الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التيارات المختلفة ومنهجياتها المختلفة لبيان العلاقة بين الدين العلم ما زالت موجودة وتتصارع فيما بينها.
د- أثر نيوتن في الفكر الغربي:
لا يوجد اختلاف في دور "نيوتن" في العلوم الطبيعية، وأنه أهم رجالاتها في العصر الحديث، وأنه مثّل العلم لأكثر من قرنين، حتى إن هناك من خشي من سيطرته على العلم وعدم قدرة من بعده في تجاوزه كما حدث في الماضي من تعظيم لأرسطو أضعف قدرة من بعده على تجاوزه. فهل أثّر نيوتن ونظرياته وأفكاره في الفكر الغربي؟ وهل يمكن للعلم والعلماء الجدد أن يؤثروا في الاتجاهات الفكرية؟ وما صورة هذا التأثير؟
كان المعهود في تاريخ الفكر الغربي بأن المفكرين والفلاسفة هم من يقود العلوم المعهودة عندهم، وأن الفلسفة في درجة أعلى من هذه العلوم فهي أمّ العلوم، ولكن مع نيوتن وبعده ربما تنقلب المعادلة، حيث يكون تأثير النظريات العلمية أقوى في تشكيل التيارات الفكرية الجديدة، وربما نجد هذا واضحًا مع نيوتن، فعندما أعلن نظريته العلمية وفلسفته ومنهجه لم يتقبلها الفكر الغربي بسهولة، وبقيت في بعض نقاط أوروبا الجغرافية مهجورة أو منتقدة، وكأنها في حاجة إلى دعاة ينشرونها ومفكرين يبنون عليها أنساقهم الفكرية.
ويظهر بأن هناك مجموعة أسباب هيأت لنسق نيوتن أن يكون له مع الأيام قوّة مؤثرة فيما بعد في الفكر الغربي، وحتى ندرك أثره فنحن في حاجة لاسترجاع المسارات الفكرية الكبرى التي ظهرت في عصر أوروبا الحديث.
كان الاتجاهان الكبيران "العقلي والتجريبي" من أهم المسارات الفكرية، الاتجاه العقلي الذي برز بصورة واضحة مع ديكارت وأتباعه، والاتجاه التجريبي والحسي الذي عرف مع "بيكون وهوبز" ومن بعدهما. ومع وجود أنصار الاتجاهين في أغلب أوروبا إلا أن العقلي كان أكثر شهرة في فرنسا وما حولها، والتجريبي كان أكثر شهرة في إنجلترا وما حولها، وهما يكبران عامًا بعد آخر، وكان لهما وجودهما الكبير زمن نيوتن وبعده.
وفي هذه المرحلة أيضًا ظهر تياران جديدان سيرسمان خارطة جديدة للفكر الغربي أحدهما نشأ مع "كانط" الفيلسوف الألماني المشهور محاولًا في فلسفته
الجمع بين الاتجاهين العقلي والتجريبي مع الاستفادة من صورة العلم النيوتنية الأخيرة. والآخر ظهر مع حركة التنوير الداعية إلى الحرية والعلمانية والتحمس للعلوم الجديدة.
فهذه أربعة اتجاهات فكرية كُبرى اشتهرت في هذه المرحلة يصاحبها بروز اتجاه علمي بدأ يفرض نفسه مستقلًا عن التيارات الفكرية والفلسفية يومًا بعد يوم إضافة إلى تيار لاهوتي مستمر من الماضي.
ومن المعلوم بأن التيارات الفكرية الأربعة لم تكن على وفاق مع الكنيسة واللاهوت الديني، وقد كان هناك سباق بين الطرفين على الاستعانة بالعلم -بعد أن نجح في إثبات وجوده- في ذلك الصراع بينهما، وقد نجحت التيارات الفكرية أكثر من غيرها في استغلال ثمرات العلم المادي ونظرياته في خدمة رؤاها، ومن ذلك استعانتهم جميعًا بالنسق النيوتني. ومن الطبيعي أن تقود الروح اللادينية للتيارات الفكرية نشاطهم نحو توظيف ثمرات العلم بما يخدم تلك الروح، وما يتبع ذلك من غياب للموضوعية وبروز نزعات الأهواء والرغبات على حساب الحقيقة والعدل والإنصاف، وقد بلغت ذروة هذا الانحراف بنجاح الثورة الفرنسية عام (1789 م)؛ أي: بعد ما يقرب من ستين عامًا من وفاة نيوتن (1727 م)، وبهذا حققت التيارات اللادينية نجاحها السياسي والاجتماعي في ثورة فرنسا، وبهذا الانتصار سيُقدّم كل معارض للدين واللاهوت الديني على أنه الحقيقة الوحيدة، وسيُفرض في الساحة الفكرية والعلمية والاجتماعية، ويكفي أن نعرف بأن التعليم الديني منع من المدارس، وأن النظريات العلمية ما كان حقًا منها أو باطلًا قد فُرض على المجتمع تعلمها. وليس المقصود تتبع تفاصيل تلك الأحداث وإنما اقتناص علاقة الفكر الغربي بالعلم المادي ونظرياته لتتبين حقيقة تلك العلاقة، ومن ثمّ الاستفادة منها في فهم مجريات العلاقة عندنا فيما بعد.
فمما يقول "يوسف كرم" عن تأثيره: "كان لمنهجه العلمي ولمكتشفاته أثر في الفلسفة، وكانت له فلسفة خاصة تركت هي أيضًا أثرًا. جاء اكتشافه للجاذبية مؤيدًا للمذهب الآلي وموطدًا للثقة في المنهج الرياضي، فقد دل على مبدأ يفسر تماسك أجزاء الطبيعة، ووضع قانونًا كليًا استخرج منه بالقياس نتائج متفقة مع التجربة، على أنه إذ يقول بالجاذبية يعلن أنه لا يزعم بهذه التسمية تعيين طبيعة القوة التي تقرب جسمًا من جسم أكبر، وهذه نقطة جديرة بالملاحظة، فإنها تعني
أن العلم الآلي يلتقي مع الظواهر ولكنه لا يدعي تفسيرها" (1).
يلخص هذا النص أهم آثار نيوتن وبعض مساراتها فهو:
أولًا: أثّر بمنهجه العلمي واكتشافاته العلمية في الفلسفة.
وثانيًا: أثر بفلسفته الخاصة -النابعة من تأملاته- في الفكر الغربي.
وأخيرًا: فنظريته حول الجاذبية دعمت المذهب الآلي الذي سيكون له شأن في الاتجاهات المادية مع التذكير بأنه بنظريته إنما يفسر، لا أنه جعل للمادة فعلًا مستقلًا وتامًا وحقيقيًا كما سيكون مع الماديين في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر مثلًا.
وإذا كانت النظريات العلمية مجال أخذ ورد، وقبول واعتراض، فما بالك بالأنساق الفكرية المبنية على تلك النظريات، فمجال الأخذ والرد فيها أوسع لاسيّما مع دخول أصحاب الأيديولوجيات اللادينية التي تهوي بأصحابها وتطمس عن أعينهم الحقائق ولو كانت مثل شعاع الشمس، ويستثمرون ما يجدون في النظريات من مشتبهات وثغرات ليؤيدوا ما يعتقدون من أيديولوجيات، وكانت نظريات نيوتن أحد الأمثلة البارزة على ذلك لاسيّما ما تبناه الماديون من أفكار حول فاعلية المادة والحتمية وغيرها.
والمقام هنا ليس مقام تفصيل الأثر المتبادل بين نظريات نيوتن وبين الاتجاهات الفكرية، ففي ذلك دراسات موسعة، وإنما المقصود بيان دور النظريات العلمية وأثرها مجملًا في الفكر الحديث، وهنا ذكرٌ موجز لبعض التفاعلات بين نيوتن والفكر لاسيّما مع الاتجاهات الفكرية البارزة:
فهذا ليبنتز أحد أهم الديكارتيين والتيار العقلي يمتدح كتاب "المبادئ" وأنه "يعدل في قيمته كل المؤلفات السابقة". وهذا يبين مكانة نيوتن عند العقلانيين. وهذا هيوم أحد أهم مؤسسي المذهب الحسي التجريبي يقول عن نيوتن بأنه "أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه"(2)، فهذان ممثلان كبيران لأكبر تيارين في الفكر الغربي الحديث يعلنان مكانة نيوتن ووضعه في المقدمة.
(1) تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 154، وانظر: تاريخ العلوم العام ترجمه على مقلد 2/ 300 وما بعدها، وانظر: حول قواعد منهجه الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود فهمي زيدان ص 74 - 77.
(2)
كتب غيّرت الفكر الإنساني، الشنواني ص 175، وانظر: العلم في التاريخ 2/ 136.
وفي هذه المرحلة ظهر تيار جديد أطلق عليه تيار التنوير أخذ على عاتقه الدعوة للعلمانية وإضعاف قيمة الدين في حياة المجتمع والدعوة للحرية والعقلانية، وقد كان مركزه فرنسا وانتشر بعد ذلك في أغلب بلاد أوروبا في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي. وكان من أشهر شخصيات هذا التيار فولتير، وقد أخذ على عاتقه التعريف بنيوتن ونظرياته ونشرها، حتى إنه عُدّ أهم الشخصيات التي أسهمت في تعريف فرنسا بنيوتن وعلمه ومنهجه (1).
وعرفت أيضًا أوروبا في هذه المرحلة فيلسوفًا مشهورًا "كانط" كان له أثره في تكوين فلسفة جديدة "الفلسفة النقدية" وغلب تأثيره على أكثر التيارات الفكرية التي جاءت بعده، حتى إن هناك من يفرق بين مرحلتين في الفكر الغربي، قبل كانط وبعده. فهذا الفيلسوف أقام أغلب أصوله الفلسفية على نسق نيوتن العلمي والفلسفي والمنهجي، ومن كتبه مثلًا:"التاريخ العام للطبيعة، ونظرية السماء: دراسة للنظام والأصل الميكانيكي للكون، وفقًا لمبادئ نيوتن"(2)، وقد أوضح "محمد وقيدي" في بحثه عن نظرية كانط في المعرفة (3) أثر نسق نيوتن على كانط؛ ذلك أن فلسفته عاصرت النسق الفيزيائي النيوتني "فاستفادت من معطياته في بناء نظريتها في المعرفة"(4).
فهذه أربعة تيارات، اثنان منها قبله "العقلي والتجريبي" وقد أُعجبا بنسقه، واثنان معه أو بعده التنوير والنقدي الكانطي أعجبا به أيضًا.
وهناك تيار خامس سيكون أكثر شهرة في القرن اللاحق وهو "التيار المادي" الذي يرى بأن المادة هي الأصل، وهي فاعلة مؤثرة بنفسها، ومن مصادرها العلمية المزعومة الصورة الحتمية البادية في الصورة الآلية والميكانيكية في نظريات نيوتن (5)، فقد ولّدت نظريته نزاعًا كبيرًا بين تيارين حول الحتمية
(1) انظر: كتب غيرت الفكر الإنساني، الشنواني ص 173، والعلم في التاريخ، برنال 2/ 136، وتاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 185 - 186 ونفس الكتاب تحدث عن "منتسكيو" ص 190.
(2)
انظر: كُتبه التي عرضها د. زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية -كانط أو الفلسفة النقدية ص 261.
(3)
انظر: ما هي الإبستمولوجيا، محمد وقيدي ص 143 - 211.
(4)
المرجع السابق ص 199.
(5)
سيأتي عرض ذلك لاحقًا، في القرنين الأخيرين، لاسيما مع النظرية الكمية ص 276.
واللاحتمية شبيهة بمسألة الاختلاف بين الجبرية والقدرية، حيث كانت نظرية نيوتن في الجاذبية مفتاحًا للمذهب الحتمي، ومؤيدة لأصحاب المذهب الآلي المادي وبقيت الأشهر حتى برزت نظرية "النسبية" و"الكوانتم" في الفيزياء المعاصرة لتميل لصالح المذهب اللاحتمي، وهذا شاهد واضح على أثر النظريات العلمية في الفكر.
وأخطر ما زعمه التيار المادي اعتمادًا على النسق النيوتني بأن آلية الكون وسيره وفق نظرية الجاذبية، تدل بأن الكون يتحرك بقوانينه الخاصة دون حاجة إلى حفظ إلهي لها، ووصل بهم الأمر إلى إنكار وجود الرب أصلًا، والقول بأن المادة هي الفاعل الوحيد التي عُبر عنها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بالطبيعة، فهي الموجدة لكل شيء والفاعلة لما تريد. وستقوم المادية بتحويل تصور نيوتن حول نظريته في الجاذبية، فهو يفسر بها ظاهر الكون ويرى أنها من وضع الرب سبحانه لحفظ نظام الكون الذي خلقه، ولكنها مع الماديين تتحول إلى صفة من صفات الطبيعة والمادة، ويرون بأن عالم المادة يتصف بصفات يُوجد بها ذاته ويُسيّر بها نظامه. وهذا التحول الخطير سانده بعض المنتسبين لدائرة العلم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وكان أشهر من أظهر ذلك البيولوجي داروين وسيأتي بيانها لاحقًا. والمهم هنا أن نظريات نيوتن أصبح لها تأثير كبير، وأن العلم مع نيوتن بدأ يستقل بذاته ويكوِّن شعبية تنافس المذاهب الفكرية المعهودة والعلوم الموروثة، وبدأ المنهج الجديد في البحث والنظر يفرض حضوره يومًا بعد يوم، وبدأت العلوم تتطور بسبب ذلك، ولكن هذه الشهرة للعلم جلبت إليه أهل الأهواء والأيديولوجيات ليوظفوه في خدمة مذاهبهم.
لقد استقطب نيوتن الحياة الثقافية والفكرية والدينية في الغرب، ورغم قلّة إنتاجه وانصرافه إلى السياسة آخر حياته ثم الدين، إلا أن نسقه أثّر كثيرًا ولأكثر من قرنين، وفي ذلك يقول محمد الجابري: "ويمكن القول بصفة عامة: إن الفكر العلمي بمختلف جوانبه ومنازعه -وكذا الفكر الفلسفي- قد بقي، طوال القرنين الماضيين، يتحرك داخل البنيان الذي شيّده نيوتن، وذلك إلى درجة أن الأفكار والنظريات العلمية التي ظهرت خلال المدّة المذكورة، لم تكن تقبل، أو على الأقل لم يكن ينظر إليها بعين الارتياح والرضا، إلا إذا كانت مندرجة في النظام
العام الذي أقامه صاحب نظرية الجاذبية" (1). وهذه الشهرة جعلت "راسل" يقول: "لقد كان النصر كاملًا -أي: لنيوتن- إلى حد ينذر بالخطر من أن يغدو "نيوتن" أرسطو آخر، ويفرض على التقدم حاجزًا لا يمكن تخطيه" (2).
ونجد مفارقة عجيبة في هذه العلاقة بين نظريات نيوتن واكتشافاته ومنهجه وبين الفكر المتفاعل معها، تتمثل في أن نيوتن يميل إلى أن النظر في هذا الكون يدل على وجود الله سبحانه ويحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين ما يعرفونه من أمور الدين، بخلاف التيارات الفكرية المستثمرة لنجاحه فهي توظف نظرياته في خدمة العلمانية المادية والإلحاد. فهو يرى بأن نظريته تُظهر نظام العالم وتناسقه، وأن ما فيه من نظام وجمال وترتيب يدل على وجود الله سبحانه (3)، وما يترتب على الإقرار بوجوده من أمور أخرى، ونراه مثلًا يحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين قصة طوفان نوح عليه الصلاة والسلام، فهو يرى بأن الله سبحانه حينما أراد أن يغرق القوم الكافرين الذين كذبوا نوحًا عليه الصلاة والسلام، أمر نجمًا جبارًا بأن يقترب من الأرض، وبحسب نظرية الجاذبية اختلت قوى الطرد والجذب، فاندفع الماء من باطن الأرض تحت تأثير الجاذبية الرهيبة، وصارت أمواج البحر كالجبال، وتراكمت السحب نتيجة التبخر، وتساقطت أمطار وكأنها السيل المنهمر، ولما تحقق أمر الله سبحانه، أمر النجم أن يعود إلى مكانه، فعادت الأرض إلى ما كانت عليه (4). فهو يحاول المحافظة على سلامة نظريته وفي الوقت نفسه لا يريد إنكار ما يعرفونه من الأمور الدينية. فمن الناحية العلمية فسر كيف تحدث ثلاثة أمور في عذاب أولئك الكافرين، وهي: تفجر الأرض بالماء بشكل لا مثيل له، وسحاب كثيف مع مطر غزير لا مثيل له، وموج هائل متلاطم، وهذه الثلاثة يمكن تصور حدوثها باقتراب نجم كبير من الأرض، ولكنه بقدر ما يُقرّب المسألة للمائلين إلى العلوم الحديثة،
(1) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 269.
(2)
انظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، راسل، ترجمة محمد الشنيطي ص 71، وانظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 135.
(3)
انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 155، وتاريخ العلم العام، ترجمة د. علي مقلد 2/ 302.
(4)
انظر: تراث الإنسانية 9/ 68.
إلا أنه تكلفٌ لا مبرر له، وادعاء أمر من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فنحن نؤمن بهذا الحدث ولكننا لا نعلم التفاصيل الغيبية فيه إلا ما ورد في الوحي.
والأمر العجب هو فرار هؤلاء من الإيمان بقدرة الله سبحانه على إحداث هذه الأمور، وحرصهم على التعليل الطبيعي لمثل هذه الأحداث، مع أن الأعجب من كل هذه الأمور هو وجود الكون كله، فإيجاد الكون والعالم أعظم بكثير من حدث الطوفان في جزء صغير من مخلوقاته، والله سبحانه قد أكثر من الاستدلال على منكري البعث بإيجاد المخلوقات الكونية وبخلق الإنسان، وهذا الدليل الذي كثر وروده في القرآن هو دليل مناسب أيضًا على هذه المسألة؛ فإن من أوجد الكون بعوالمه العجيبة أقدر -وكلها عنده سواء- على مثل هذه الآيات، سبحانه.
ومع ما نراه من ضبابية حول اعتقاده فإن من المؤكد أنه لم ينف الدين الذي عرفه بين قومه، بل يرى أن ما عنده يدعم الدين، في المقابل نجد تيارات ذات أهداف مشبوهة وظّفت نظرياته واكتشافاته ومنهجه في صراعها مع الدين مدّعية بأن علم نيوتن يدعم الموقف الإلحادي، ومن أشهرها الاتجاه المادي بكل تياراته، وتظهر هنا النقطة الفاصلة بين النظرية العلمية وفكر صاحبها وبين استثمارها في خدمة رغبات وأهواء أطراف أخرى. والعجيب أن صاحب النظرية لا يرى في نظريته ما يدعو إلى الإلحاد والمادية، ويصر أصحاب التيار المادي على استثمارها في باب لم يقله صاحبها.
وبعكس ما سبق في الفيزياء الكلاسيكية -فيزياء نيوتن- نجد صورة مغايرة في الفيزياء المعاصرة، فهي فيزياء تنتسب للمدنية العلمانية وترعرعت مع الماديين، وكان الأصل فيها أن تتوجّه لخدمة الاتجاهات المادية؛ إلا أن الأمر انقلب رأسًا على عقب، فظهرت تيارات فكرية ترى بأن الفيزياء المعاصرة تعد صفعة موجعة للتيارات المادية الملحدة، وأنها لا تتعارض مع أصول دينية بل العكس فهي تؤيد قضايا الدين (1). وهو تقابل غريب وعجيب، يحتاج منا إلى عناية خاصة؛ إذ فيه عدّة دلالات يهمّ منها طريقة توظيف النظرية وفهمها في خارج إطارها.
(1) انظر: الحديث الآتي آخر هذا الفصل عن نظريات الفيزياء وأثرها في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي ص 237.