الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجتمع بأنها تدل على ما يضاد الدين أو يغير من حقائقه، فلابد من تحليل أثر "المدرسة الحديثة" المسؤولة عن تعلم هذه العلوم فنبحث طريقتها في التعامل مع هذه المشكلة.
الفصل والانفصال: الفصل بين المجالين الديني والدنيوي، والانفصال عن هوية الأمة:
تبرز أولى المشاكل وضوحًا وأخطرها طوال دراسة هذه العلوم وهي مشكلة الفصل، فإذا تجاوزنا مشكلة الفشل في تحقيق استقلال معرفي في هذه العلوم إلى الآن فضلًا على المنافسة فيها، إذا تجاوزنا ذلك إلى إحدى المشاكل التي رافقت المدرسة من ولادتها وتكرّست مع الأيام فسنجدها واضحة في عملية الفصل بين العلوم العصرية وبين العلوم الشرعية، وما ترتب على ذلك مع الزمن من قطيعة وربما تصادم ما زلنا نعاني منه إلى اليوم (1).
وقد بدأ الفصل بينهما كعملية إدارية وفنية، ولكنه تحول فيما بعد إلى عملية ثقافية خطيرة، فقد وصل الأمر في بعض الأماكن وبعض الفترات التاريخية المعاصرة إلى إهمال العلوم الشرعية وانتقاصها ونسب ضعفنا وتخلفنا إليها، ومن ثم تقليص حجمها في التعليم وتقليص مكانتها في المجتمع، والاستهانة بقيمتها العلمية والعملية حتى في المجال الديني، وتقديم النظريات العلمية وما ينتسب للعلم على الأصول الدينية عند توهم التعارض وغير ذلك مما نتج عن عملية الفصل.
ربما كان للاحتكاك بالغرب وطلب العلم الحديث منه الأثر الأخطر؛ فقد كان الاحتكاك الأول بفرنسا، وهي التي نجحت فيها الثورة العلمانية، فخُصصت المدرسة للعلوم المادية الدنيوية والاجتماعية والإنسانية بشرط إخراج الدين منها ليتبع الكنيسة والأسرة، وقد تم تأسيس المدرسة العصرية في البلاد الإسلامية عبر الاستعانة بفرنسا، فنشأت تحت تأثيرهم بعلمانية مقنعة؛ لأن المدارس الأولى كانت معاهد للعلوم النافعة من طب وهندسة وما في بابها، وهي علوم تنفع صاحبها ولا تضر بدينه، ولكن وجد بعد ذلك أنه لابد من دراسة سابقة لعلوم
(1) انظر: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني ص 208.
أخرى: "رياضية وطبيعية واجتماعية" فظهرت المدرسة التي تهتم بتحقيق الحد المطلوب منها، وكان أغلب مدرسيها آنذاك من الأجانب ومن غير المسلمين، وهؤلاء إن سلموا من قصد التأثير السلبي في المسلمين فلن يسلموا من اختراق العلمنة والمذاهب المادية الجديدة لأدمغتهم وأثر ذلك في هوية المدرسة التي يؤسسونها.
لقد أوجدت المدرسة الحديثة مشكلة الازدواجية عند الطالب والمجتمع المتعلم دون إرث تاريخي يمكن من خلاله فهم مشكلة وجود الازدواجية وتخفيف تبعاتها كما حدث مثلًا في فرنسا العلمانية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فهي ذات إرث في المشكلة تعود إلى القرن العاشر/ السادس عشر منذ الصراع المشهور بين نظرية الفلك الجديدة والمجتمع، أما في بلاد المسلمين فالأمر يختلف حيث أُقحمت العلوم الجديدة عبر المدرسة دون تصفيتها من جهة مما ليس علمًا ودون مواءمتها من جهة أخرى مع ثقافة المجتمع، فولدت الازدواجية والانفصال والانقسام بين تعليمين ومدرستين.
أصبح الطالب يتلقى صورتين عن العالم من حوله، صورة من مجتمعه عبر الوسائل التقليدية وصورة من المدرسة الأجنبية، قيمٌ من هنا وقيمٌ من هناك، حقائق من هنا وحقائق من هناك، وحتى عندما أُدخلت مواد من تراثنا وعلومنا، فهي لم تدخل دائمًا بقناعة تامة بها بقدر ما كانت تحت ظروف سياسية، والدليل على ذلك تلك المعاناة (1) التي تلحق بها عادة من تقليص حجم وقتها ووضعها في أوقات غير عملية وعدم العناية بمناهجها ومدرسيها مقارنة بمواد العلوم الأخرى.
لم تؤخذ العلوم الجديدة وتدرس بروح التكامل مع علوم الأمة، بدأ الفصل فنيًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ولكنه تحول إلى تقسيم ثقافي واجتماعي، وإلا فالمسلم لا يعرف هذه القسمة في أثناء التطبيق؛ لأن كل علم نافع يدخل عنده في طلب الأجر وقصد الآخرة وابتغاء وجه الله سبحانه، فهو وسيلة للفهم والانتفاع، ولكن المدرسة العصرية فصلت بينهما فصلًا يتجاوز العمل الفني ليرسخ عند الطالب والمجتمع قضايا أخرى، فتحول الفصل من فني إلى الفصل
(1) انظر حول هذه المعاناة: واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 217 وما بعدها.
بين عالمين مستقلين وربما متصادمين مما يجعل الطالب مجبرًا على الاختيار إما هذا أو هذا، وتقديم أحدهما على الآخر. وهذا التقسيم هو السائد إلى الآن بما يوحي به من خلفيات، فنجد مثلًا التقسيم في المدرسة بين "علمي وأدبي" ويدخل في العلمي مواد العلوم المختلفة من رياضية وطبيعية واجتماعية، بينما الأدبي يدخل فيها الدين واللغة، وهناك كليات العلوم والكليات العلمية وهناك الكليات الأدبية، وترسّخ في وعي الأفراد والمجتمع ما هو أوسع من التقسيم الفني: ترسخت أمور على مستوى التصور ومستوى النفع، ففي مستوى التصور -وهو المهم للبحث- نجد المسائل العلمية تقبل دون جدال حتى وإن كانت من باب الفرضيات والنظريات بينما الدينية لا تؤخذ بمثل تلك الروح، وفي مستوى الانتفاع يعدّ الدارس في الكليات العلمية من المحظوظين، ويتميز بقبول اجتماعي وتجده مفتخرًا بهذا المكان، والمستقبل الوظيفي واعد بخلاف الدارس لعلوم الأمة، مع أن العلم في المجال الإسلامي لا يعرف هذه القسمة، فكل علم صحيح ونافع تقبله الأمة ويصبح جزءًا من العلم الممدوح والمطلوب، ويمدح صاحبه، ولكن المدرسة بسبب ولادتها الخاطئة قد فصمت هذه العلاقة الحسنة بين المجالين وقدمت أحدهما على الآخر.
قد يعتذر البعض للمدرسة الحديثة بأنها ولدت في ظروف صعبة، ولكن السؤال: لِمَ أُبقي على هذه المشاكل كل هذه السنين؟ هل المراد بقاء المشكلة دون حل ليبقى التوتر، أم أن الحل كان عسيرًا على أمتنا كل هذه السنين؟ الأقرب مع "المدرسة الأجنبية" ثم "الاستعمار" ثم "أحزاب تغريبية تولت السلطة وإدارة التعليم" أن الهدف كان إبقاء المشكلة قصد إبعاد العلوم الإسلامية، علينا فقط مراجعة دور الاستعمار في مصر أو بلاد المغرب أو الشام، أو مراجعة الأحزاب العلمانية، مثل:"تركيا الفتاة" و"جماعة الاتحاد والترقي" التي وصلت للسلطة في مقر الخلافة، وعند مراجعة هذه الأحوال وأشباهها نعلم بأن المدرسة حُرمت من الحل الإسلامي قصد تغريب المجتمع عبر أهم المؤسسات الاجتماعية وهي "المدرسة"(1).
(1) انظر: حاضر العالم الإسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 194 وما بعدها، وانظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 217 وما بعدها.
وقد يعتذر البعض للمدرسة الحديثة بعذر شائع طالما كُرر هنا وهناك، بأن سبب الإصرار على الفصل والعناية بالعلوم العصرية بعيدًا عن النظام التعليمي الإِسلامي هو جمود علماء الشريعة، وإصرارهم على أقوال لا يقبلها العلم. ويُردّ على هذه الدعوى الكاذبة بأن علماء الإسلام في كل تاريخهم ما اعترضوا على علم نافع وصحيح (1)، وإن وجد بعض من اشتبه عليه الأمر في هذه العلوم أو أُلْبِس عليه أو أخطأ، فإن الصحيح عبر تحليل المشكلة أن هؤلاء المعترضين لم يكونوا السبب في صناعة الفصل وإنشاء مدرسة عصرية للعلوم الجديدة لا ترتبط بالأمة، وإنما كانوا ذريعة لمآرب أخرى، فإن وضع المدرسة الحديثة أعقد من ذلك بكثير:
إذ كيف يتصور وجود انسجام بين علماء الشريعة وبين مدرسة وضعها الأجنبي عبر إرسالياته أو عبر نفوذه السياسي ثم رعاها الاستعمار بعد احتلاله لبلاد المسلمين ثم بعد استيلاء مذاهب تغريبية على السلطة والتعليم؟ إن الوعي بمدرسة تُدار بهذه الصورة لا يمكن أن تلقى القبول عند الأمة إلا بعد تحويلها إلى مشروع للأمة وليس مشروعًا للأجنبي وأتباعه، ويصح التوقف مع العذر لو كانت المدرسة مشروعًا للأمة، ثم جاء بعض أبنائها ليعترض عليها، أما وهي مشروعٌ يبحث عن المصالح الشخصية أو مشروعٌ يرغب في اختراق الأمة فلا يمكن اعتبار ذلك العذر حقيقيًا، ويؤكد ذلك أن المدارس الإسلامية التي تبناها بعض فضلاء الأمة وجمعوا فيها بين العلم الموروث والعلم العصري تمَّ حصارها حتى أُقفلت، مثل مدرسة الشيخ حسين الجسر في بلاد الشام أو مشروع الشيخ محمد رشيد رضا في مصر، والحصار هنا بحرمانها من شروط الاستمرار وله صور وأشكال مختلفة، وقد كان يمكن لهذا النموذج أن يعالج الإشكال الناتج عن الفصل ويقضي على الازدواجية ويجعل العلوم في ذهن الطالب -وكذا تصور المجتمع- ذات طابع تكاملي، ولكن المشروع في ظل الأهواء الأجنبية حُرِم من الاستمرار، وبقيت المدرسة المغروسة بأيدي أجنبية دون حرص لمعالجة المشكلة.
(1) سيأتي بإذن الله بيان موقف العلماء في الفصل الخامس، التمهيد مع المبحث الأول، ص.
إذًا فقد كرّست المدرسة الحديثة الفصل بين العلم الموروث بما فيه العلم الشرعي وبين العلوم الحديثة، كرستها على مستوى الإدارة ثم على مستوى المفهوم والثقافة والمصطلحات، فاتسعت الهوّة بينهما، فيما كان الأصل حدوث التعاون والتكامل بينهما، وقد تحول الفصل مع الأيام إلى عداء واستبعاد، فاستبعدت المدرسة في بعض فتراتها العلوم الإسلامية وعرضت ما ينافيها ورفعت من شأن العصري على حساب العلوم الإسلامية.
كانت المدرسة الحديثة منفصلة عن الأمة الإسلامية، عن همومها وآمالها، عن ثقافتها وموروثها، فلم تكن مشروع الأمة، بل كانت مشروع سلطة عند البعض ومشروعات تنصير أو اختراق عند آخرين، وفي كل الأحوال تولى إدارتها الأجنبي غالبًا، وعندما برزت حكومات مستقلة كادت المدرسة أن تتحول إلى مشروع تغريب، ولهذه الأسباب لم تراع المدرسة أول أمرها ثقافة الأمة ولم تهتم بمعالجة المشكلات المتوقعة من علومها ومعارفها ومناهجها، واستمرت في تقديم العلوم العصرية بخلفياتها الحضارية الغربية دون مراعاة لهوية الأمة (1)، وإن كان هناك بعض الجهات أخف من غيرها.
والكتاب المدرسي (2) حاله كحال المدرس الأجنبي أو الإدارة الأجنبية، لقد كان طموح المبتعثين الأوائل اختيار بعض كتب الأوروبيين وترجمتها، وتكوّن منها ومن عمل بعض الغربيين التابعين لمدارس التنصير الكتاب المدرسي، وهؤلاء لم ينتبهوا إلى اختلاف البيئات الدينية والثقافية، فلم تراع عند وضع الكتب المدرسية. لقد كان السائد في فرنسا بعد الثورة العلمانية والاجتماعية مذاهب علمانية ومادية تُؤلَف في ظلها الكتب المدرسية؛ ولذا تتوافق كتبهم المدرسية مع المبادئ والتصورات السائدة في بيئتهم، وكمثال فعندما نقرأ كتاب ربنا سبحانه حول الآيات الكونية من تعاقب الليل والنهار والحرّ والبرد والفصول وحركات النجوم والكواكب وأحوال الأرض وما يحيط بها من مطر وريح وغير ذلك، نجد كل ذلك مرتبطًا بالإيمان بالله سبحانه، فهذه الأمور يُغفِلها الكتاب
(1) انظر: المد الإسلامي. . . .، أنور الجندي، مبحث تحديات في وجه التعليم والتربية والثقافة ص 341 وما بعدها.
(2)
انظر الدراسة المميزة: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، وعن الكتاب ص 61.
المدرسي في الغرب؛ لأنه قد فصل بين العلم والدين، بين العلم والإيمان (1)، وعزز في ظل تنامي المذاهب المادية الاستقلال التام للطبيعة بأمورها والاكتفاء في أحسن أحوالهم بما يطلقون عليه:"التأليه السببي" القائل بأن الله أوجد هذا العلم بقوانينه التي يتطور ويتحرك في ظلها ثم تركه، وبهذا يكون الكتاب المدرسي عندهم متوافقًا مع المبادئ والتصورات والرؤى السائدة عندهم، وإن كان أهل الدين منهم يعارضون ذلك ويحاولون في المدارس التابعة للكنيسة تخفيف تلك الرؤى المادية الحسية الوضعية.
عندما وضع الكتاب المدرسي في بلاد المسلمين وقع في أسر تقليد الكتاب المدرسي هناك؛ لأنه في الغالب ما هو إلا ترجمة عن ذلك الكتاب، ويكفي دليلًا على ذلك استعراض أي كتاب مدرسي في عدد من مناهج التعليم في البلاد الإسلامية لتجد ذلك الاختفاء -أو الظهور على استحياء- لكل ما يدل على تدبير الله سبحانه لهذا الكون وكل ما فيه، واختفاء بيان غاية مهمة من معرفة أسرار هذا الكون وهي زيادة المعرفة بالله سبحانه وما يلزم من ذلك من تحقيق التوحيد والعبادة له سبحانه، واستثمار هذه العلوم فيما يرضيه ويعود بالنفع على الأمة (2)، ولكن لا يعني أن المدرسة لم تحقق النفع في العلوم العصرية فما يقول ذلك باحث موضوعي، نعم لم تنجح نجاح مثيلاتها في الغرب في باب العلوم العصرية في تحقيق استقلال علمي والارتقاء بالعلم إلى باب المنافسة، ولكن المقصود أن المدرسة العصرية منذ نشأتها لم تمنع مشكلة الانحراف بالعلم
(1) انظر: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني ص 196 وما بعدها.
(2)
انظر: حاضر العالم الإسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 196، وانظر: اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب، أنور الجندي، مبحث تعريب التعليم والجامعة والتربية ص 189 وما بعدها، وانظر: غزو في الصميم بكامله، عبد الرحمن الميداني، وانظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب، حول مناهج التعليم زمن الاحتلال ص 217 - 234، وانظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، محمد حسين، ولاسيّما فصل (قديم وجديد) 2/ 190 وما بعدها، وانظر له أيضًا: حصوننا مهددة من داخلها، فصل (في مناهج اللغة والدين) ص 161 وما بعدها، وانظر: الغزو الفكري في المناهج الدراسية (أولًا) في العقيدة. . . .، علي لبن، وانظر: الجهد المميز من جهة رصدها في موسوعة أنور الجندي ومن المعلوم أنه قد اختلف الحال في السنين الأخيرة بعد بروز الصحوة ودورها المهم في تصحيح المسار التعليمي.