الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوصلهم إليه ظهور النظرية الدارونية، مما فتح النقاش عن إعادة النظر في قيمة النظرية العلمية وحدودها وكذا قيمة الدين وحدوده.
أ- مفهوم النظرية:
ما زال الحديث ممتدًا عن نظرية التطور الدارونية؛ لأنها تريد أن تفرض على علوم الطبيعية بعض مبادئها، لذا أصبح من المهم وضع النظرية العلمية موضع الدراسة والعناية في فلسفة العلم المعاصر، فضلًا عن أنها جزء لا يتجزأ من تركيبة العلم الحديث والمعاصر، ولهذا قامت مناهج وعلوم تدرس مفهوم النظرية وحدودها وإمكانياتها وطرق الحكم عليها والخلاف حول خروجها عن إطارها إلى غير ذلك.
لقد أصبحت النظرية العلمية جزءًا من مفهوم العلم، حتى إنك لا تستطيع القول بأنه علم إن لم يكن فيه مجموعة نظريات، إما للتفسير أو نموذج إرشاد أو قياسًا أو توجيهًا أو غيرها من مهمات وفوائد النظرية العلمية. ومما يلاحظ بأن نظرية داروين استنفرت المفكرين والعلماء للوقوف حول مفهوم النظرية، ومنذ ذلك الحين، وهي ميدان أبحاث ودراسات وتأملات كثيرة لوضع مفهوم موحد لها يبيّن حدودها ويرسم دورها في المستقبل، وهذا الدور هو من أهم ما يعني أي باحث عن علاقة العلم بالمجالات الأخرى (1).
ب- مع الدين وضدّه:
وقبل إنهاء الحديث عن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وعن نظريته الأشهر -النظرية الدارونية- نجد ما يلفت النظر، حول هذا الصراع الدائر بين دعاة النظرية والاتجاهات الفكرية المتباينة في الفكر الغربي ألا وهو: ما إنْ يظهر موقف جذري معارض للدين ويدعو إلى الإلحاد حتى يظهر ما يوقفه أو يجد الجدار الذي يصطدم به، فتنسحب بعض الجماهير المؤيدة له وتبحث عمَّن يعيدها إلى بعض مبادئ الدين، حتى وإن كان ذلك الملاذ أوهى من بيت العنكبوت.
(1) ذلك هو ميدان فلسفة العلم، وهو فرع يتسع يومًا بعد يوم، انظر صورتها العربية في: الفلسفة العلمية (رؤية نقدية)، وفلسفة العلوم (قراءة عربية)، كلاهما للمتخصص في هذا المجال الدكتور ماهر عبد القادر.
وهذا الحال يُبصّرنا باستحالة عيش الناس دون دين مهما وقع منهم من ضلال وإلحاد، وأن العطش الناتج عن موجات الإلحاد يولّد ميلًا جارفًا يجعلها تتعلق بأي رابط يربطها بالدين، ومما نجده على مستوى الفكر الغربي في هذا الميدان ما قام به كانط "لصد موجة الإلحاد الكامنة في المذهب العقلي الذي بدأه "بيكون" و"ديكارت" وانتهى في شك "ديدرو" و"هيوم" وأسفر مجهود "كانت" بأن أعلن قصور العقل في ميادين المشاكل والبحوث السامية. ولكن "دارون" بغير قصد و"سبنسر" بقصد ووعي عادا وجددا هجمات "فولتير" وأتباعه على الدين والإيمان القديم، وعادت النزعة المادية الآلية. . . ."، فتصدى لها "برجسون" بمذهبه الحيوي بما فيه من نزعة صوفية جديدة (1)، وقد ذكر "راندل" صور هذا الأخذ والرد بين المجال الديني والمجال الفكري والعلمي لهذه المرحلة فقال:"وجاءت النزعة المثالية واتجاه التأكيد على البنية الكلية العضوية في أواخر القرن التاسع عشر عقب النزعات المادية والاسمية الذرية لعصر التنوير، وذاع إحياء التقاليد المسيحية في القرن التاسع عشر، عقب النزعة الربوبية والنزعة الإلحادية المتحمسة، ونزعة الشك التي كانت تظهر بين الحين والحين ونزعة معاداة رجال الدين في القرن الثامن عشر. خلاصة القول: إن التحول إلى الأذواق الرومانسية هو أحد الأمثلة الكلاسيكية للتحول السريع في كثير من أطوار الثقافة"(2)، ويذكر أيضًا صورة التسوية الفكتورية التي سمحت بميلاد إحياء مسيحي كبير وميلاد جماعات مسيحيّة جديدة، وانتشار النشاط التبشيري المرافق لحركة استعمار جديدة شملت أغلب أراضي العالم، ولم يعد بإمكان العناصر القائدة إعلان موقف عداء صريح من الكنيسة وإلا تعرض مستقبله السياسي لخَطَر (3).
ومن صور هذه التحولات من الإلحاد إلى الدين ما نجده أيضًا مع المذهب الوضعي الذي زعم لنفسه إلغاء الدين والميتافيزيقا وميلاد دين العلم، نجده في نهايات القرن بعقيدته "العلموية" مرفوضًا من تيارات الفكر الفرنسية القوية،
(1) انظر: قصة الفلسفة ص 570 وما بين القوسين بنصه.
(2)
تشكيل العقل الحديث ص 230.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 247 - 250 بتصرف.
وعادت تلك التيارات "إلى الميتافيزيقا والدين متحدية في ذلك الوضعيين. وجاءت هذه التيارات متمثلة في هنري برغسون، وانبعاث الكاثوليكية والمذهب الوجودي الحديث والرمزية في الأدب والسيريالية في الفن. . . . إلخ"(1)، ورغم تباينها، إلا أن ما يجمع بينها التمرد على الفكر الوضعي العلموي.
هكذا نجد العلاقة بين الدين والعلم في نزاع دائم، كان عصر التنوير في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر قد بلغ مبلغًا كان يُظن معه عدم العودة للدين، وتعزز ذلك بالثورة العلمانية الفرنسية ونظريات مادية علمية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ومع ذلك لم تستطع كل هذه الزلازل أن تُلغي حاجة الناس للدين أيًا كانت صورته، وبالرغم من درجة التهكم بالدين والإله في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر التي انتشرت حتى في الجماهير نجد على نقيضها حرارة دينية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (2) حتى في بعض المثقفين وفي تيارات فكرية مشهورة، والأمر سيكون أشهر في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، فلنذهبْ إليه ونَرَى ماذا حدث فيه.
(1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 403.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 314.