بسبب ترجمة النافع وغير النافع فجاء بعض أهل العلم لتحديد الموقف منها، وبيان النافع منها وغير النافع، ومن ذلك ما قام به "الغزالي" المتوفى أول القرن السادس الهجري سنة (505 هـ) في كتابه المشهور:"إحياء علوم الدين"، فقسم العلوم -لتحديد الموقف منها فيما بعد- إلى شرعية وغير شرعية، وقال:"وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة". ثم ذكر فيما بعد أن "العلوم الشرعية. . . . محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة".
أما غير الشرعية فتنقسم إلى: "ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح":
1 -
"المحمود: ما يرتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب. وهو ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء
الأبدان. وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها.
وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمّن يقوم بها حرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك. فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله وأعدّ الأسباب لتعاطيه. فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله.
وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.
2 -
المذموم: فعلم السحر والطلسمات والشعبذة والتلبيسات.
3 -
المباح: كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه" (1).
وتعد هذه الرؤية "الغزالية" رؤية شاملة للموقف من العلوم الدينية والدنيوية، وهي السائدة في الأمة الإِسلامية، ومع ذلك فقد ضعفت العلوم بشقيها داخل الأمة الإِسلامية، العلوم الشرعية والدنيوية؛ وذلك أنه عندما تُفرط الأمة في شرط خيريتها تعود من جديد نحو الضعف والجهل، ومن تفريطها في شرط خيريتها ما وقع من تحول عند بعض فئاتها، إلى علوم لا نفع فيها، أو ضررها أكبر من نفعها، وكان من آثار ذلك هجران العلوم الشرعية وندرة العلماء فيها، وفي المقابل وقع الخراب في الحياة الدنيوية بعد أن أهملت علومها النافعة. وأصبح العلم عند هؤلاء خليطًا من فلسفات وأفكار لا تسمن ولا تغني من جوع، فلم يأخذوا بوصية أهل العلم في أخذ النافع وترك ما سواه، مما جعل الميل لغير النافع يتسع حتى جاء شيخ الإِسلام ابن تيمية في القرن الثامن بدعوته وتجديده وإصلاحه الشامل وبمراجعته النقدية لكل المجال الديني والعلمي والفكري بعد أن أصابه ما أصابه.
(1) إحياء علوم الدين، الغزالي 1/ 27، مع تصرف يسير قصد الترتيب.
الإصلاح العظيم مع شيخ الإِسلام ابن تيمية:
جاء شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله وفاته (728 هـ) في القرن الثامن ليصحح المسار في باب العلوم الدينية والدنيوية ومناهجها، فمع أنه البحر في علوم الشريعة، فهو إلى جانب ذلك على معرفة بالعلوم الأخرى المعهودة في زمنه، سواء كان ذلك في العلوم الطبيعية والرياضية وموضوعاتها من رياضيات وهندسة وطب وكيمياء وفلك وغيرها ومناهجها، أو في الفلسفة وموادها من منطق وإلهيات وغيرها، فكانت كتبهم وأعلامهم ومذاهبهم معروفة لديه (1)، ولذا كان يناقش وينقد وهو العارف بها، كأن يوجد عالم في زمننا هذا على معرفة بالطب الحديث وكشوفاته أو على اطلاع ومعرفة بالعلوم الطبيعية من فيزياء وفلك وجيولوجيا وكيمياء وغيرها وعلى أعلامها ونظرياتهم، أو على معرفة بالعلوم الاجتماعية ومناهجها ونظرياتها فضلًا عن معرفته بالمذاهب الفلسفية وأصولها ومناهجها، وهو مع معرفته هذه عالم بالشرع مجتهد فيه بارع في علومه، هكذا كانت حال شيخ الإِسلام رحمه الله؛ أي: إن قول القائل: إنه العالم بالمنقول والمعقول يعني أنه عالم بكل علوم عصره، الدينية والدنيوية، علوم الأمة وعلوم الأمم الأخرى، مذاهب الأمة ومذاهب الأمم الأخرى.
لا شك أن هذه المعرفة تؤهل صاحبها للقول الفصل وبيان الموقف الحق، ولهذا لم يكن أصحاب المذاهب الأخرى المشهورة في درجة موقف شيخ الإِسلام، فقد عُرف في تاريخ الفكر الإِسلامي موقف الغزالي السابق مثلًا، وموقف ابن رشد، وغيرهما من أرباب الكلام والفلسفة والفكر، ولكن الفرق شاسع بين من اختلط فكره بالكلام أو التصوف أو الفلسفة وبين من كان محيطًا بها عارفًا بموادها دون أن يختلط بها أو تُؤثِّر فيه كما هو حال شيخ الإِسلام ابن تيمية فضلًا عن الاعتراف بمنزلته في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلومها حتى يظن من قرأ له في أحدها أنه لا علم عنده إلا هذا العلم.
ومع أن الموقف الذي بينه شيخ الإِسلام يكمل المواقف السابقة لعلماء المسلمين ويتممها بما فيها المواقف الحسنة لعلماء تأثروا بالكلام والفلسفة، إلا
(1) يمكن النظر إلى جزء من ذلك في "فهارس الفتاوى" التي تبيّن سعة معرفة شيخ الإِسلام بهذه الفنون المختلفة أو "فهارس الدرء".
أنه يعيد صياغتها وتصفيتها عبر تأصيلها بمنهج سلفي متكامل وشامل، فيتجنب بهذا كل المزالق التي سلكها بعض من سبقه من أهل الإِسلام.
ومن أهم الأعمال العامة التي قدمها شيخ الإِسلام رحمه الله للحضارة الإِسلامية في الموقف من العلوم المختلفة، ولاسيما ما له علاقة بموضوع البحث نقف مع ما يأتي:
1 -
إعادة النظر في المنهج:
لقد كان بعض علماء الإِسلام قبل شيخ الإِسلام يحسنون الظن بالمنطق، بل كان هذا حال شيخ الإِسلام حيث يقول رحمه الله:"فإني كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد. ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأينا صدق كثير منها، ثم تبيّن لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه"(1)، وكان من بين ما نبه إليه رحمه الله أن هذا العلم "المنهج" قد يكون عائقًا حتى في تقدم العلوم الدنيوية حيث يقول:"وأيضًا لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم، وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعتهم بغير صناعة المنطق"(2). وهو وإن مارس هذا النقد فهو يؤسس لمنهج آخر، هو المنهج الذي يؤدي إليه النظر في النصوص الشرعية، وهذا المنهج هو الأقرب لوجود علوم دنيوية نافعة، يقول "علي النشار" في ذلك:"ولكن إذا كان ابن تيمية لم يقبل القضية الكلية اليقينية -مقدمة البرهان ونتيجته- كأساس أو مصدر للعلم، فما هو هذا الأساس عنده؟ هذا الأساس هو "الحس" أو "التجربة" وهو بهذا يسبق "بيكون" و"مل" في جعلهما التجربة أو الاستقراء أساس المعرفة "إنهم لم يمكنهم التوصل إلى القضية: النار تحرق، بدون التجربة والعادة" وأصدق القضايا نتائج هي التي تعتمد على التجربة، وهي القضايا الجزئية "إن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لو لم ندرك بالحسّ إحراق هذه النار، وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة -فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلت: كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا
(1) الفتاوى 9/ 82.
(2)
نقض المنطق ص 168 ومثله: ص 166.
يقينيًا إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى" وهنا يتشابه ابن تيمية وجون إستيوارت مل، بل يكاد مل يتكلم بأسلوب ابن تيمية في كتابه Asystem of logic وهو يذكر مثال النار هذا"(1).
إن شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله لا يكتفي بالنقد الهادم دون ثمرة، بل إن نقده يفتح الباب للتأسيس المنهجي والنظري للحركة في العلوم الدنيوية، ومع أنها ليست ميدان عنايته إلا أن التأصيل لها هو من مهمات العلماء. ولكن هذا العمل العظيم الذي قام به شيخ الإِسلام رحمه الله قد جاء في وقت ضعف شديد للأمة، وللأسف تخلت الأمة عن هذه الرؤية فأخذتها أمة أخرى، فانتقلت من المنهج الصوري العقيم إلى المنهج التجريبي النافع، وبرعت في العلوم الدنيوية.
2 -
إعادة ترتيب الموقف من العلوم:
وكما قدم شيخ الإِسلام موقفه النقدي من المنهج السائد آنذاك، فقد قدم أيضًا إعادة ترتيب للعلوم الدنيوية: بحيث يعالج التوظيف السلبي لها أولًا، ثم توضع في مكانها المناسب ثانيًا، ثم يقدم لها التشجيع والدعم في الأبواب النافعة ثالثًا.
فقد كانت العلوم تؤخذ ضمن مُركّب مزعج، حيث كانت ضمن الفلسفة، وتتفاعل تلك العلوم مع بعض المعطيات الفلسفية، ومن ثمّ تتأثر بها، فقد أخضعها الفلاسفة لأهوائهم الفلسفية، بما في ذلك أوائل الفلاسفة من اليونان وغيرهم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام:"وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية. لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًا"(2)، ورغم أن متفلسفة أهل الأديان أحسن حالًا من الفلاسفة الوثنيين ومع ذلك فقد بقيت مادتهم الفاسدة تؤثر في هذه العلوم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام أيضًا: "نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد. وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم
(1) مناهج البحث عند مفكري الإِسلام. . . .، د. على النشار ص 226، وانظر كلام ابن تيمية، الفتاوي 9/ 219 وما بعدها.
(2)
الفتاوى، 19/ 330 - 331.
العناد؛ لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ" (1). فإذا كانت هذه العلوم متأثرة بهذه الأجواء فمن الواجب إزالة ما لا علاقة له بالعلم من أمور فلسفية غير نافعة، ثم إذا كانت هذه العلوم صحيحة في ذاتها ونافعة، فلا مانع من ترجمتها إلى اللغة العربية وتعلمها من قبل المسلمين، ففي سياق أحد الموضوعات التي تحدث عنها شيخ الإِسلام قال رحمه الله: "فإن ذكر (2) ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل الطب والحساب المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل: محمَّد بن زكريا الرازي وابن سينا ونحوهم من الزنادقة الأطباء ما غايته: انتفاع بآثار الكفار المنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز. كما يجوز السكنى في ديارهم ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض"، إلى أن قال: "فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال -تعالى- {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة كأحمد وغيره، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة مثل ولايته على المسلمين وعلوه عليهم ونحو ذلك. فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك.
وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالًا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي: فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال -تعالى-:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 33] ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن
(1) الفتاوى 9/ 135.
(2)
الحديث هنا عن الفلاسفة اليونان وأتباعهم والمتأثرين بهم.
كان ما يذكرونه مجملًا فيه الحق، وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل أرسطو وأتباعه وعلى من اتبعهم من الآخرين، قُبِلَ الحق ورد الباطل. . . ." (1).
بعض عناصر رؤية شيخ الإِسلام حول العلوم البشرية ومناهجها:
والحق أن تفصيل موقف شيخ الإِسلام حول هذا الموضوع يحتاج لدراسات متخصصة، والمقصد هنا إعطاء خطوط عامة عن المهمة التي قام بها مجدد زمانه شيخ الإِسلام رحمه الله، وتفيدنا في باب العلوم البشرية والعلوم النافعة الموجودة عند الأمم الأخرى، فبعد أن رأينا الموقف الإجمالي نتوقف مع بعض عناصره التي تُعدّ من أساسيات النهضة العلمية الحديثة داخل الحضارة الأوروبية، إلا أن تلك الحضارة أزالت عنها روحها بسبب إيغالها في المادية وتبنيها العلمنة. وليس المراد هنا إثبات سبق شيخ الإِسلام إلى إنجازات غيرنا فقط، وإنما المراد أن حضارتنا الإِسلامية كان بإمكانها أن تنطلق بمقوماتها الذاتية، وأن تستفيد مما عند الأمم الأخرى بعد تبيئتها بما يناسب حضارتنا وهويتنا. ومن العناصر التي سأقف معها وكانت من أساسيات النهضة الحديثة في العلوم ما يأتي:
1 -
الابتعاد عن المنهج الصوري وتبعاته والحرص على المنهج التجريبي وثمراته.
عرف ذلك من الفقرة الأولى في المنهج، ونراه أيضًا في موضوعات العلوم، ولذا نجده يعترض على التقسيم السائد للعلوم عند الفلاسفة فيقول:"إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي. والإلهي أشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن الإنسان لا يتصور إلا شكلًا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا -ولو تصور كل ما في إقليدس- أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج. . . ."(2). وقد عُرض في الفصول الأولى من هذا الباب أن أعظم مهمة قام بها علماء أوروبا هو الانتقال من الموضوعات الصورية إلى الحسية
(1) نقض المنطق ص 96 - 97، وهو في الفتاوى 4/ 113 - 115.
(2)
الفتاوى 9/ 125 - 126.
التجريبية، وما تبع ذلك من ازدهار العلوم الطبيعية وما لحق ذلك من ثورة صناعية وتقنية.
2 -
إثبات الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في مخلوقات الله سبحانه:
فمن المعلوم اليوم أنه بفضل اكتشاف "القوانين" التي وضعها الخالق سبحانه في مخلوقاته أمكن التقدم بالعلوم الطبيعية والانتفاع بذلك غاية النفع، وهي التي قام عليها العلم الحديث، حيث ارتبط التقدم العلمي باكتشاف المزيد من هذه القوانين، وهذه القوانين لا يمكن تصور وجودها إلا بالإقرار بمبدأ السببية (1).
بالعودة إلى شيخ الإِسلام وعلماء السلف عمومًا نجد أن من أصولهم إثبات الأسباب والرد على منكريها من الجبرية وأمثالهم، ونكتفي بهذا الشاهد لشيخ الإِسلام حيث يقول:"ولكن المقصود هنا أن كثيرًا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره، وأنكروا حِكَمَ الله المقصودة بذلك، وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، وأمثال ذلك هي "لام العاقبة" ليست "لام التعليل"، إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئًا لأجل شيء.
فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوىً تكون سببًا لحدوث شيء" (2)، ثم قال بعد كلام طويل: "والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازًا، وهم يثبتون لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد، لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون: إن الله خالق كل شيء
(1) انظر مثلًا: الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود فهمي زيدان، ولاسيّما ص 102 وما بعدها.
(2)
الصفدية، شيخ الإِسلام ابن تيمية 1/ 147 - 148.
وربه ومليكه، وإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله"، إلى أن قال: "فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعًا، ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لابدّ له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه، كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك، فإنه لابدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه، وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل، كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل" (1). والمسألة قد ناقشها شيخ الإِسلام في مواطن كثيرة، لاسيما وهو مبحث له علاقة بمباحث الربوبية والقدر والمعجزات، وهي أبواب قد وقع فيها ضلال كبير بين طوائف الملل ومذاهبها، والمقصود هنا أنه أيضًا له علاقة بجانب العلوم الطبيعية، ومنهجها التجريبي القائم على الاستقراء، ولا يستقيم أمرها إلا بإثبات السببية، ولكن إثباتها عند الماديين يختلف عن إثباتها عند أهل السنة، حيث يجعلونها مستقلة بذاتها غير مفتقرة لموجدها، وهذا من الإلحاد في توحيد الربوبية، فمنهج أهل السنة هو القول الوسط في أهل الإِسلام كما أن أهل الإِسلام بين أهل الملل والنحل والأديان، فمع إثبات السببية والأثر والتأثير والعلة وقوى الطبائع يثبتون مع ذلك افتقارها الدائم لموجدها ومدبرها سبحانه.
3 -
معالجة دعوى التعارض بين العقل والنقل:
لقد كانت هذه الدعوى من أكبر المسائل التي عالجها شيخ الإِسلام رحمه الله في كثير من فتاويه وإجاباته وكتبه، نجدها في أغلب ما كتب، ونظرًا لأهميتها فقد خصص لها أهم كتبه وأعظمها شأنًا وهو "درء تعارض العقل والنقل" ذاك السفر العظيم الذي قلّ نظيره في الفكر الإِسلامي والإنساني، وقد ناقش شيخ الإِسلام في كتابه هذا وبقية كتبه ما وصل إليه الفكر الإنساني من توهمات بين العقل والنقل، فأزالها عن بكرة أبيها، ونقد كل المناهج الضعيفة التي حاولت معالجة المشكلة، وجاوب عن المشكلات المتوهمة، ووصل إلى النتيجة
(1) المرجع السابق 1/ 154 - 155.
المنطقية: أن الحق لا يعارض بعضه بعضًا، وإن وقع توهم التعارض فإما أنه من ضعف النقل أو من الخطأ في فهمه أو هو من فساد العقل وعدم صحة مقدماته أو نتائجه. ويمكن القول: إن السقف الذي وصلت إليه كل المشكلات في زمن شيخ الإِسلام قد أجاب عنها جميعًا، وإن لم نجد نصًا حول جزئيةٍ ما فسنجد من الأصول وقواعد المنهج ما يكفي لمعالجتها. وبهذا وقف شيخ الإِسلام رحمه الله مع أكبر مشكله ثقافية عرفها تاريخ الفكر البشري بين الدين وعلومه والعقل وأفكاره ومعارفه. وسيأتي لدفع التعارض مزيد حديث في الباب الثالث.
كانت هذه بعض معالم موقف شيخ الإِسلام ابن تيمية من المعقول في زمنه، وكانت العلوم الإنسانية تدخل فيه. يتمثل موقفه في إعادة تقييم المناهج السائدة ونقدها، وذكر البديل عنها، ثم بيان الموقف من العلوم، من جهة أهمية الانتفاع بالنافع منها وتصفيتها مما اختلط بها من آثار فلسفية ميتافيزيقية، وإزالة معوقات التقدم العلمي كمناقشته لنفاة السببية أو نقده لمعظمي المنهج الصوري على حساب الحسي التجريبي، ومعالجة مشكلة التوتر الكبيرة داخل الفكر بسبب دعوى التعارض بين النقل والعقل.
يندرج هذا الموقف لشيخ الإِسلام في مشروع أكبر له عرفه تاريخ الفكر الإِسلامي، فلم يُعرف باب إلا وطرقه وأعاد تأصيله وفق منهج أهل السنة ومذهبهم، بما يجعل الأمة أقرب لتمثل الإِسلام كما قرره السلف الصالح مع إعطائنا قوة للانطلاق الجديد.
الانطلاقة السلفية للعصر الحديث:
كانت هناك معالم إسلامية شامخة تظهر ما بين فترة وأخرى بعد زمن شيخ الإِسلام رحمه الله، ومع ذلك بقي المشروع في حدود النخبة حتى جاء القرن الثاني عشر الهجري ليشهد انعطافة مهمة مع دعوة الإمام المجدد "محمَّد بن عبد الوهاب" رحمه الله (1206 هـ)، لتدخل الأمة في تاريخها الحديث مع دعوته رحمه الله عصرًا جديدًا، عرف معه ظهور الاتجاه السلفي بقوة بعد أن كان غريبًا في وقت اتساع دائرة أهل الكلام والتصوف والتشيع وفرقهم وطرقهم ومذاهبهم، وكانت فرصة تاريخية للأمة أن تبني مشروع انطلاقتها الحديثة على مذهب السلف، بحيث يُعاد إحياء الدين وفق مذهبهم بعيدًا عن البدع والانحرافات، لما في ذلك
من أثر عظيم في إحياء الأمة دينيًا ودنيويًا، وتبْني مشروعها الدنيوي أيضًا بعيدًا عن آثار التصوف وطرقه أو آثار المادية ومذاهبها.
ويمكن الوقوف مع أحد شخصيات الفترة الحديثة وهو الإمام "محمَّد بن علي الشوكاني" رحمه الله (1250 هـ) الذي نافح عن مذهب أهل السنة، فقد عاش في بيئة اشتهرت بالعلم، فننظر في موقفه من العلوم البشرية غير الدينية.
كل من عاد إلى بداية عصرنا الحديث وبحث عن أسباب التحولات الحقيقية النافعة وجد خلفها جمهرة من العلماء السلفيين، فأهم دعوة إصلاحية كانت مع الشيخ محمَّد عبد الوهاب رحمه الله، وفي اليمن أرض العلم والعلماء في فترات كثيرة من عمر الحضارة الإِسلامية عرفت أيضًا علمًا بارزًا على المذهب الزيدي، ثم تركه إلى مذهب أهل السنة والجماعة (1)، وركز على إحياء الدين ومحاربة البدع ونبذ التعصب والتقليد وكان بحق أحد أبرز العلماء في عصرنا الحديث وهو الإمام "محمد الشوكاني".
عندما واجه مشكلة الضعف والجهل والانحراف وقف بشجاعة وعالجها معالجة علمية مميزة، ومن بين المشاكل التي سعى الشيخ إلى معالجتها مسألة تعلم العلوم الدنيوية بعد أن هُجرت وأقصيت من دائرة العلم. فالشيخ رحمه الله بعد أن حصل على العلوم الشرعية وبرع فيها، طلب أيضًا غيرها من العلوم، فدرسها لوحده ثم درّسها لطلابه، فهو "لم يكْتف باستيفاء ما عند شيوخه من كتب، وإنما كان يطّلع على كتب أخرى كثيرة بشكل مستقلّ عنهم، فقد تعلّم العلوم الرياضية، والطبيعية، والإلهية، وعلم الهيئة، وعلم المناظرة، وعلم الوضع، وحده دون معلّم مباشر، ودرّس هذه العلوم أيضًا لتلامذته"(2). فمنزلته في علوم الشريعة لم تمنعه من الحصول على ما ينفعه من هذه العلوم، ولا يشترط في عالم الشريعة أن يكون عالمًا بهذه العلوم ولكنه يكون أقدر على مواجهة مشاكل عصره عندما يكون على معرفة بها وحقق الحدّ الأدنى المطلوب منها لعالم أمة، وهذا ما ميّز
(1) هناك رسالة علمية تبيّن ذلك بعنوان: منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، د. عبد الله نوموسوك، وانظر حول مذهبه في العقيدة مجملًا من الرسالة نفسها: 1/ 124 وما بعدها.
(2)
انظر: المرجع السابق 1/ 87، وفي البدر الطالع للشوكاني 2/ 219، ضمن ترجمة الشوكاني لنفسه 2/ 214.
علماء كبار من علماء الإِسلام، فقد رأينا مثلًا سعة اطلاع ابن تيمية وابن القيم على ما في عصرهم من علوم غير العلوم الشرعية، فتكون مشاركتهم عند ذلك في معالجة المشكلات النابعة من هذه العلوم أقوى وأكثر إقناعًا لخصومهم.
خصص الشوكاني للعلم، وطلبه، وعلومه، كتابه:"أدب الطلب ومنتهى الأرب" وذكر فيه ما ينبغي للطالب أن يدرسه، حتى وصل إلى العلوم البشرية الدنيوية، ونظرًا لأنّ هناك إهمالًا كبيرًا لها من قبل الأمة، ولاسيما أن فائدتها لم تظهر للناس؛ لأنها في حاجة إلى تحويل من النظري إلى العملي، وهو ما تكاسلت عنه الأمة في عصورها الأخيرة، فلا نجد عند علماء كأمثال الشوكاني بيانًا لأهميتها الدنيوية، وإنما تطلب لفوائد عقلية.
وكانت معاناة "الشوكاني" مع الرافضين لها تجعله يداري في تقديمه للموضوع، وهذا بخلاف الأعلام السلفيين في القرن الرابع عشر الهجري مثلًا، فلا توجد عندهم هذه المدارة، بل ليس هناك سوى الصراحة في الحثّ على تعلم العلوم الدنيوية، حتى وإن كانت في الغرب وفي بلاد الكفار، فيجب تعلمها والإحاطة بها والبراعة فيها، أما الإمام الشوكاني فكانت حدوده معروفة بسبب حال الأمة الضعيف، وبسبب المعارضة من قبل بعض أهل الدين، فنجد في كتابه:"أدب الطلب" نصًا له دلالاته المهمة، يقول الشيخ:"ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سرورًا، والنفس انشراحًا، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب"(1)، فالشيخ لا يتردد في ذكر فائدتها وأهميتها ولكنه كما سبق جعل ذلك محصورًا في صقلها العقل وسرور طالبها النفسي، ولم يكن عصرهم قد كشف حالها من جهة سعة فائدتها لحياة الناس وإلا لاختلفت صياغة النص، وتغيرت كلمة "لا بأس" وتغيرت "الفوائد المرجوة"، مع العلم أن هذه العلوم قد جعلها الشيخ لطالب العلم الشرعي، فبعد أن يُحصّل علوم الشريعة يطلع على هذه المعارف، وليست لمن يتفرغ لها كمن تفرغ للطب مثلًا.
(1) أدب الطلب ص 124، عن الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 644 - 645.
وهو يُحذّر طالب العلم من الضعف أمام إكراه المجتمع، كذمه لهذه العلوم وذم من يقرأ فيها، فيقول:"وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة، ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك شعبة من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما قد يكون لديك من العلم، غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء، وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة، فإنه ربما يتزلزل وتحول ثقته"(1). وهو تنبيه للشيخ يمكن أن نُعبّر عنه بلغة عصرنا: بأهمية إعداد الجيل الذي سيتلقى هذه العلوم من جهة، وأهمية تصفية هذه العلوم -مادام أنها مهمة- مما خالطها من أفكار فاسدة تزلزل صاحبها وتحول ثقته من جهة أخرى، إنه بكلمات سهلة: التأصيل الإِسلامي لهذه العلوم بإيجاد البيئة الإِسلامية لها والمناخ المناسب، لتنمو في توافق مع الدين ونفع للدنيا، "فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت، واستكثر من الفنون ما أردت، وتبحر في الدقائق ما استطعت، وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل:
أتانا أن سهلًا ذم جهلًا
…
علومًا ليس يعرفهن سهل
علومًا لو دراها ما تلاها
…
ولكن الرضا بالجهل سهل
وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم، لا يدري به ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه. . . ." (2).
وهنا التنبيه الثاني المهم: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبسبب الجهل أو الكسل يعتذر البعض بحيل نفسية للهروب من مواجهة الحقائق، وأيسر تلك الطرق: الرضا بالجهل لسهولته، مع ذم من تصدى لتلك العلوم، من باب رفع اللوم عن الذات. صحيح أن ما ثبت فساده وإفساده من العلوم فلا تردد في ذمها والتحذير منها، أما العلوم الصحيحة أو العلوم النافعة فلا يصح ذمّها أو ذمّ
(1) المرجع السابق نفسه.
(2)
عن الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 644 - 645.
من تعلمها، بل الأصل مدحها ومدح من تعلمها، وتزداد مكانتها عندما يظهر نفعها للناس وحاجتهم إليها، وهذا الموقف الذي أصّل له الإمام الشوكاني رحمه الله حول الموقف من العلوم البشرية النافعة سيواصل العلماء في تأكيده، ويزداد قولهم صراحة مع كل يوم تتكشف لهم ثمرتها، لدرجة إيجابها.