الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتمثّل أخيرًا في دور "التنقية" وهي آلية حرص من خلالها الوضعيون على استبعاد كل ما هو غيبي تحت شعار تنقية العلم، فقد كانت التنقية واحدة من وسائل الانحراف بالعلم، كما كانت آلية "الربط والتعميم" وسيلة الماديين في الانحراف بالعلم، وهما تياران متقاربان فعملية التنقية تخدم أصحاب التعميم؛ لأنها تبعد كل ما هو ديني أو مثالي من العلم ليبقي ماديًا صرفًا عندها يأتي دور الماديين لاستثماره عن طريق التعميم.
الخامس: دور اليهود
تتحدث أغلب الدراسات الحديثة عن دور الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم مع العلم بأن النصرانية لم تكن الدين الوحيد في أوروبا آنذاك وقت المستجدات العلمية في أوروبا، بل كان هناك أيضًا اليهودية واليهود، وتساؤل هذا الفقرة: يا ترى ما الدور الذي قام به اليهود في مسيرة العلم الحديث؟
وبما أن مهمة هذا الفصل هي البحث في أسباب انحراف مسيرة العلم دون البحث في أسباب تقدمه، فإن هذه المهمة تحصرني في حقيقة الجانب السلبي من أتباع هذه الديانة، ومقارنة ذلك الأثر بما قامت به الكنيسة. وحتى نحقق ذلك فنحن في حاجة لبحث طبيعة الوجود اليهودي في أوروبا النصرانية.
عندما اعتنقت أوروبا الدين النصراني المحرف دخلها اليهود في ظل التشريد الذي ظلّ يلاحقهم سنين كثيرة، وكانوا ينقسمون إلى قسمين (1):"الإشكناز" في شمال وشرق أوروبا وكان من معاقلهم ألمانيا وما حولها، والقسم الآخر "السفارديم" في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان أهم مركز لهم بلاد الأندلس، أما وسط وغرب أوروبا فكان وجودهم فيها محدودًا، وفي بعض المراحل يحدث لهم إجلاء لدرجة أن كلًا من بريطانيا وفرنسا كانتا خاليتين منهم نهايات الرابع عشر الميلادي "8 هـ"(2)، ولكن بعد سقوط بلاد الأندلس المسلمة
(1) انظر حول القسمين، الفكر الديني اليهودي. أطواره ومذاهبه، د. حسن ظاظا ص 202 - 204.
(2)
كان ذلك بعد الجلاء الكبير الذي قام به ملوك أوروبا بدايةً بملك فرنسا ثم تبعه ملك إنكلترا وقلدهم في ذلك بقية ملوك أوروبا، انظر: اليهود وراء كل جريمة، وليم كار ص 64 - 66.
بيد النصارى، وظهور محاكم التفتيش هرب أكثر السفارديم إلى داخل أوروبا أو إلى أجزاء من تركيا الحالية، أو إلى شمال أفريقيا ومصر وغيرها، ولأسباب كثيرة من بينها حاجة ملوك أوروبا للمال أُعيد الاعتبار لبعض اليهود لقدرتهم في تحصيل المال.
وقد حمل الهاربون من الأندلس إلى داخل أوروبا ثروة علمية حصلوها من عيشهم داخل الحضارة الإِسلامية، وثروة مالية جمعوها من حاضرة الأندلس، وبهاتين الثروتين أسس اليهود قاعدة تغلغلهم في المجتمعات الأوروبية (1). وبدأت عندها أوروبا النصرانية تتعرف بصورة أوضح على اليهود مع العلم بأن الاحتكاك بين الديانتين قديم، ويكفي أن نتذكر بأن النصرانية الموجودة في أوروبا يعود أمرها إلى صياغة "بولس" اليهودي الذي تحول كما يزعم إلى النصرانية وكوّن صورة جديدة للنصرانية قبلها فيما بعد القادة الدينيون للنصرانية (2).
ظهر اليهود على السطح الأوروبي في مرحلة المخاض الأوروبي العسير، الذي انتهى بحركة الإصلاح الديني -وهو في الحقيقة محاولة فقط لإصلاح طغيان الكنيسة، أما الدين فلم تُصلحه تلك الحركة- وقد تأثر اليهود بهذه الحركة أيضًا، فظهرت حركة إصلاح يهودية مشابهة لتلك النصرانية (3)، وبدأت بعدها تلك الجماعات اليهودية تنخرط في المجتمع الأوروبي، ولم تتغير الصفات المعهودة عنهم من التعالي على الآخرين كونهم يرون أنفسهم شعب الله المختار، ومن انهماكهم في جمع المال وحرصهم على المادة واستحلال استغلال الشعوب المخالفة لهم مما جعلهم مبغضين في المجتمعات التي يعيشون فيها، إلا أن المال الذي بين أيديهم قد جذب الناس إليهم. وقد كان هذا من بين أهم الأسباب للنكبات التي تحلّ بهم ما بين فترة وأخرى (4).
في وضع كهذا فلا يتصور أن يكون لليهود أثر ظاهر في حركة المجتمع
(1) انظر: الصهيونية المسيحية، محمَّد السماك ص 33.
(2)
انظر: المسيحية، د. أحمد شلبي ص 111 وما بعدها ولاسيّما ص 129، وانظر: بولس وتحريف المسيحية، هيم ماكبي، ترجمة سميرة عزمي، وهو من بين الكتب المشهورة في مناقشة هذا الموضوع.
(3)
انظر: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 170 - 171.
(4)
انظر مثلًا: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمة ص 343 - 346.