الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغربي بما في ذلك تلك المستجدات على مستوى الحركة العلمية، فهم في وضع غير مستقر، وقد كان رواد الاتجاهات العلمية الجديدة من معتنقي الدين النصراني، وبعضهم من رجال الكنيسة من "كوبرنيكوس" و"كوبر" و"جاليليو" إلى "نيوتن"، ولذا سيتأخر أثرهم في العلاقة بالعلم إلى وقت لاحق عند تقبل المجتمع الأوروبي لهم فيما بعد.
الأحداث الثلاثة التي مكنت لليهود في الفكر الحديث:
أثناء فترة الثورة العلمية وقعت ثلاثة أحداث مهمة ساعدت في بروز اليهود كطائفة فاعلة في المجتمع الأوروبي على مستوى الفكر والعلم وحياة المجتمع الغربي، هذه الأحداث الثلاثة هي: أولًا: النقد الجذري للتوراة كتاب اليهود المحرف الذي قام به الفيلسوف اليهودي "إسبينوزا"، وثانيًا: الدعوة الجديدة التي أطلقها "موسى مندلسون" حول خروج اليهود من الجيتو، والاختلاط والتعايش مع مجتمعات البلدان التي يعيشون فيها، وأخيرًا: الثورة الفرنسية.
1 -
الحدث الأول: ما قام به إسبينوزا (1632 - 1677 م) فهو أحد أشهر فلاسفة العصر الحديث، تأثر بديكارت، من أسرة مهاجرة من الأندلس بعد سقوطها، كان والده يُعدّه ليكون رجل دين، لكنه انصرف عن ذلك لدرجة أن طُرد من طائفته اليهودية، بسبب أفكاره الجديدة ونقده الشديد للتوراة. ويعدّ إلى الآن أحد الرموز التي يرجع إليها فلاسفة اليهود وعلماؤهم، فضلًا عن تأثيره في الفكر الغربي الحديث عمومًا.
الشيء الجديد الذي قام به إسبينوزا وصدم أوروبا كاملة هي صورة النقد التي طبقها على كتب مقدسة عندهم، ممهدًا بذلك لمدارس النقد الديني، ونزع بذلك قداسة تلك الكتب، وأثبت بطلان نسبتها إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وبيّن ما فيها من إضافات أو تناقض أو أخطاء في كتابه المشهور:"رسالة في اللاهوت والسياسة"(1). وإذا كانت الثورة العلمية قد شككت في بعض ما يرد في كتبهم المقدسة فإن عمل إسبينوزا يشكك في تلك الكتب جملة، وليس في بعض معلوماتها فقط، وقد بين تعاقب الأيدي في تشكيلها وكتابتها. ومنذ أن اعتنقت
(1) قام الدكتور حسن حنفي بترجمته للعربية مع مقدمة طويلة، وراجعه د. فؤاد زكريا وصدر عن الإنجلو المصرية.
أوروبا النصرانية وتعرفت على اليهودية، إلا أنها لم تعرف في تاريخها مثل هذا النقد الذي قدمه إسبينوزا.
ومن المفيد هنا أن نتذكر بأن ما أصاب فيه "إسبينوزا" لم يكن مجهولًا في البلاد الإسلامية؛ فإن أسرته قد كانت من أهل الأندلس، وكتاب "الفصل" لـ"ابن حزم" بنقده التاريخي، مما هو مبثوث في فضاء الأندلس الثقافي والعلمي (1)، وقد كان ذلك النقد وغيره مما يعرفه اليهود، وربما تناقله بعضهم وكوّن ذلك منطلقًا مهما للعمل الذي حققه إسبينوزا بعد إضافة المنهج الديكارتي عليه.
هذا ويُعد "إسبينوزا" أحد الديكارتيين الكبار نسبة إلى "ديكارت" أحد أشهر صانعي الخط المنهجي في الفكر الغربي الحديث (2)، إلا أن ما أضافه على أستاذه ديكارت، وبقي ذلك ممتدًا إلى عصرنا الحاضر مذهبه في وحدة الوجود، والذي يرى فيه بأن الطبيعة هي الجوهر الوحيد، إلا أن هناك طبيعة طابعة خالقة وطبيعة مطبوعة مخلوقة، والطبيعة علّة ذاتها لا تفتقر في وجودها إلى كائن آخر، وبهذا يحلّ الإله في الطبيعة (3). وهذا الاعتقاد بوحدة الوجود نراه في بعض علماء أوروبا المعاصرين كعالم الفيزياء اليهودي إينشتين (4) الذي يعيد صلته باسبينوزا، وكذا نجده مع عالم النفس اليهودي فرويد. وكأن اليهود قد وجدوا لهم مرجعية يهودية كبيرة داخل الفكر الغربي الحديث ينتسبون إليها.
(1) ممن ألمح لذلك الدكتور سفر الحوالي في مقال له بمجلة "البيان" بعنوان: مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة، عدد محرم (198)(1425 هـ)، ومن بين أهم الكتب الإِسلامية في الموضوع كتاب: الفصل لابن حزم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، وهي أقدم بكثير من عمل إسبينوزا.
(2)
انظر: الفصل الأول، ويعد أحد أشهر دعاة وحدة الوجود، فقد قال بأن الجوهر الفرد الموجود في جميع الأشياء هو (الله) وعرّف هويته بالطبيعة، وهذه الحلولية قد عُرفت سابقًا مع أحد رموز الحركة الفكرية والعلمية الحديثة وهو "برونو" ثم جددها "إسبينوزا" وزاوج بينها وبين المذهب الميكانيكي الجديد، انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، سترومبرج ص 80، ترجمة أحمد الشيباني.
(3)
انظر: موجز تاريخ الفلسفة، لجماعة من السوفيات وترجمة د. توفيق سلوم ص 171، وانظر: مذهب إسبينوزا في الطبيعة الطابعة والمطبوعة، كتاب: جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل ص 208 وما بعدها.
(4)
انظر: رؤية أينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فراج ص 28 وما بعدها، أما فرويد فسيأتي آخر هذا المبحث.
لقد مثلت صورة "إسبينوزا" في المخيلة اليهودية الحديثة مرجعية للثورة ونبذ الماضي والدعوة للإلحاد، وتجاوز أثره إلى الفكر الغربي الحديث عمومًا، وحوّل إسبينوزا اليهود من أقلية لا شأن لها في مجال الفلسفة والفكر إلى أقلية فاعلة فكريًا، إلا أن هناك عائقًا يمنع تواصل اليهود مع غيرهم، تمثل من جهة في حرص اليهود على الاستقلال الذاتي في مجمعات خاصة بهم، وفي الوقت نفسه كانت أوروبا تبغض اليهود وتحتقرهم وتقصيهم؛ بسبب بعض أعمالهم وأخلاقهم فزاد ذلك من عزلتهم الذاتية والشعورية، إلى أن جاء موسى بن مندلسون بدعوته لفك هذه العزلة.
2 -
الحدث الثاني: دور الإصلاحيين أو المجددين "موسى مندلسون"(1729 - 1786 م):
ترتبط حركة الإصلاحيين بحركة قديمة تتمثل في التصوف اليهودي "الحسيديم" التي انتعشت في أوروبا "منتصف القرن الثامن عشر على يد حاخامين من المتبحرين في الطرق الصوفية السرية الباطنية "القبالة". .". وفي هذا الوقت ومع التحولات الكبيرة في العلم والفكر في أوروبا بدأ بعض الشباب اليهودي يأخذ نصيبه من العلوم الحديثة والأفكار الجديدة، ليكونوا تيارًا جديدًا أطلق عليه "الهسكالاه" أي التفهم واليقظة والنهضة. ومن داخل الهسكالاه انبثقت حركة الإصلاحيين على يد "موسى مندلسون" وكان من بين آرائه التي أسهمت في دمج بعض اليهود بالمجتمع الأوروبي: يجب على اليهود الاندماج والخروج من الجيتو، فكن يهوديًا في بيتك وإنسانًا خارج بيتك، وعُدَّ نفسك مواطنًا في البلد الذي تعيش فيه، وتحدث بلغة ذلك البلد (1) وقد قام أتباعه ومريدوه بتغييرات كثيرة على الشرائع والطقوس القديمة، لكي يعطوا للدين اليهودي صورة إنسانية ووطنية تساعدهم في الاندماج بغيرهم (2).
ومع أن هذه الدعوة نجحت في دمج طوائف من اليهود باللحمة الغربية، إلا أن انتماءَها للفكر الباطني الصوفي جعل منهم فئة أقرب للإلحاد والزندقة
(1) انظر: الفكر الديني اليهودي، د. حسن ظاظا ص 264 - 265، وانظر: مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد ص 208 وما بعدها.
(2)
انظر: الفكر الديني اليهودي ص 266.
والانحلال والتفلت من شرائع الأديان وتلونها عند الحاجة، وكما يقول "دافيد باكان":"مهدت الساباتية في بداياتها، التي كان من المفروض أن تتحول إلى حركة إصلاح وليبرالية، ليهود الغيتو طريقًا أوليًا إلى التيارات الكبرى في الحضارة الغربية. فرض هذا الطريق على اليهود قطعًا سريعًا ودراماتيكيًا مع تراثهم القديم، ورفضًا ليهوديتهم. أما مع الهاسيدية فكان الانتقال أكثر بُطءًا وانتظامًا، مما سمح للتراث اليهودي بالتكامل مع الحضارة الغربية"(1)، وهكذا كان التيار اليهودي المنفتح على أوروبا مغرقًا في انحرافاته الذاتية قبل أن ينفتح على غيره؛ ليسهم بانحرافاته في توسيع دائرة الانحراف في الفكر الغربي الحديث وبنية مجتمعه، كما أن هذه التيارات المنفتحة ستكون مصدر التلقي لعلماء يهود يبرزون فيما بعد، تؤطر وجهة نظرهم للوجود والحياة والعلاقة مع العلم والفكر.
3 -
الحدث الثالث: الثورة الفرنسية (1789 م):
جاءت الثورة الفرنسية بعد حركة التنوير المشهورة التي أثرت في فرنسا، وفي الفكر الغربي عمومًا، وممن تأثر بحركة التنوير طائفة من اليهود مثل جماعة "الهكسالا"، واخترقهم خيار العلمنة مشاركين في ذلك الأوروبيين المتأثرين بالعلمنة. على أن العلمانية تُعدّ مدخلًا مهمًا لتغلغل اليهود في المجتمعات الأوروبية، وسيكون لهذا الجيل اليهودي العلماني دورٌ كبيرٌ في مستقبل اليهود ليس في أوروبا فقط، بل في العالم كله، مع أن هذا التيار العلماني سيفتح مشكلة شائكة داخل اليهود تمثل ذلك في انقسامهم إلى اتجاهين كبيرين (2)، وهما الاتجاه المتدين الرافض للعلمانية، والاتجاه العلماني الرافض لسيادة الدين والداعي إلى قيام نظام علماني لا ديني وهو الذي نجح في النهاية بعد أن ساند
(1) فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان ص 99، ترجمة د. طلال عتريسي، و"الساباتية" نسبة إلى "ساباتي زيفي" من مهاجري إسبانيا، له أثر في تيار الباطنية اليهودي، وله ادعاءات كثيرة، تنقل في أوروبا، وأعلن إسلامه في تركيا وعين مساعدًا للسلطان، وله أحداث أخرى، وقد انتشرت طائفته في أوروبا لاسيما في مهاجري الأندلس، انظر: المرجع نفسه، الفصل الرابع عشر ص 85، وأما "الهاسيدية" فأسسها "بال شم" أول الثامن عشر، ذات نزعة صوفية باطنية تمثل امتدادًا للحسيديم السابق ذكرهم، انظر: نفس المرجع، الفصل السادس عشر ص 96، وانظر: كتاب حسن ظاظا ص 264 مع التنبه إلى اختلاف الكتابين في ترجمة اسم المؤسس.
(2)
انظر: إشكالية الهوية في إسرائيل، د. رشاد الشامي ص 13.
الثورة الفرنسية. لقد قامت الثورة الفرنسية على شعارات "الحرية والمساواة والإخاء"، ونتج عنها إعلان وثيقة حقوق الإنسان، ونجحت في تحقيق أهدافها السياسية، وفي الوقت نفسه حققت الثورة لليهود مبتغاهم في التغلغل داخل المجتمع الغربي من خلال مبدأ المساواة وحقوق الإنسان.
لقد موّل يهود فرنسا الثورة بواسطة الاستعانة بأغنيائهم من خارج فرنسا (1)، وأسهم مجموعة من أعضاء "الماسونية" وجمعية "بناي برث" اليهوديتين في صياغة الدستور الجديد "ففي الاجتماع الذي عقد في (23) أغسطس سنة (1789 م) لوضع الدستور الجديد كان هناك 300 عضو ماسوني أغلبهم من جمعية بناي برث اليهودية"(2). وبهذا أصبح لليهود حق الوجود والنشاط الحر كغيرهم من الشعب الأصلي، ثم امتدت آثار هذه الثورة إلى بقية بلدان أوروبا، في مدّ وجزر، ما بين انفتاح على اليهود وفتح المجال لهم وما بين فترات تضييق، كالذي حدث في ألمانيا بداية القرن العشرين، إلا أنه في الجملة قد أصبح لليهود شأن كبير في الغرب بكامله، وبمقارنة أحوالهم من بدايات تشردهم من الأندلس بحالهم اليوم، وهم يمثلون قوّة فاعلة في العالم، ولهم دولة معترف بها من قبل الأمم المتحدة، ندرك مدى النجاح الكبير الذي حققه اليهود لأنفسهم في العالم.
ولا شك أن طائفة كهذه صنعت لنفسها وجودًا عالميًا، لابد أن يكون لها مشاركة في مسارات أخرى كالفكر والعلم والأدب والفن وغير ذلك، ومن المعلوم بأن المجموعات المتدينة فيهم لم تصنع هذا الوجود الفعلي القوي لليهود بقدر ما صنعته طوائفهم العلمانية، وبمشاركة جمعياتهم العالمية المشهورة كالماسونية وبناي برث والصهيونية والروتاري وغيرها. فإن بحثنا عن نقطة الانعطاف الحقيقية وجدناها "الثورة الفرنسية" التي كانت "حدثًا ضخمًا في حياة أوروبا دون شك، لا للأسباب التي يدرسونها للأولاد في المدارس، ولكن لأسباب أخرى أخطر وأهم. . فقد أطلقت يد اليهود لتحقيق مخططاتهم الشريرة بصورة لم تكن متاحة لهم من قبل في عهد الإقطاع. . فقد ولد من جراء الثورة
(1) انظر: خطر اليهودية العالمية على الإِسلام والمسيحية، عبد الله التل ص 189 لاسيما الأسرة اليهودية الثرية "روتشيلد"، انظر: اليهود وراء كل جريمة، وليم كار، ص 85.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 153.