الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالم كبير مدهش يصعب تصوره فضلًا عن الإحاطة به. لقد كانت هذه الاكتشافات جزءًا مما أصاب الفكر المعاصر بالصدمة وفتح باب الأسئلة من جديد، وتحولت أشهر التيارات إلى العناية بالإنسان أو البحث في حقيقة الوجود، والقوم يسيرون دون هداية من الله، فمثلهم كمثل من صور الله لنا حاله في سورة البقرة قال -تعالى-:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 17 - 20].
من المدهش ما نجده من بعض الأقلام العربية حول هذا الموضوع إذ يقول بعضهم: إن الغرب قد شبع من العلوم الدنيوية، وشبع من العقلانية، وشبع من التقدم والتطور، وجاءت لحظات التوقف مع اللاعقل، مع الوجود والحرية والفن والمثاليات والتدين والتصوف. أما نحن فنحن غارقون في الخرافة والأساطير والتخلف فعلينا أولًا بأخذ ما يرفضونه الآن، أن نأخذ بالعقلانية والتقدم دون أن نأخذ ميولهم الجديدة.
والحقيقة أننا لا نريد تلك ولا هذه، فلا نريد عقلانية تختم بالإلحاد أو علموية تنابذ الدين، ولا نريد في الوقت نفسه مثاليات ومذاهب اللاعقل، إنما نريد من عندهم ما ينفعنا وما حثنا ديننا على أخذه، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، وما ينفع الناس في دنياههم أو أبدانهم أو قوتهم من العلوم النافعة هي مما ينبغي الحرص عليه، أما ما بني عليها من تأويلات أو انحرافات، فيكفينا أن نتعظ بما أوصلت أهلها إليه، والسعيد من وعظ بغيره، وفي الوقت نفسه عندنا وبين أيدينا ما يغنينا عنها.
ج - عصر جديد لعلاقة العلم بالايمان في الفكر الغربي:
لقد كانت العلاقة بين العلم والدين عسيرة منذ ولادة الثورة العلمية، كان الدين -ممَثلًا في الكنيسة النصرانية على وجه الخصوص- أكبر من عانى من صراعه مع الحركة العلمية؛ ومن بين أهم الأسباب لتلك المعاناة: الانحرافات الكبيرة التي وقعت فيها الكنيسة سواء بالتحريف في الدين أو بظلم الناس، وكانت المادة المحرفة أرضًا خصبة لضربات المعترضين المتتالية، ولكن الكنيسة
كانت القوية في البداية، ففرضت رأيها، وأجبرت العلماء على التراجع، بينما قام العلماء بمحاولات شاقة لتأويل نصوصهم الدينية أو عقائدهم الرسمية لكي تتوافق مع نظرياتهم العلمية، وقد استمر هذا الوضع إلى عصر نيوتن.
وبعد الثورة الفرنسية الداعية إلى العلمانية ضُربت قوّة الكنيسة ضربة قاسية، فقد أُزيلت الأنظمة السياسية الداعمة لها، ثم أُقصيت الكنيسة من مجال حياة الناس التعليمية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وأبقيت كنشاط ديني لمن أراده. صاحب ذلك زوال عقدة الخوف عند العلماء من الكنيسة والمجتمع في نقدهم للدين فانطلقوا دون احترام للعقائد الدينية يدعمهم في ذلك تيارات فكرية ذات نزعة مغالية في اللادينية.
ووصل العداء والقطيعة بينهما ذروته في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي في صورة الوضعية العلموية الداعية إلى وضع الدين في متحف للآثار والاكتفاء بالعلم، ولم تعد المسألة مسألة تعارض بين الدين والعلم كما في السابق، ومن ثمّ معالجة ذلك التعارض، وإنما المسألة أصبحت مع الوضعيين بأن الدين وهم وخرافة اخترعته البشرية في يوم من الأيام كما اخترع قوم عبادة أوثان أو عبادة حيوانات، فكذلك الأديان الكتابية هي مثلها، ويزعمون بأن العلوم الطبيعية -ماركس مثلًا- تؤكد خطأ كثير من العقائد الموروثة، وهو دليل على أن الناس اخترعوها.
ورغم أن العلماء أنفسهم لم تكن تعنيهم هذه الأمور، فهي مناقشات تدار في أرض الفكر والفلسفة، إلا أن قادة الفكر قد سحبوا العلماء إلى ميدان المناقشات، وذلك عندما قام مجموعة من المفكرين والفلاسفة باستثمار النظريات العلمية في حججهم ضد الدين، عندها دخل هؤلاء العلماء حلبة المناقشة -على أن منهم من كان مهتمًا بالفكر والفلسفة- وتورطوا في الميل لجانب الدعاوى اللادينية ودعمها بما بين أيديهم من علوم، ثم اتسع الأمر عندما ترك كثيرٌ منهم الدين وتحول بعضهم إلى الإلحاد أو إلى مواقف لا أدرية؛ لأنهم يرون بأن أهل الدين لم يثبتوا صحة ما بين أيديهم ولا تنطبق عليه مناهجهم العلمية، ويرون حججًا فكرية وفلسفية تتابع دون أن تجد الرد المناسب، ويرون أن ما بين أيديهم من علوم لا تدل على كثير من القضايا الدينية المعروفة زمنهم. فانصرف هؤلاء العلماء إلى موقف لا أدري يقوم على الحيرة والشك، وآخرون سلكوا طريق
الإلحاد، وقد كانوا كثرة، ومجموعة بقيت على الدين على أن يُحصر في الجانب القيمي والأخلاقي فقط.
وقد كان أخطر ما في الأمر هو دخول الإلحاد إلى طائفة العلماء؛ لأنهم سيدعمون الإلحاد من خلال تخصصاتهم العلمية، فإن ميدانهم العلمي يقوم بالدرجة الأولى على الحسّ والتجريب، وهو ميدان يختلف عن باب العقائد إذ هي قضايا غيبية لا يدخلها الحسّ والتجريب لاسيّما قضايا الغيب المحض. فهؤلاء العلماء عندما يرون أن مناهجهم لا تحقق هذه القضايا الغيبية فيسلمون عندها بادعاءات الملحدين، وكأن الطريق الوحيد للحقيقة والمعرفة هو طريقة الحسّ والتجريب.
لقد أوجد هذا الموقف من قبل العلماء مشكلة كبيرة نحو الدين، ذلك أنهم أصبحوا في مكانة عالية بعد انتصارات العلم وتقدمه، وصاروا قدوة لغيرهم، وعلومهم هي مطمع أغلب الدارسين في بلادهم، بل هي العلوم الوحيدة التي تستحق في نظرهم التعب والتحصيل. وعندما يأتي الطلاب والمعجبون بتلك العلوم لدراستها ثم يرون بأن البارزين فيها يميلون إلى الإلحاد أو المواقف المتشككة اللاأدرية، بل منهم من يربط العلم بالإلحاد وانكار كل ما عرف من الدين؛ فإن النتيجة المتوقعة هي وقوع مجموعة من المتعلمين في شراك الإلحاد اقتداء بالعلماء والبارزين. وهذا يوضح أحد أهم عوامل انتشار ظاهرة الإلحاد في إطار الحركة العلمية، فإذا أضفنا إليه بأن المذاهب المشهورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر -كالماركسية والوضعية والدارونية الاجتماعية- قامت على موقف عقائدي واضح وهو الإلحاد، ومن بين حججهم المزعومة بأن العلوم الطبيعية تدعم موقفهم، علمنا عندها كيف تضافرت عوامل كثيرة في توسيع دائرة الإلحاد.
وهكذا افتتح القرن الرابع عشر/ العشرين على وهمٍ كبير حاصله أن العلم رديف الإلحاد، وأصبح من السائد في الثقافة الغربية المعاصرة آنذاك بأن من شروط دخول العلم أن تكون ملحدًا، وأنه لا يتصور وجود عالم غير ملحد.
وهو يكشف بأن الدعوة للمذهب الربوبي في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر أو للإلحاد في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كانت قوية ومستمرة، وأنها اخترقت ميدان العلم الجديد، ونجحت في استقطاب مجموعة من البارزين في
المجال العلمي، والأدهى من ذلك أنها نجحت في تحويل هؤلاء العلماء إلى موظفين في مؤسسة الإلحاد يدعمونها بما يرونه من مناهج علمية أو نظريات أو فرضيات أو اكتشافات، وذلك بعد تأويلها بالصورة المناسبة القابلة للتوظيف في ميدان الإلحاد. وبقدر ما يكشف النشاط القوي للتيارات الإلحادية، بقدر ما يكشف ضعف التيار العلمي أمام شبهات الملحدين، إن لم يكن يكشف هوى لدى بعضهم في إدخال الإلحاد داخل دائرة العلم.
وعندما نرجع إلى بداية الثورة العلمية نراها على صورة غير ما هي عليه في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فقد كان العلماء هناك يصرّون على إعلان تدينهم ويحرصون على تأويل النصوص والعقائد الدينية حتى لا تتعارض مع العلم، ويرون العلم يدعم الدين، أما في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر فقد خُيّل للكثير أن العالم الحق لابد أن يكون ملحدًا، وأن العلم لا يمكن أن يتوافق مع الدين، ومن الأمثلة المعبرة عن هذا الوضع ما ذكره أحد المشتغلين بالعلوم الحديثة "ألبرت ماكومب" حيث يقول عن نفسه:"عندما كنت طالبًا بالجامعة وكنت قد قررت أن أدرس العلوم. وإنني لأذكر جيدًا كيف أخذتني إحدى عماتي جانبًا ذات يوم وتوسلت إليّ أن أعدل عن هذا القرار؛ لأن العلوم، كما كانت تعتقد، سوف تقضي على إيماني بالله. لقد كانت تعتبر، كما يعتبر الكثيرون، أن العلوم والدين قوتان متعارضان، وأنهما لا يمكن أن يجتمعا في قلب رجل واحد"(1). ومن الأمثلة أيضًا ما ذكره "أندروكونواي"(عالم فسيولوجي) بأنه كان في جلسة مع مجموعة من رجال الأعمال فقال أحدهم: "سمعت أن معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون، فهل هذا صحيح؟ "، وتساؤل رجل الأعمال هذا وتحذير تلك العمة من عامة الناس؛ يوحي بمقدار انتشار تلك القضية بين الناس. ولا يخفى بأن انتشارها إلى هذه الدرجة له أثر سلبي؛ إذ تجد الداخلين الجدد إلى ميدان العلوم ينخرطون فيها بمثل هذا الوهم، وعندما يظهر لأحدهم شواهد ضدّ الإلحاد وحجج قوية تدعم الدين؛ يحاول صرف التفكير عنها خشية أن تقوده إلى شيء من الإيمان.
(1) الله يتجلى في عصر العلم ص 110 و"ألبرت" متخصص في علم الأحياء، وانظر قريبًا من هذا اعتراف عالم فلكي فرنسي في كتاب: العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 29.
ومن طريف ما يُذكر في هذا الباب عن أحد الملاحدة أنه التفت دون شعور منه إلى أذن ابنته الصغيرة وتأمل في شكلها "وذكر بينه وبين نفسه أن من المحال أن تكون تلك التلافيف الدقيقة التي تشتمل عليها الأذن قد نشأت عن طريق المصادفة. إنها لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن طريق خبرة بالغة وتصميم وتدبير. ولكنه أبعد هذه الفكرة عن عقله المارق عن الدين؛ فقد خشي أن يؤدي به هذا النوع من التفكير إلى النتيجة المنطقية، وهي أن التصميم يحتاج إلى مصمم أو مبدع أو إله"(1)، وقد جاء اعتراف هذا الرجل بعد تركه للإلحاد، وهو يكشف صورة من صور الصراع النفسي داخل ذوات مجموعة من الملحدين في المجال العلمي، فالمشاهدات البسيطة فضلًا عمّا يكشفه العلم من حقائق تؤدي إلى الإقرار بوجود الرب سبحانه، ومع ذلك فهو يدفع هذه النتيجة عن نفسه ويجتهد في صرف النظر عنها، وهي في الحقيقة الموقف المعاكس للمؤمن عندما ترده وسوسات الشيطان، فإنه يستعيذ بالله من الشيطان وينتهي عن التفكير في ذلك، فالتفكر لا يوقَف إذا كان يوصل للحقيقة؛ وإنما يوقف إذا كان يوصل للشك في الحقيقة، والإيمان بالله سبحانه والإقرار به حقيقة يتفق عليها البشر، إلا حالات مرضية شاذة.
ومما يزيد عجبنا في هذا الباب أن مجموعة من المسلمين المبتعثين للدراسة في الغرب قد تأثروا بهذه الصورة المَرَضية، واعتقد بعضهم بأن النظرة الوضعية هي خاتمة التطور البشري ولا مجال للعودة إلى الدين، ومن بين آخر الاعترافات ما نجده لأحد أشهر مترجمي الفكر الفرنسي المعاصر حيث يقول:"أعترف بأن هذه التساؤلات كانت قد شغلتني طيلة الفترة الماضية دون أن أجد لها حلًا. كنت واقعًا، كغيري من المثقفين العرب المحدثين، تحت تأثير النظرة الوضعية للأمور، وكنت أعتقد أنها نهائية وأبدية، وكنت أعتقد أيضًا أن جميع المفكرين والعلماء في أوروبا هم ماديون وضعيون لا علاقة لهم بالإيمان أو بالدين"(2)، وقد كان هذا المُتَخيل عن الفكر الغربي مستوطنًا عقول مجموعة من
(1) انظر: المرجع السابق، الله يتجلى في عصر العلم ص 48.
(2)
العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 7، وحادثة التراجعات تتكرر ويأتي معها مثل هذه الاعترافات، انظر: حال مجموعة في: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، د. فهمي جدعان ص 332 وما بعدها.
المتوجهين للغرب، ويشعرون بأن شرط قبولهم فيه هو قبول المرحلة التي قطعها الفكر الغربي في البعد عن الدين والالتصاق به، وأن مساره قد تحدد نحو المادية والإلحاد والوضعية، وبعد انغماسهم في الفكر الغربي شعروا بخطأ المتخيل عن الفكر الغربي؛ فإن تطورات حدثت داخل العلم وصاحبها تفاعلات فكرية قلبت الوضع تمامًا، وحدث ما لم يكن في حسبان الماديين، وإن كانت بدت هنا وهناك بوجه خجول وحائر: فأما الخجل فيعود إلى أنه قد ظهر من داخل العلم من رفض الإلحاد أو استغلال ثمرات العلم في دعوى الإلحاد، ولكن في جوّ علمي يسوده الإلحاد لم يكن في استطاعة مثل هؤلاء العلماء إعلان آرائهم دون خجل. وأما الحيرة فهم يرون بأن الأصول الدينية الكبرى القائمة على الإيمان بالله سبحانه، وأنه خالق المخلوقات وموجدها سبحانه، وأنه هو المدبر للأمور والمستحق للشكر والحمد، وأن مصير الناس سائر إلى يوم آخر هو اليوم الآخر، كل هذه الأصول يجدون أنفسهم تقرّ بها، وأن العلم لا يعارضها، ولكنهم حائرون فيما بين أيديهم من تراث ديني ولاهوتي عرضته لهم الكنيسة والفلسفة مليء بالتناقضات مما لا يقبله عقل سليم. وربما هذا هو ما يدفعهم للإقرار بتلك الأصول دون الاعتراف بصورتها المعروضة في الديانتين المعروفتين عندهم، وهي اليهودية والنصرانية أو بالصورة اللاهوتية والكلامية والفلسفية.
لقد وجدتُ هذا الاستحياء في عرض الاعترافات الإيمانية بما يصاحبها من حيرة فيما بين أيديهم في أثناء قراءتي لاعترافات مجموعة من البارزين في العلوم العصرية في كتابين: أحدهما يمثل مجموعة ناطقة بالإنجليزية، والثاني لمجموعة ناطقة بالفرنسية، وفيهما تعبير عن قسمي الثقافة المشهورة في الغرب (1).
فمن صور الاعترافات الخجولة ما يقوله أحد العلماء الفرنسيين عندما سُئل عن موقفه: "أشعر بالحرج إذ أتحدث عن هذا الموضوع، فالعقائد الدينية تدخل ضمن دائرة الحياة الخاصة والحميمة للإنسان، وليس من السهل التحدث عنها في
(1) الكتاب الأول: الله يتجلى في عصر العلم، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره جون كلوفرمونسيما، ترجمة الدكتور الدمرداش سرحان، عن دار القلم، بيروت، وهو النموذج الإنجليزي. والكتاب الثاني: العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح، كتاب يصدر عن جريدة الرياض السعودية، وهو النموذج الفرنسي.
بلد علماني كفرنسا، ولكني أريد أن أؤكد منذ البداية بأن الإيمان لا يتعارض إطلاقًا مع العقلانية، وذلك لأن الحقيقة واحدة في جميع الحالات" (1)، إن مثل هذا الاعتراف يدعونا أن نبدأ بالقصة من أولها وذلك مع نظريات القرن الرابع عشر/ العشرين.
تُعد الفيزياء من أبرز العلوم الطبيعية تطورا وشهرة، وقد بلغت مع نيوتن ذروة عالية لم يصلها علم من العلوم الطبيعية، وقد كان الظن منتصف القرن التاسع عشر (13 هـ) بأنها قد قدمت كل أجوبتها، فجاءت مذاهب مادية وبنت بعض أصلب انحرافاتها على فيزياء نيوتن كالإلحاد والمادية. فجاءت صدمة لهؤلاء من داخل الفيزياء ذاتها مع نظريتي النسبية والكم؛ عندها أعاد العلماء نظرهم إلى الفيزياء وبقية العلوم، وقد كان أهم ما تزعزع: السند المادي الذي كان يدعم التيار الإلحادي والمادي.
وقد رفض مؤسسا النظريتين التصريح بالإلحاد، وأغلب أجوبتهم تدل على أنهم يرون استحالة تصور عالم بهذه الحال دون من أبدعه وأوجد فيه هذا النظام. ورغم أن صاحب النسبية أصله يهودي وصاحب الكوانتم أصله نصراني؛ إلا أنهما يتفقان على عدم قبول الصورة الموجودة للديانتين، ولكنهما في الوقت نفسه ضدّ فكرة الإلحاد، ومما يقوله مؤسس نظرية الكم بلانك:"إن الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معًا في معركة مشتركة ضدّ الشك والجحود والخرافة. ولقد كانت الصيحة الجامعة في هذه الحرب وسوف تكون دائما: إلى الله"(2)، وأما "أينشتين" فقد سبق بيان موقفه.
وبتتابع ظهور جهود نقاد العلم في وقت يعاني المجتمع الغربي من خواء وفراغ روحي كبير وجد أكثر العلماء وغيرهم بأن الدعوة للإلحاد باسم العلم دعوى ذهب وقتها وبأن فسادها وأصبح العلم ضدّها. فظهرت عند ذلك دعوات من جديد إلى المصالحة بين الدين والعلم، على أن تقوم الكنيسة بالتنازل عن بعض ما يتعارض مع العلم، ويتوقف العلماء عن استثمار نتائجهم في دعم المادية والإلحاد.
(1) العلم والإيمان في الغرب الحديث ص 35، والمتكلم "جان دورست" عالم بيولوجيا.
(2)
الله يتجلى في عصر العلم ص 168.
وبدأت موجة من التدين -بحسب مفهومهم للتدين- تغزو العلماء، ويجدون فيه راحة كبيرة وخروجًا من أزمتهم الروحية، على أن منهم من يرى فيه دعمًا لنشاطهم العلمي، وقد كانت بارزة في علماء الطبيعة، وهو نفس المجال الذي ظهر منه الإلحاد في القرن الماضي، وفي هذا يقول أحد الفيزيائيين بعد نشره كتابه:"الله والفيزياء الحديثة" بأنه قد دهش "عندما اكتشف أن كثيرًا من علماء الطبيعة يؤمنون بالله ومتدينون. بل حتى العلماء الذين لا يؤمنون. . . . يقولون بأنهم يشعرون بشعور غامض بأن هناك شيئًا ما"(1)، ويقول عالم الطبيعة جورج إيرل:"إن الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشر بين رجال العلوم أكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل إنه يتعارض مع ما نلاحظه فعلًا من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم"(2). ويقول آخر في ردّه على اعتقاد البعض بأن المشتغلين في العلوم ملحدون، فأجابه:"إنني لا أعتقد أن هذا القول صحيح، بل إنني -على نقيض ذلك- وجدت في قراءتي ومناقشتي أن معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساؤوا نقل أحاديثهم أو أساؤوا فهمهم"، ثم استطرد في بيان أن الإلحاد يتعارض مع منهجية العلماء (3). وقد كانت هذه الاعترافات مع غيرها -لثلاثين عالمًا- تدندن حول الموضوع ذاته معتبرة الإلحاد قد ولّى، وأنه لا تعارض بين العلم والإيمان، وأن المستقبل للتصالح بينهما، وأن الإلحاد لا علاقة له بالعلم؛ وإنما هو موقف فكري يستغلّ ثمرات العلم.
كانت المجموعة السابقة معبرة عن المشتغلين بالعلم في أمريكا، ونجد في أوروبا الوضع نفسه، حيث جمع المؤرخ الفرنسي "جان ديليمو مؤخرًا شهادات العلماء الكبار الذين أعلنوا التوافق بين العلم والإيمان، وقالوا بأن تخصصهم العلمي الدقيق لا يتعارض مع الإيمان بالله، على العكس فإنه يزيد منه ويقويه"(4)، فجمع فيه شهادة تسعة عشر عالمًا من أجل البرهنة على أن العلم لا يتناقض مع الإيمان. وهم ينتمون إلى اختصاصات متعددة، ومن الدرجة الأولى،
(1) حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 34، وصاحب المقالة "د. بول ديقيز".
(2)
الله يتجلى في عصر العلم ص 45.
(3)
المرجع السابق ص 156، وصاحب الكلام العالم الطبيعي والفسيولوجي "أندرو كونو".
(4)
العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 11.
وأنه جمع هذه الشهادات المهمة لكي ينقض الفكرة الشائعة لدى الجمهور، وهي أن العالم لا يمكن إلا أن يكون ملحدًا أو على الأقل لا مباليًا بالإيمان، وبيّن هؤلاء العلماء بأن المؤمنين في دائرة العلم أكثر عددًا مما نظن (1). وقد عرض مؤلف كتاب "العلم والإيمان في الغرب الحديث" شهادة اثني عشر عالمًا، كل في مجاله ويدلي بدلوه ضدّ الإلحاد، ويسيرون على نفس خُطى المجموعة الأولى، ويعرض أيضًا تعريفًا بكتاب جان ماري أحد أساتذة البيولوجيا "آلة العلم: العلم والايمان" مستعرضًا الصراع بين العلم والكنيسة منذ الثورة العلمية إلى القرن الرابع عشر/ العشرين، ففي نقده للحداثة الممتدة من ديكارت إلى عصر ما بعد الحداثة، يأخذ عليها أنها اعتنت بالجانب المادي من الإنسان وغفلت عن حاجاته الروحية، ومن المهم في عصر ما بعد الحداثة التركيز على الحاجات الروحية، وتحقيق المصالحة الكبرى بين العلم والإيمان أو بين العقل والدين. وهكذا نربح الدنيا والآخرة، وإن أخطأت الحداثة في رمي الإيمان في سلّة المهملات في صراعها مع الكنيسة فقد جاء عصر ما بعد الحداثة لكي يعيد للإيمان دوره من جديد، وهذا الطلاق الذي حصل في أوروبا بين العلم والإيمان لم يعد له مبرر اليوم (2).
وكم نتحسر نحن المسلمون عندما نشعر بهذه المجموعات المتعطشة للإيمان وسدّ الفراغ الروحي ألّا تجد من دعاة الإِسلام الأقوياء المؤثرين المقنعين من يقوم بسدّ الفراغ وإشباع الجموع العطشى، هاهم ينبذون الإلحاد خلفهم ويعترفون بأهمية الإيمان وحاجتهم إليه، ثم يلتفتون فلا يجدون حولهم إلا ضلالات الضالين من أتباع الديانتين المحرفتين اليهودية والنصرانية، فما أعظم لو التفت هؤلاء ووجدوا حولهم مراكز إشعاع إسلامية تنشر الإسلام وتستقبل هؤلاء العطشى. يتكلم الأكاديمي الفرنسي على جموع غفيرة انهارت آمالها بعد سقوط الشيوعية، وهي مستعدة لأن تقبل التوجيه في غمرة بحثها عن حاجتها الإيمانية وجادَة لاتباع من يزرع لها الأمل، فلِمَ لا نتحسر ونحن نراهم يهيمون في الأرض لعلّهم يجدون ما يرويهم دون أن نقدم لهم شيئًا؟!
(1) المرجع السابق ص 15.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 123 - 146.
لقد كانت رحلة شاقة قمتُ بها لمتابعة ذلك الصراع العنيف بين العلم والدين أو قل: العلم والكنيسة في الفكر الغربي، ولكنها كانت ضرورية لفهم طبيعة العلاقة والتأثر والتأثير بينهما، وحقيقة ما ارتبط بهما من قضايا، والنتائج التي وصلت إليها تلك العلاقة، وبعض ما يرتسم للمستقبل. كل ذلك حتى نفهم حقيقة العلاقة بين الفكر العربي وبين الحركة العلمية الحديثة، الصحيح منها والمنحرف، النافع منها والضار، الاستغلال السلبي والاستثمار الإيجابي، ولكن قبل ذلك هناك سؤال يعرض نفسه: لماذا كان كل هذا الصراع الكبير؟ ولماذا انحرفت مسيرة العلم وأهله حتى أصبح رديفًا للإلحاد؟ هذا التساؤل وإن كشفنا عنه تاريخيًا في ما مضى، فإن الفصل القادم بإذن الله سيكشف عن الجواب بطريقة أخرى تقوم على التحليل المنهجي بدل العرض التاريخي.
الفصل الثاني أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث