الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعمل عبر جيوشه التي أدارت المستعمرات ويعتمد ثقافيًا على المبشرين والمستشرقين، وبعد خروجه ترك خلفه جيشًا خطيرًا من المتغربين يقودون بلادهم سياسيًا وفكريًا.
ومن المفيد أن نذكر أن "العلوم الحديثة" لو كانت بأيدٍ أمينة قد لا يسلم أصحابها من انزلاقها نحو الخطأ أو الانحراف ما لم يجاهدوا في طلب إصلاحها وتصويبها، فكيف لو وقع بأيدٍ غير أمينة وتولى إدارة مؤسساته عدو خطير للأمة خرج للتو من معركة طويلة مع المسلمين قُدر له النجاح فيها بسبب ضعفنا وتقصيرنا، أكتب هذا التذكير؛ لأنّ هناك مجموعة كانت ترى أن دخول الاستعمار كان فيه نجاة الأمة، ودُعاة هذه المقولة هم أصحاب المكاسب، ولاسيما التيار التغريبي (1)، حيث طغى هوى المصالح عليهم فأعمى أبصارهم عن التخريب الخطير الذي صنعه الاستعمار في بنية التعليم.
سياسة التعليم الاستعمارية:
لقد سلك الاستعمار "سياسة تعليمية" خطيرة، ترتكز على دعامتين (2):
الأولى: إضعاف المؤسسات الإِسلامية العلمية على ما تعانيه.
الثانية: رعاية التعليم العصري والتقدم المدني بحيث يصاغ بطريقة تلائِم أهواء المستعمر.
فأما الأولى فقد مورس على المؤسسات العلمية الإِسلامية محاولة خطيرة لإقصائها عن رأس هرم التعليم؛ لما يمثله ذلك من خطر في نظر المستعمر، حدث ذلك بصورة خطيرة مع الأزهر عبر تهميشه وتهميش خريجيه مع وضع نظام تعليمي منافس له، وكذا كانت الحال مع الزيتونة والقرويين وغيرهما (3).
(1) بل وجد من بعض الفضلاء من مدح الاستعمار ونشاطه في إنشاء نهضة علمية داخل بلده مما يحير الباحث في فكره، فهل ذلك من المداراة؟ وهذا هو الأليق بأمثاله، وذلك كما يقال من باب المجاملة السياسية. أم ذلك من الغفلة؟، مثل الشيخ "الحجوي" في المغرب، انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية. . . . ص 164 - 177.
(2)
انظر: المرجع السابق 9/ 276.
(3)
انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 217 - 219 عن وضع الأزهر، وسبق مثال تونس، وحول المغرب انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. أ. محمَّد مالكي ص 151.
أما الثانية وهي الأخطر؛ لأنّ المقصود إقصاء التعليم الإِسلامي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكوين تعليم يحقق ذلك الهدف، وكان من أهم الأمور هو نزع الإِسلام من حقل التعليم، وكذا التاريخ الإِسلامي وكل ما يُذكّر الطالب بإسلامه، وقد تولى "دنلوب" هذه المهمة في مصر (1)، ونجح فيها تحت قوة عسكرية تحميه، لدرجة أن كبير المنصرين -زويمر- في تلك المرحلة يعلن بكل وقاحة:"إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن، ثم تاريخ الإِسلام، وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة، ولا هي مسيحية، ولا يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقًا فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة"(2).
وفي السياق نفسه جاءت شهادة "هاملتون جب" في كتابه: "وجهة الإِسلام" أن التعليم كان أكبر عامل في تغريب المجتمع المسلم، وفيه يقول:"وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإِنجليزي في مصر والهند"، ثم ذكر كيف أضعفت هذه المدارس "النزعة الإِسلامية" عند التلاميذ ثم قال:"لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين، ولو من غير وعي منهم أثرًا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد"(3).
ولا شك أن شهادة هؤلاء لها ثقلها لقربهم من مجال التعليم وصلتهم بالحركة الاستعمارية، وإن كانت ربما تخفي في طياتها رغباتهم أكثر مما هو موجود في الواقع، وكنا سنشك في هذه الشهادات الخطيرة لولا إقرار كثير من المفكرين المسلمين بهذه الحال في المجال التعليمي، ولولا اعترافات طلاب تلك المدارس فيما بعد، ومن ذلك ما قاله الأستاذ "محمَّد لطفي جمعة":"إننا تعلمنا في المدرسة الثانوية. . . . في أوائل هذا القرن (1901 - 1902 م) وكان أستاذنا في التاريخ المستر هيل" حيث أعلى من شأن تاريخ أوروبا وشوه تاريخ
(1) انظر: موسوعة الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) 5/ 51.
(2)
موسوعة الجندي (المجتمع الإِسلامي) 6/ 319.
(3)
المرجع السابق 6/ 337 - 338.
المسلمين وصور "أمة العرب التي أنجبت مئات الألوف من رجال العلوم والفنون والآداب، والذين علموا أوروبا وهذبوها، في وحشية وقسوة تعادل وحشية الفرس الوثنيين قبل الميلاد بخمسة قرون، فصدقنا هذا وآمنا به وتعلمناه وحفظناه وأدينا فيه امتحانات"(1)، وهكذا تُمارس عملية غسل دماغ مركزة على الطلاب.
ويمكن أن نلمس عمق هذا العمل وخطورته في شهادة لرجل -هيكل- كان من كبار حركة التغريب وزعيم فكري لا خلاف حوله عند التغريبيين، فبعد أن انسحب منهم قال في شهادة لا تنقصها الصراحة:"إن وزارة المعارف تخضع اليوم وأمس وستخضع غدًا وبعد غد إلى أن يتاح لها النصر السياسي إلى السياسة التي كانت تخضع لها أيام أن كان "دنلوب" مستشارًا لها مع فوارق عدد المدارس وعدد الأساتذة، إن سياسة التعليم في وزارة المعارف ستظل اليوم وغدًا كما كانت بالأمس وقبل الأمس خاضعة للسياسة الغربية والحضارة الغربية"، إلى أن قال: وهذه "الحضارة استعمارية عدوة للعلم على خط مستقيم، وهي كذلك حيثما ذهبت حاربت العلم وحاولت حصره في طبقة ضيقة، وفي حدود ضيقة لتتخذ من هذه الطبقة بطانة لها تروج الاستعمار"، إلى أن قال:"وكذلك وضعت يدها على وزارات المعارف حيثما ذهبت، وعملت دائبة على إفساد هذه المقومات النفسية والخلقية والقومية مكتفية بطائفة من المعلومات العلمية التي تحتاج إليها أداة الحكم"(2).
وهي شهادة خطيرة ممن عاصر الاستعمار، وكان أداة من أكبر أدوات التغريب، فهي تكشف عمق التغلغل للانحراف في مؤسسة التعليم التي صنعها الاستعمار وتحديات استقلالها، والأخطر من ذلك هو كشفه لزعمٍ يردده المتغربون، فيرد عليهم، وهو الذي كان منهم بأنها وإن كانت مؤسسة علمية فقد كانت ضدّ العلم (3)، مؤسسة تستغل ستار العلم لتُبعد الأمة عن دينها، وتقتل في تلك المؤسسات روح الطلاب وهويتهم الإِسلامية، وحتى في العلوم الدنيوية التي
(1) انظر: المرجع السابق موسوعة الجندي 6/ 322 مع الاختصار.
(2)
موسوعة الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) 5/ 89 - 90.
(3)
ذكرت جريدة "اللواء" في تلك المرحلة بأن (دنلوب هو أقوى آلة وضعها اللورد كرومر لتعطيل التعليم في مصر وأكبر مقاوم لرقي البلاد في باب المعارف. . . .). عن موسوعة الجندي (المجتمع الإِسلامي) 6/ 326.
برع فيها الغرب لم يضع في مدارسه الاستعمارية إلا ما يُخرج لهم مجموعة من الموظفين. وقد ذكر أحد أقطاب الفكر القومي قريبًا من هذا، حيث أوضح أن الاستعمار لم يكن من أهدافه تعليم الشعوب المستعمرة، ولكنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى استغلال البلاد وثروتها فشعروا بضرورة تعليم أولاد المستعمرات لإعدادهم للقيام بالأعمال اللازمة لهذا الغرض، ولم يجعلوه مثل التعليم الغربي؛ لأنّ في الغربي موضوعات عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب والثورات ضد الطغاة والمحتلين، فأزالوا كل ما من شأنه إيقاظ المُستعمَرين (1). وأبعدوا العلوم الإِسلامية من هذا التعليم، وهي التي تشكل هوية المسلم، كما منعوا منها حتى بعض المبادئ الإنسانية، وكان الكرامة والحرية والاستقلال خاصة فقط بالأوروبيين، ويعطون الناس فقط ما يحولهم لأيدي عاملة، وكما قيل:"عقل بريطاني ويد مصرية" أو "أيدي عاملة لا عقول مدبرة"(2)، وفي بعض البلاد كانت سياسة التجهيل في مؤسسات التعلم الاستعمارية هي الأساس كما في الجزائر مثلًا، وإذا فكر الاستعمار بتوسيع دائرة التعليم اعترض المعمرون الفرنسيون في الجزائر بقولهم:"إذا كانت فرنسا عازمة على تكثيف وتوسيع انتشار تعليم الأهالي، فإلى أين سيؤول مستقبل ضيعاتنا؟ أين سنتجه للحصول على اليد العاملة الفلاحية؟ "(3)، فيشترك الجميع من المستعمرين في تحديد هدفهم من التعليم، بحيث لا يتجاوز هذا التعليم تكوين جيل يناسب أعمالهم داخل بلادنا الإسلامية.
آثار السياسة التعليمية الاستعمارية:
سأقف مع آثار خطيرة تركها الاستعمار في بنية التعليم داخل العالم الإِسلامي أسهمت في الانحراف بالعلم، ونحن في أشد الحاجة كما تحررنا من الاستعمار السياسي أن نحرر العلم ذاته من المشكلات التي صنعها الاستعمار بداخله.
(1) انظر: أحاديث في التربية والاجتماع، ساطع الحصري ص 86 - 88.
(2)
انظر: المقولتين في موسوعة الجندي 6/ 325، وانظر: الشيخ الثعالبي ودوره في الإصلاح الديني، مسعودة الخضرة ص 69.
(3)
انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. أ. محمد مالكي ص 348 - 350، وقول المعمرين هامش (65).