الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أثناء ظهورها. ثم جاء بعدهما عالم آخر "نيلز بور" فشرح كيف تمتص الذرات الطاقة وكيف تشعها. وبعد جهود مختلفة أنشأ فيزيائيان أوروبيان نظامين متكافئين يحويان في صياغة رياضية واضحة كل الفيزياء الكمية السابقة، لتصبح فيما بعد حقلًا معروفًا باسم ميكانيكا الكم (1)، وأصبح موضوع نظرية الكم أو الكوانتم الأساسي هو "عالم الذرة واكتشاف مزيد عن تركيبها وحركاتها وما بها من طاقة وإشعاع"(2).
واتجه علماء الفيزياء بعد هذه الاكتشافات ومن يستفيد من علمهم في مسارين: فقسم يدرس العالم الكبير، عالم الكون الواسع، هل الكون منبسط أم كروي، وهل هو ممتد إلى ما لا نهاية أم له نهاية، وهل له بداية زمانية ونهاية زمانية، وما طبيعته، وما صورة حركته ونشاطه، وهؤلاء يتحركون في ضوء النظرية الأولى وهي نظرية النسبية لاسيّما النسبية العامة. وقسم يدرس العالم الصغير في حجمه، الكبير في حركته وطاقته، والمذهل بعجائبه، وهو عالم الذرة، ما حقيقتها وما مكوناتها، وما طبيعة الطاقة الداخلة إليها أو الخارجة منها، وما القوانين الموضحة لذلك؟ وهؤلاء يتحركون في ضوء النظرية الثانية نظرية الكم أو الكوانتم.
وكما أنه قد كان ما كان من آثار للنسبية في تيارات العصر، ونالت شهرة أكثر من غيرها، فإنه أيضًا قد كان لنظرية الكوانتم آثارها أيضًا لاسيّما وهي تتعلق بفرض طالما أثر افتراضه في تاريخ الفكر البشري، وسبّب دوامات هائلة في كل ثقافة دخل إليها، فهل يعقل أن يظهر من جديد في ثوب العلم دون أن يحدث أثرًا! هذا ما ستلقي عليه الأسطر القادمة بعض الضوء، وبالله التوفيق.
2 - من آثار النظرية:
توجد نقاط مشتركة بين النظرية النسبية ونظرية الكم في علاقتهما بتيارات العصر، فبالرغم من اختلافهما من الوجهة العلمية البحتة إلا أن التأويلات الفلسفية والميتافيزيقية لهما متشابهة في كثير من الوجوه (3). وقد ذكرتُ بعض ما
(1) الموسوعة العربية العالمية 17/ 660، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 365 - 383، وانظر: درس الإبستمولوجيا، عبد السلام وصاحبه ص 186 وما بعدها.
(2)
من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 19.
(3)
انظر: فلسفة العلم. الصلة بين العلم والفلسفة، فيليب فرانك، ترجمة د. علي ناصف ص 287.
تشارك به النسبية في السابق، ونضيف هنا تفاعلات أخرى مع هذه النظرية.
إن هذا المخلوق العجيب الصغير الذرة قد حيّر العلماء، وأخذ من جهودهم سنوات طويلة، وأنفقت عليه دول الغرب نفقات باهظة ربما لو أُنفقت في غيره لتقدم العلم وتطور في مجالات متنوعة، ويكفي أن نلقي نظرة على ما أنفق لإنتاج القنبلة الذرية لنرى إحدى مشاكل تعامل الغرب مع عالم الذرة، حيث يقول "برنال":"وفي الواقع أن ما أنفق على إنتاج القنبلة الذرية، وهو 500 مليون جنيه إسترليني، يفوق كثيرًا كل ما أنفق على الأبحاث والتطورات منذ بدء التاريخ"(1). وبقدر هذا الجهد الهائل حول الذرة علميًا وتقنيًا كان هناك في المقابل جدل فكري كبير حول بعض ما توحي إليه في عالم الفكر وأثر ذلك في تغيير أصول فكرية أيديولوجية وعقدية لمذاهب شتى.
1 -
أول ما نلاحظه تكوّن مذاهب علمية داخل دائرة العلم عمومًا أو الفيزياء خاصة، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن مادة العلم الجديدة وهو عالم الذرة مادة لا يمكن رؤيتها والإحساس بها إحساسًا مشتركًا حتى تكون الأقوال العلمية حولها واحدة. فمع أن مادة البحث والنظر والملاحظة واحدة وهي الذرة؛ إلا أننا نجد أقوالًا مختلفة تكاد تشكل مذاهب علمية مختلفة. وهكذا نجد الاختلاف في طبيعة الضوء هل هو موجي أم جسيمي، ونجد تصور الذرة لا يذكر إلا مقترنًا بصاحبه (2)، فنجد مثلًا ذرة "طومسون" أو ذرة "رذرفورد" أو غيرهما، وهكذا، فلكل عالم اقتراحه.
وهنا يبرز التساؤل المحيّر: إذا كنا نتعامل مع ظاهرة علمية تخضع للملاحظة والتجريب فلماذا لا يكون القول فيها واحدًا؟ لقد كان من الطبيعي الاختلاف في مسائل دينية أو لاهوتية أو ميتافيزيقية؛ لأن التعامل فيها يكون مع أمور غيبية أو ذهنية، فتختلف الآراء حولها، لكن هنا في ميدان العلم ونحن أمام ذرة واحدة بين أيدينا، ومع ذلك اختلفت فيها آراء العلماء، وأصبحت في دائرة ما يختلف فيه، فلماذا لا يكون العلم حاله مثل حال تلك الأمور التي اعتدنا الاختلاف فيها؟ وبهذا يضعف كونه الممثل للحقيقة لوحده، ويبطل تقديمه على
(1) العلم في التاريخ 3/ 174.
(2)
انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 326.
غيره مطلقًا دون قيد أو شرط، ولا يصلح لأن يكون مقياسًا للصواب لوحده أو معيارًا للحقائق.
ومن بين أهم المشاكل المنهجية والإبستمولوجية المثارة بسبب تنوع المذاهب العلمية داخل مدرسة الكم أو ميكانيكا الكم مشكلة الحقيقة الفيزيائية (1). فبينما كانت تأخذ صورة المطابقة في الفيزياء الكلاسيكية، وتبعًا لذلك يتفق الأتباع على قول واحد، فإنها في الفيزياء المعاصرة تنزع إلى التنوع، وتصبح الحقيقة نسبية مرتبطة بتطور العالم، وكأنها مفهوم مصنوع من جدلية التفاعل بين ذهن العالم والمادة التي بين يديه. فلو كانت صورة طبق الأصل عن المادة لما اختلفت آراء العلماء، ولو كانت تصورًا ذهنيًا صرفًا لما كان هناك إطار عام يعترف به الجميع مثل أن هناك ذرة وداخلها إلكترون ونواة وجسيمات أخرى. ولكن الذرة أو الإلكترون لم يرهما أحد، وإنما عرفا بآثارهما، فيبقى الاعتراف بهما تقريبيًا ومتخيلًا.
فتصبح كلمة حقيقة أو مصطلح الحقيقة في ضوء الفيزياء المعاصرة مغايرًا لمفهومها في الفيزياء الكلاسيكية؛ أي: أن الحقيقة في الفيزياء المعاصرة ليست مما يحكم عليها بالصدق والكذب بسهولة؛ لأنها لا تعني المطابقة دائمًا، ولكنها مما يحكم عليها بالفائدة أو عدمها، فإن كانت تفسر وتنفع فهي حقيقة حتى تفقد قيمتها تلك بحقيقة جديدة أنفع منها.
ولا شك أن جرّ مصطلح بهذا المعنى إلى ميادين أخرى يسبب مشكلات كثيرة، ومن ذلك مثلًا وضع تقابل بين الحقائق الدينية المثبتة في الوحي وبين الحقائق الفيزيائية، فإن المقابلة هنا بين ما هو حقيقة التي لا مجال لها إلا الصدق، وبين ما هو حقيقة نفعية تفسيرية قد يأتي ما ينسخها.
وتظهر إشكالية المقابلة هذه من جهتين: من جهة رجال الدين أو من علماء متدينين يريدون استثمار نتائج مثل هذه النظريات لإثبات صحة عقائد أو لبيان سبق الدين إلى كشفها، فماذا هم فاعلون لو جاءت نظرية جديدة تلغي هذه وتستبدل حقائقها بحقائق أخرى؟
(1) انظر مثلًا: فلسفة العلم. الصلة بين العلم والفلسفة، فيليب فرانك ص 300 وما بعدها، والفيزياء والفلسفة، جيمس جنز ص 259 وما بعدها، ترجمة جعفر رجب.
وتظهر من جهة بعض العلماء غير المتدينين الذين يستثمرون نتائج هذه النظريات في التشكيك بأصول دينية والتكذيب بها؛ لأن في كل نظرية مجالًا لحركة الطرفين، وإن كانت بعض النظريات تميل لخدمة طرف أكثر من آخر فلا يمنع وجود تأويلات معارضة أيضًا، فماذا هم أيضًا قائلون لأتباعهم عندما يحدث في الغد تغيرات في النظرية؟
ومن الواضح أن من بين الأسباب لهذا الاضطراب أن الجميع وضع الحقائق المطلقة مقابل ما يطلقون عليه حقائق المنفعة النسبية، وبسبب الاشتراك في اللفظ وقع الاضطراب في المعنى. ومثل هذا نجده في الكتابات العربية الإِسلامية والعلمانية؛ إذ نجد من الكُتّاب من يستثمر نتائج هذه النظريات لتفسير أصول عقدية، وبيان سبق الإسلام إليها، بينما يجتهد التيار العلماني في استخدام مفهوم الحقيقة النسبية، وتطبيقه على أصول عقدية وشرعية من أجل إثبات نسبيتها، وأنها حقائق مؤقتة تناسب فترة زمنية قد يأتي ما يطورها أو يكون بديلًا عنها (1).
ونجد في هذا المقام المنهجي التشارك بين مفهوم الحقيقة النسبي المرتبط بإشكاليات نابعة من نظرية الكم مع نظرية النسبية لأينشتين، فنسبية "أينشتين" الخاصة تدور حول نسبية الزمان والمكان والمادة والحركة، وهنا مع الكم نسبية تدور حول الحقيقة ذاتها في عالم المادة الصغير.
وبما أن الفيزياء تُعد من أهم علوم العصر وأدقها فإن منهجها وفلسفتها تصبح مركز استقطاب للاقتداء من بقية المعارف، وربما هذا يفسر أن أغلب الكتب التي تتحدث عن فلسفة العلم تجعل أمثلتها الصلبة من مجال الفيزياء. ومع تحول الفيزياء المعاصرة إلى نظريتين كلاهما ينظر للحقيقة بمفهوم نسبي؛ فإن هذا المفهوم سيلقي بظلاله على أغلب مجالات الفكر المعاصر وتياراته، وتصبح كلمة النسبية من أشهر الكلمات دورانًا على ألسنة الناس.
2 -
من نظرية الكم إلى تيارات الفكر. عُرض فيما سبق مسألة منهجية أثارتها نظرية الكم ترتبط بمفهوم الحقيقة. والآن وقفة مع قضيتين تعدان من أهم القضايا التي أثارتها النظرية داخل تيارات الفكر والدين في الفكر الغربي، وهما:
(1) سيأتي الحديث عن هذا الموضوع في الفصل الخامس من هذا الباب.
الأولى: عواصف تواجه الفكر المادي وتياراته.
الثانية: اللاحتمية أو اللايقين وأثرها على المذاهب الحتمية.
- ما الإلكترون؟ فبالرغم من أن النظرية الكوانتية كانت وراء أغلب تلك الآثار؛ إلا أن أحد سكان الذرّة كان له الأثر الأبرز في إثارة كثير من القضايا وهو الإلكترون. فما هو الإلكترون؟ وما سرّ دوره في هذه النقاشات؟
سبق أن رأينا ما يقوله علماء الفيزياء عن الذرة واكتشافاتهم حولها، وملخصها بأن المادة أو المواد أو قل الأجسام تتكون من عناصر، والعناصر أصغر مكوناتها الذرة، وبعد نجاح أحد العلماء في شطر الذرة وجد بداخلها جُسيمًا سُمي الإلكترون، ووجدوه يتحرك، وكان التصور الأول لتلك الحركة أنها دائرية ثم جاء تصور جديد أنها حركة على شكل بيضاوي، وأن الإلكترون يدور حول جسيم آخر هو النواة، وأن هناك جسيمات أخرى داخل النواة أطلق عليها البروتون والنيوترون وغيرها، وما زالت الأبحاث مستمرة في هذا العالم المدهش.
فالإلكترون جسيم داخل الذرة، ويتحرك في مسار بيضاوي، وهو يمتص الطاقة ويطلقها، وهو عند امتصاصه للطاقة أو إطلاقه لها يتغير مسار حركته حول النواة اقترابًا وابتعادًا، وهو في هذه النقطة بالذات يتحرك بأسلوب لا يمكن التنبؤ به وكل ما هنالك احتمالات ولا يوجد يقين عن حركته، ومن هنا جاء مبدأ اللايقين.
وتتم عمليات تحريك الإلكترون عن مساره عن طريق إسقاط أشعة على الذرة، تسير الأشعة في صورة فوتونات وكأنها كرات، فيدخل أحدها الذرة ويصطدم بالإلكترون فيحركه عن مساره أو يخرجه من الذرة، فيما يشبه كرات البلياردو. وفي غرفة السحاب التجريبية لـ"ويلسون" يمكن مشاهدة أثر الإلكترون عندما يكون خارج الذرة، فالإلكترون عندما يشق طريقه خلال جُزيئات الغاز بغرفة التجربة يترك خلفه تكثفات، يشبه في ذلك أثر التكثفات التي تتركها طائرة تطير على ارتفاع شاهق في السماء مع أنك لا ترى الطائرة نفسها. وبهذا نعرف أنه قد مرّ من هنا، أما ما بداخل الذرة من إلكترونات فلم يشاهدها أحد وليس من الممكن إلى الآن مشاهدتها، ولا ندري هل ما شاهدناه خارج الذرة هو نفسه
الموجود داخلها أم أنه قد حدث له تغير (1).
لقد قام أحد علماء الفيزياء -هيزنبرج- بالتفرغ لهذا الجسيم العنيد، فحاول "بتجاربه ملاحظة موضع الإلكترون وسرعته واتجاهه بأدق ما لديه من مكبرات"، ومما وجده أن تحديد مسار إلكترون واحد وسرعته واتجاهه يعد جهدًا ضائعًا، ولا ترجع المشكلة "إلى نقص في آلات العلم، وإنما إلى طبيعة الإلكترون. ولكي يثبت ذلك افترض أن مكبرًا خياليًا قادر على تكبير الإلكترون إلى قدر قطره بمائة بليون مرة حتى نستطيع رؤيته". فتظهر هنا صعوبة أخرى، إذ حتى نراه فنحن في حاجة إلى أشعة قوية، ولكن هذه الأشعة ستزيله من مكانه. فإن استطعنا تكبيره لهذه الدرجة وهي خيالية فلن نستطيع رؤيته؛ لأن الأشعة التي ستمكننا من رؤيته ستقتلعه من مكانه، وبحسب تشبيه البعض فإن ذلك كمن يريد اصطياد عصفور بمدفع عملاق.
وصل "هيزنبرج" بعد كل ذلك إلى مبدأ اللايقين الذي يقول فيه -بعد ملاحظات طويلة وحسابات دقيقة-: "إن من المستحيل من حيث المبدأ أن ترصد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها بدقة متناهية في الوقت نفسه. يمكنك فقط أن تحدد بدقة متناهية موضع الإلكترون، وحينئذ لا نستطيع تحديد سرعته واتجاهها بنفس الدقة، أو يمكنك تحديد سرعته واتجاهها بكل دقة، وحينئذ لا تستطيع تحديد موضعه المكاني"(2).
ومن الأمور المدهشة حول هذا الكائن المحير اختلاف علماء الفيزياء حوله، هل هو من طبيعة موجية يشبه في ذلك أمواج البحر أم هو من طبيعة جسيمية كحبات الرمل! إننا نسمع ونقرأ عن موجات تسبح في الفضاء باختلاف أطوالها من قصيرة ومتوسطة وطويلة، فهل هي موجات تشبه موجة البحر من
(1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 209، وانظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 20.
(2)
انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 28 - 29، وانظر: أينشتين والنسبية، مصطفى محمود ص 29 - 30، وانظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 237، العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 120، وانظر: أفي الله شك؟، د. حمد المرزوقي ص 49 - 52، وما بين الأقواس عن زيدان.
لحظة انطلاقها إلى منطقة استقبالها أم هي تنطلق على شكل جسيمات وحبات؟
إنها من المسائل الشائكة وذات أبعاد مؤثرة خارج دائرتها العلمية كما سنرى. فإذا نظر العلماء إلى الضوء أو الإلكترون وجدوا فيهما ما يدل على أنهما من طبيعة موجية وفيهما أيضًا ما يدل على أنهما من طبيعة جسيمية، فانقسموا تبعًا لذلك إلى مدرستين، وكل مدرسة بنت رأيها على استدلالات، أما إدراك حقيقة الضوء أو الإلكترون فغير ممكنة تمامًا طالما أن الرؤية لهما مستحيلة، مما حدا بالبعض إلى القول بعدم وجود الإلكترون واقعيًا، وأنه مجرد تصور رياضي مفيد، ومن ثمّ ينتقلون إلى الوظائف الممكنة لهذا التصور الرياضي المفيد (1). وهناك تيار ثالث حاول الجمع بين الأمرين، فقال: إنهما من طبيعة موجية، وفي الوقت نفسه جسيمية، وهو مما يزيد الحيرة حول الموضوع (2).
وعجائب هذا الكائن المدهش الإلكترون كثيرة، وما وقفت إلا مع ما له صلة بحركة الفكر المعاصر لنرى، كيف كان لمثل هذا الكشف والنظرية من آثار، مع العلم بوجود أمرٍ آخر يدفعني لمواصلة الحديث عنه؛ وهو أن الصحيح من هذه المعلومات يدفع بالعاقل إلى النظر في ملكوت الله سبحانه والتفكر في مخلوقاته، وذلك جزء من العبودية التي حثنا عليها ربنا سبحانه في مواطن كثيرة من كتابه الكريم. وهذا النظر والتفكر هو أنفع للقلب في الدنيا والآخرة إذا قاد صاحبه للإيمان به سبحانه. وهذا أمر ينقص الكتابات العلمية والفكرية حول هذا الموضوع وأمثاله، فهي تبقى سابحة في عالم الأرقام والفرضيات والملاحظات الجامدة دون أن يدفعها ذلك إلى إيقاظ القلب، فتفتح له نوافذ أخرى نحو الإيمان بالله سبحانه وتحقيق عبوديته، وإذا لم يكن هذا الهدف بارزًا في الدراسات العقدية فستكون فائدتها ناقصة.
بعد هذه الرحلة في عالم الإلكترون نرجع إلى القضيتين اللتين تسبب الإلكترون بإثارة النقاش حولهما، وكذا نظرية الكم وميكانيكا الكم القائمة على دراسته.
(1) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 228 - 230.
(2)
انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 26 - 27.
الأولي: عواصف تواجه الفكر المادي وتياراته:
لقد رأينا ابتهاج الماديين بشتى تياراتهم في القرن التاسع عشر (13 هـ)، بانتصارهم على الدينيين والمثاليين، يزعمون أن العلم -سواء في فيزياء نيوتن ومن بعده لابلاس أو مع داروين وغيره- يؤكد صحة مذهبهم؛ لأنهم لا يرون مذهبهم بناءً فكريًا وفلسفيًا فقط، بل يزعمون أن العلم يدعم رؤيتهم أيضًا.
وتقوم رؤية الاتجاه المادي على أن الحقيقة هي في المادة فقط، وأنها أصل الوجود وحقيقة العالم، وما سوى ذلك مما يعتقده أهل الأديان من عالم الغيب أو ما يراه أهل المذاهب المثالية من وجود ماهيات عقلية ومُثل، فكل ذلك مما لا حقيقة له.
وإذا كان من السهل عليهم مجابهة النظرية النسبية لكونها صياغة علمية بروح فلسفية، فالزمان النسبي أو المكان النسبي وانحناء الكون وغيرها من مفاهيم النظرية النسبية ليست مما يمكن وضعه بسهولة تحت محك التجربة، ولكن صعُب عليهم التعامل مع نظرية الكم لأنها ضمن دائرة العلم الفيزيائي الضيق، وهو العلم نفسه الذي تزعم المادية أنها بنت أدلتها عليه.
وقد رأى الماديون والوضعيون بأن العلم والمادة هما الدين البديل عن دين القرون الوسطى، ولكن نظرية الكم وعالم الإلكترون قد هشم هذا الدين المادي البديل (1)، يقول أحد الكتاب الغربيين:"عشنا طوال القرن التاسع عشر، وجزءًا من القرن العشرين في جو مذهب مادي واثق من نفسه. . . . كان عالمًا ميكانستيًا، وكنا نجلس فوق قمته. كنا نمسك بالقوى الظاهرية للمادة، وكانت المادة هي إلهنا. كان العالم الطبيعي يتحدى الوحي الروحي للإنجيل بنظرياته في الإلحاد والعقلانية. ويمكن للمرء أن يقول: إن هذه الحقبة للمذهب المادي قد امتدت حتى يوم انفجار القنبلة الذرية فوق هيروشيما. . . . وأظن أنه يصح لي أن أقول: إن المادة قد انتحرت الآن -وأنه قد تكشف لنا أن المادة لم تعد قادرة على أن تحمي أو تنفع أي إنسان في أي مكان ما لم توجه الأفكار التي تسندها نحو مفاهيم جديدة للاتكال المتبادل"(2).
(1) انظر: فلسفة العلم، فرانك ص 288.
(2)
فلسفة العلم ص 296.
ولا شك أنها نقلة كبيرة من قرنٍ أُلِّهت فيه المادة إلى قرن انتحرت فيه. وبدا الأمر وكأن نظرية الكم مع صاحبتها النسبية ترخّصان بدخول "العنصر العقلي أو الروحي في الكون الفيزيائي، بينما تدعو النظرية النيوتونية للكون الفيزيائي إلى استحالة ذلك. ومن المؤكد أن هذا لم يكن رأي نيوتن. . . ."(1). ويذكر "فرانك" أيضًا عن أحد الكتاب بأنه قدّم "البرهان الواضح على أن فيزياء القرن العشرين قد أعادت إلى الكون دور الروح الذي لفظه نمط الفيزياء النيوتونية"، وقد أورد هذا البرهان كثير من أصحاب الكتب والمقالات والمحاضرات، ومفاد البرهان أننا كما نشعر بأمور دون أن نعلم حقيقتها في نظرية الكم أو نظرية النسبية، وهذا يعني بأننا "لم نعد مضطرين إلى الاعتقاد بأن "المادة المتحركة" هي وحدها الشيء "الحقيقي". . . ."، وفي الوقت نفسه "فإننا لم نعد مضطرين إلى الاعتقاد بأن تجاوبنا مع الجمال، أو أن إحساسنا بالارتباط الخفي بالله ليس لهما نظير موضوعي. . . ."(2).
وإذا نظرنا أيضًا إلى علماء الفيزياء في القرن الرابع عشر/ العشرين، وهم من يعوِّل عليهم التيار المادي في ماديته نجدهم قد مالوا في الغالب إلى الشق المثالي من الفلسفة، وهو وإن لم يكن مرادفًا للدين أو مساويًا له، فإنه على الأقل يشترك معه في إثبات وجود عالم خفي يؤثر في عالم الحسّ والمادة والشهادة (3)، وذلك يمثل تحديًا كبيرًا للماديين، إذ سيقال لهم: إن أهم أدلتكم على مذهبكم المادي، وأقواها إنما يستند على الفيزياء خصوصًا، وهاهم علماؤها لا يميلون إلى ماديتكم وتأخذ بتصوراتهم الفلسفات المثالية والوضعية الجديدة، أتكونون علميين أكثر منهم؟!
(1) المرجع السابق ص 290.
(2)
انظر: المرجع السابق، فرانك ص 293 - 294، ونجد مثل هذا الاستدلال شائعًا حول النظرية وبهذه الصورة، ويمكن صياغته بصورة أصح من الناحية الشرعية بحيث يقال: إن صحت مثل هذه النظرية بمفاهيمها، وهي تدل على عالمٍ مخلوق لا يمكن رؤيته وإنما يعرف بآثاره، فمن باب أولى صحة ما يستدل به المقرون بوجود الله سبحانه والمؤمنون به من معرفته سبحانه من آثاره ومخلوقاته، ويكون من قياس الأولى المعتبر.
(3)
انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 81، الفصل الرابع، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 267، وانظر: أسس المنهج القرآني في بحث العلوم الطبيعية، د. منتصر مجاهد ص 26.
وبعيدًا عن تقويم هذه المواقف فإن المتابع لهذه الأحداث يجد نقلة كبيرة في الفكر العلمي والفلسفي المعاصر، وهي نقلة ليست سهلة، فبينما ساد اعتقاد راسخ في القرن التاسع عشر (13 هـ) عند العلماء والمفكرين بأن "الحديث عن وجود حقائق لا مادية، مثل وجود الله أو النفس يعتبر تفكيرًا غيبيًا غير علمي" لدرجة أن أحد أعلام تلك المرحلة -لابلاس- يقول لنابليون "حينما سأله عن الدور الذي يقوم به الله في تدبير الكون، فقال: إنني لست بحاجة إلى هذا الفرض يا سيدي"(1)، وإذا بنظرية الكوانتم تؤكد بأن المادة المحسوسة تكاد تكون وهمًا بصورتها في المذاهب المادية. وأن الحقيقة ما هي إلا جسيمات غير مرئية على الإطلاق، وإنما نستدل على وجودها من آثارها، وإذا كان الإلكترون غير قابل للمشاهدة وإنما نستدل على وجوده بآثاره، فلم لا يكون الإقرار بالله عز وجل وإثبات النفس والوعي والقيم مما يمكن ربطها على نحو جديد بتصور عصرنا العلمي (2)؟!
ومن المؤكد بأن للمسلم نظرة خاصة حول هذه الأحداث عندما يقيّمها من خارجها، لاسيّما في مسألة كهذه تدور حول الإلحاد والإيمان، أو بين المادية والغيب، ومن معالم هذه النظرة: بأنه وإن رأى انتصار المثاليين على الماديين، فالمادة لم تعد هي المادة، وإنما هي كائن غير مادي، وإن رأى انتصار المؤمنين على الملحدين -بحسب اصطلاحاتهم- باستدلالهم بأنه كما أن هناك موجودات مادية غير مرئية أو إنما تعرف بآثارها، فمن باب أولى وجود الله سبحانه، وكذا الأخلاق والوعي والعقل والنفس والحرية، وهي عناصر بناء اللاهوت في الغرب والفلسفات العقلية والمثالية، إنه -وإن رأى كل ذلك- فهو يعرف النقص الكبير الذي فيها؛ ذلك أنها -وإن نجحت في إلجام الماديين والملحدين فهي- غير كافية لقيادة الناس نحو الدين الحق والاعتقاد السليم، وإنما ذلك مرتبط بطرف آخر لم يمارس دوره الحقيقي في جوّ هذه المعركة وهم المسلمون، فإنه لو صاحب مثل هذه النكسات للتيارات المادية والإلحادية أمة تُبيّن للناس الدين الحق، وترشدهم إلى الاعتقاد السليم لربما رأينا من يتحول عن مذاهب مثالية
(1) انظر: هامش رقم (2) عند بدوي، فلسفة العلوم ص 232، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 151.
(2)
انظر: المرجع السابق، بدوي ص 233.
جوفاء إلى دين السماء، ولكن الأمة الإِسلامية كانت في هذه المرحلة تمرّ بضعف شديد يستحي بعض أهلها من الاعتراف بإسلامهم أمام الغرب المتحضر في نظره فضلًا عن أن يدعو إلى دينه، ومنهم من انهمك في هذه المرحلة في تقليد أعمى لمذاهب ضالة وتحول من موطن الريادة والقيادة والدعوة والتبليغ إلى موطن التبعية والتقليد.
ومما ينبغي تذكره دائمًا بأن الإلحاد والمادية لا علاقة لهما بجوهر العلم، فالعلم ليس ماديًا ولا إلحاديًا، وإنما هو نشاط إنساني يمكن توجيهه هنا أو هناك، ومما يدل على ذلك بأن الاتجاه المادي والإلحادي قد أقام مذهبه هذا على فيزياء نيوتن من جهة آليتها -ميكانيكيتها- أو قيامها على المادة فقط، ولكننا نجد أن نيوتن نفسه لم يكن ماديًا ولا ملحدًا، وإنما ذلك كان من قبل الاستثمار الأيديولوجي المبني على الهوى لفيزياء نيوتن. وأغلب رواد الثورة العلمية من كوبرنيكوس إلى نيوتن لم يكونوا ملاحدة أو ماديين وإنما كانوا مؤمنين باصطلاحاتهم الغربية.
وأيضًا فإن الإيمان بالله سبحانه والإقرار بوجوده، وما يتبع ذلك من الالتزام بدينه والقيام بالعبودية الكاملة له سبحانه، مما لا يرتبط بالفيزياء أو الكيمياء أو الرياضة أو غيرها من العلوم. فهو بداية أمر فطري فطر الله الناس عليه، ثم هو أمر تقرّه العقول الصحيحة، ومع ذلك فإن الفطرة قد تطمس والعقول قد تضل؛ لهذا تكفّل الله سبحانه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكان خاتمهم محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الحق وحده، وأما هذه العلوم فالصحيح منها إن لم يدل على ما أنزل الله من الهدى والحق فإنه لن يعارضه، وكل ما عارضه من علوم البشر فإما لخطأ فيها أو لسوء استثمار لها أو عدم معرفتها معرفة صحيحة.
ونقول هذا الكلام حتى لا يأتي من يقول بأن نظرية الكم مثلًا توافقت كثيرًا مع عقيدة الإقرار بالغيب؛ لكن جاء بعدها نظرية أخرى كشفت نقصها أو ضعفها أو خطأها، فهل يعني ذلك أن يترك الناس الإقرار بالغيب من أجل سقوط نظرية كانت تؤيده. وهذا الأمر يؤكد خطورة التساهل في التعامل مع النظريات العلمية التي لم تتحول إلى حقائق قطعية يقينية في الأبواب الدينية، وربما تكون السلامة في ظل ما يُسمى بـ"الحقائق العلمية النسبية" التوقف كثيرًا حتى مع تلك التي اشتهر عنها بأنها حقائق قبل استثمارها دينيًا؛ لأن قيمة الحقيقة إنما اكتسبتها من
أهل دائرة العلم، ولا يستطيع غيرهم التأكد من صحتها؛ لأن الناس في باب النظريات المعاصرة تبع للعلماء، يثقون بكلامهم دون قدرة الناس العاديين من التأكد والتوثق من صحتها، فمن يستطيع مثلًا التحقق من نظرية النسبية العامة.
ويستدعي هذا النقاش التحذير من مواقف متساهلة ظهرت على السطح الإِسلامي يقوم أصحابها بأمرين خطيرين -إن لم يُبنَيا على علم وبصيرة- وهما: التفسير العلمي لنصوص الوحي أو بيان الإعجاز العلمي فيها. وعلى قدر ما أشعر بجلالة الأمر الذي يقومون به وسموّ مقصدهم ونبل غاياتهم؛ إلا أن التساهل في هذا الباب قد يُفسِد أكثر مما يصلح، وإنما ذكرت هذه الملحوظة هنا لشيوع الاستثمار الديني لمثل نظرية الكم.
وعندما أعرض للصدمة التي تعرض لها الاتجاه المادي والإلحادي، فإنما أقدم صورة من صور الاستثمار غير المشروع للعلم ونظرياته ومفاهيمه ومناهجه، وأن ذاك الاستثمار قد ضُرب من معاقل العلم ذاتها، وهذا النوع مما له ثمرة في التحليل النقدي وبيان الانحرافات المرتبطة بالتطور العلمي عندما يساء استخدامه.
وخلاصة القضية الأولى بأن الاتجاه المادي والإلحادي قد تزعزعت منظومته الفكرية المستندة للعلم، ففقد الحجج التي كان يستند عليها. فإن أراد الملحد الإصرار على الإلحاد فلا سند له من العلم، ولهذا نجد التيارات الإلحادية الجديدة بعيدة عن ميدان العلم بخلاف تيارات القرن السابق، وهذا لا يعني قلة الإلحاد ولكن سنده العلمي قد ضعف.
الثانية: اللاحتمية أو اللايقين وأثرها في إضعاف المذاهب الحتمية الجامدة:
من بين أشهر القضايا التي أشغلت الفكر الغربي قضية حرية الإرادة، وحرية الإرادة قضية مرتبطة بالإنسان، هل هو حرٌّ مختار أم أنه لا يملك حريته واختياره؟ وهذه المسألة ليست جديدة، فهي مسألة شائكة في كل الأمم، والاختلاف حولها كبير، وغالبًا ما نجد في كل أمة الانقسام المشهور بين اتجاه ينحى منحى مذهب الجبرية، وآخر ينحى منحى مذهب القدرية، وهي مسألة ترتبط بالإيمان بالقدر عند المسلمين والإيمان بالله سبحانه وتعالى وتحقيق توحيد الربوبية. وقد سلك الفكر الغربي الحديث أول أمره مسلك الحتمية الشبيه بالمذهب الجبري، مستندين في ذلك إلى دائرة العلم ذاته، فهم يرون بأن قوانين نيوتن
الفيزيائية قد فسرت حركة الكون، وأنه يسير بشكل دقيق لوحده، ويكفي -بحسب رأي لابلاس- أن نعرف نقطة من نقاط مسار أي حدث لنعرف بقية نقاطه (1). ثم عُمّم ذلك إلى بقية المجالات بما فيها الإنسان ذاته ومشاعره وأفكاره والمجتمعات وحركة التاريخ والحضارات وهكذا.
وقد كان الاتجاه المادي أشهر الاتجاهات ادعاءً للعلمية، ومما برّروه علميًا موقفهم من مشكلة حرية الإرادة، فهذا كان أصل العالم كله يرجع إلى مادة وحركة، وقد كشف نيوتن قوانين حركتها، فإن ذلك بحسب رأي الماديين يشمل الإنسان؛ ففسروا "الفكر على أنه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد"(2)، وكان ميلهم تبعًا لذلك إلى مذهب الحتمية الجبرية. وبما أن التفسير المادي للإنسان يخضع لميكانيكا مادية مستوحاة من الفيزياء؛ فإن مثل هذا التفسير لابد أن يتأثر عند التغير في دلالات المصدر. وقد رأينا أثر نظرية الكم في زعزعة المذهب المادي جملة، ونرى هنا أثرها في زعزعة قضية مهمة من قضايا الاتجاه المادي هي الحتمية.
وقد كان سبب هذه الأحداث والتغيرات هو بعض ما كشف عن عالم الإلكترون، فكما أنه قد أصاب الاتجاه المادي عمومًا في مقتل؛ فإنه هنا أيضًا أصاب قضية الحتمية المادية بإصابات مماثلة، ويظهر أن هذا الكائن الصغير الذي لم يره أحد قد كان نقمة شديدة على الاتجاه المادي.
يتعلق الأمر هنا بالمبدأ المشهور في نظرية الكم الذي اكتشفه الفيزيائي "هيزنبرج" عام (1927 م)، وهو مبدأ اللايقين، وخلاصته: أنه بعد نجاح "طومسون" في تفتيت الذرة واكتشافه الإلكترون داخلها، واكتشاف "راذرفورد" النواة، وتصورهم بأن الإلكترون يدور حولها، جاء بعدهما "نيل بور" بافتراضٍ حول حركته: فالإلكترون لا يبقى في مدار محدد حول النواة، وإنما يقفز من مدار إلى آخر، يشبه في ذلك قفزات حيوان الكنغرو في حقل، جاء بعدهم "دي
(1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 149 - 150، وانظر: العلم والاغتراب والحرية. مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي، الفصل الثالث: ضروب الحتمية العلمية. وانظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 305.
(2)
الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 274.
بور وشرودنجر" ليفترضا أن الذرة والإلكترون من طبيعة موجية، عندها لا يكون لهما وضع محدد داخل الذرة.
أخيرًا جاء "هيزنبرج" ليكشف شيئًا أكثر غرابة عن الإلكترون، فبعد تجاربه وملاحظاته عن الإلكترون -كما سبق- توصل إلى "مبدأ اللايقين الذي يقول: إن من المستحيل من حيث المبدأ أن ترصد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها بدقة متناهية في نفس الوقت" (1)، ومن نتائجه ذات الأثر في موضوع الحتمية "أننا إذا عزلنا إلكترونًا واحدًا عن بقية مجموعة الإلكترونات في مجال واحد، وحددنا تحديدًا دقيقًا سرعة حركته واتجاهها، فلن نستطيع تحديد موضعه المكاني بنفس الدقة، وإذن فبالأحرى لا نستطيع أن نتنبأ بموضعه وحركاته في أي لحظة أخرى في المستقبل، وذلك يهدد مبدأ الحتمية" (2). وتبع هذه التطورات العلمية بلبلة فكرية حول حقيقة التصورات التي بناها فلاسفة ودعاة مذاهب على مفاهيم علمية سابقة، ومما يزيد عمق المشكلة بأن التطورات لا تدفع إلى نهاية الطريق وفق تراكمات معرفية يكمل اللاحق السابق ويصحح قصوره، بل يكاد الأمر يكون أشبه بالعودة إلى نقطة البداية، ويكاد يكون كل ما هناك: أنه في عصر الفيزياء الحديثة كان من السهل إطلاق أحكام قطعية في الموضوع أما بعد الثورة الجديدة في الفيزياء المعاصرة فقد كشفت بأن الأمر أعقد من ذلك بكثير، ومن هنا تحولها إلى مفاهيم الإحصاء والاحتمال بدل القوانين القطعية (3).
وقد استثمر البعض مثل هذه النتائج في إثبات حرية الإرادة للإنسان واختلافه عن عالم المادة، وأنه وإن كان عالم المادة يخضع لحتمية كونية، فإن الإنسان غير ذلك، وإلا لما كان هناك فائدة أو تبرير لوجود الأخلاق أو الشرائع
(1) سبق الحديث عن الإلكترون، وانظر أيضًا: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص 27.
(2)
من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية ص 104 - 105، وانظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 273 وما بعدها.
(3)
انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، الباب الثاني، الفصل الثالث، وانظر: الفيزياء والفلسفة ص 287، وانظر: العلم والاغتراب والحرية، الفصل الخامس (انقلاب العلم المعاصر على الحتمية)، ومع أن في المرجع الأخير شرح موسع إلا أن فيه مبالغة حول القول بميل العلماء إلى اللاحتمية تمامًا.