الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذاتها ورسم صورة العلاقة بالعلوم الحديثة، فالدولة قد ربطت إصلاحاتها الجديدة بإصلاح التعليم، فهي ترى أن سبب ضعف الدولة راجع إلى ضعف المؤسسة العلمية، وأن قوتها ستكون عبر التركيز على نوع معين من التعليم هو المعروف في أوروبا الذي تسبب بقوتها، وفي الوقت نفسه سيتولى إدارة هذا "العلم" طلبًا ونشرًا وبناءً من هم أصلًا من أعداء الأمة أو أصحاب ميول تغريبية، فالنتائج المتوقعة لا تخفى على المتأمل.
وكون هذه التجربة وقعت باللغة التركية؛ فإن ذلك أبعدها نسبيًا -ولا سيّما في التفاصيل- عن الجزء العربي من العالم الإِسلامي، ولذا كانت التجربة المصرية أقرب في التأثير على هذا الجزء من العالم الإِسلامي؛ لأنها كانت غالبًا باللغة العربية، ولكن مجمل الصورة أثرت كثيرًا على مستقبل العالم الإِسلامي السياسي والعلمي؛ لارتباط أغلب بلاد المسلمين بالدولة العثمانية.
وسيظهر تيار سياسي وفكري خطير في مقر السلطنة، وسيؤثر في الدولة العثمانية وفي البلاد التي ظهر فيها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهذا التيار هو التيار الماسوني الذي نجح تحت الضغط الغربي من فتح محافله في مقر السلطنة وفي الشام ومصر، وقد كان لهذا التيار شأنه في عهد الإصلاحات المذكورة فترة محمود الثاني وابنه عبد المجيد، وظهر على السطح زمن السلطان عبد العزيز.
3 - السلطان عبد العزيز:
سبق أن رأينا نجاح أوروبا في التدخل وفرض مطالبها ومن ذلك دعوى الإصلاح بالصورة التي تريدها، وقد كان لها منافذ خطيرة أشهرها اليهود والنصارى الموجودون في الدولة، ولاسيّما الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية، فدخل الغرب من خلالهم، كما أن اليهود الذين هربوا من الأندلس في أثناء سيطرة النصارى عليها وسلبها من المسلمين، قد أقام أكثرهم في منطقة سالونيك، وهناك تكونت جمعيات يهودية وأخطرها الماسونية، وبعض من أسلم منهم بقي مرتبطًا في الباطن بهذا الدين، ومنهم الوزير المشهور مدحت باشا (1)
(1) انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 437 ص 444.
الذي أصبح الصدر الأعظم زمن السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني الذي تولى السلطنة بعد موت أخيه.
استمر الوضع السابق مع السلطان عبد العزيز، وفي ميدان التعليم أسست مدرسة ثانوية (1285 هـ - 1868 م) هي "غلطة سراي" جميع موادها باللغة الفرنسية مع اللغة التركية، الغاية منها:"تخريج طائفة من الشباب القادر على حمل عبء الوظائف العامة"، وكان طلابها من مختلف الديانات وإن كان أكثرهم من المسلمين (1) ويُهيئ هؤلاء لقيادة الدولة.
وقد وقعت في زمنه حادثة مشهورة في دار الفنون -الجامعة- فقد أقيم حفل وألقى فيه جمال الدين الأفغاني كلمة أثارت اللغط حوله وحول دار الفنون، وحول هذه الجامعة وفي سياق الحديث عن قصة الأفغاني يقول أحد الماركسيين:"وقد كانت في تركيا مدارس عليا تدرس فيها العلوم والتكنولوجيا، ولكن هذه المدارس كالعادة كانت معاهد فنية بحتة تفصل العلم عن الفكر والقيم الاجتماعية؛ ولذا فقد كان ميلاد هذه الجامعة غصة في حلوق المحافظين الأتراك الذين كانت تعبر عنهم "هيئة كبار العلماء" بقيادة شيخ الإِسلام حسن أفندي فهمي"، فصورها على أنها النموذج الأكاديمي الجديد الذي يحذو حذو النماذج الغربية، وقد أُغلقت الجامعة بعد هذه الحادثة (2).
وفي ميدان التيارات الفكرية والمذاهب السياسية والعمل الحربي؛ ظهرت "تركيا الفتاة"، ولم تكن بعيدة عن الجمعيات الماسونية السالفة، وتزعمت بقوة دعوة التغريب "تتألف من مجموعة صغيرة من الشباب جلهم من رجال الدولة الذين درسوا اللغات الأوروبية"(3)، وقد كان لهذه الجمعية أثر كبير في مستقبل الدولة العثمانية والعالم الإِسلامي فيما بعد، وقبل مقتل الخليفة بعام أعلنت الدولة سنة (1875 م) إفلاسها (4)، وبرزت مشكلة الديون الكبيرة، وأسهم ذلك مع
(1) انظر: المرجع السابق ص 435 - 436.
(2)
انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل. .)، د. ويس عوض 1/ 54.
(3)
نشوء الشرق الأدنى الحديث. .، مالكولم ص 134.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 136، وقد ذكر عنه "أرسلان" أنه كان مسرفًا، وذكر أنه أول سلطان زار أوروبا، وذكر من الغرائب أنه لم يحج أحد من السلاطين، وذكر لهم تبريرات. انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 298.
أسباب أخرى في توفير قاعدة أساسية لتدخل أوروبا وإرغام الدولة على اعتماد خطة تحت إشراف أوروبي، فإذا كانت هذه حال الدولة الأم في العالم الإِسلامي فكيف هي الحال بغيرها؟!
خُتمت مرحلة السلاطين الشباب ببروز تيار التغريب، وقد كان سنده الخلفي الداخلي من اليهود داخل السلطنة وعلى مقربة من العاصمة، وكان أهم ممثل لتيار التغريب هو "تركيا الفتاة"، وأهم سند خلفي يهودي منظم آنذاك هم "الماسون"، وقد نجح هؤلاء -في ظروف غامضة- في إقصاء السلطان عبد العزيز ثم قتله، والمجيء بمراد الخامس ابن عبد المجيد الأكبر وهو ممن انخرط في الماسونية، وكان بسببهم قد تشبع بالأفكار العلمانية والفلسفة الغربية، ولكن حكمه لم يطل؛ فبعد ثلاثة أشهر أصيب بمرض عقلي فأقيل (1)، لندخل في عهد ولاية عبد الحميد الطويلة والخطيرة في الوقت نفسه.
وعند الرجوع إلى هذه المرحلة التي تسمى أحيانًا فترة الإصلاح وعهد التنظيمات؛ نجد نتيجة محزنة للغاية، كان أخطرها: تدخل الغرب، وقوة الأقليات وسعيها للانتقام، وتمكن تياراتها من التغلغل والتأثير، وبروز تيار التغريب بقوة، وقد وقع العلم والتعليم فريسة لهذه المستجدات، فضُرب التعليم الديني، وانهمكت الدولة في طلب العلوم العصرية، مع أن أغلب ذلك كان مزاعم لا حقيقة لها؛ حيث لم يظهر هناك ما يثبت حصول الدولة على معارف نافعة تَبِعها تقدم دنيوي كما حصل في تجربة موازية لتجربتنا وهي تجربة اليابان مثلًا أو تجربة الروس، وإنما الذي حدث هو تقليد أعمى في المظاهر والفنون والآداب والأفكار، وعن هذه الإصلاحات يتحدث رجل قريب من تلك المرحلة وخبير بها -الشيخ محمَّد رشيد رضا- فيقول: "وأما رجال السياسة والإدارة فكانوا مفتونين بتقليد الإفرنج في معيشتهم وحريتهم وظواهر نظمهم، وإنما كانوا يقلدونهم فيما يسهل فيه التقليد كتقليد الطفل لمن يعظم في عينه من الرجال، وتقليد الأصاغر لمن فوقهم من الأكابر، كالأزياء والعادات وشكل المدارس والدواوين، وقد ترجموا أكثر القوانين فلم يقيموا منها شيئًا، وأما العلوم والفنون
(1) حول (مراد) انظر: الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 439 - 440، وانظر كلام السلطان عبد الحميد عن أخيه مراد في مذكراته: ص 62.
والصناعات وطرق الثروة والنظم المالية فلم يتقنوا منها شيئًا" (1). لقد طغى النموذج الغربي على مفهوم الإصلاح والتحديث؛ مما جعله يتحول إلى عملية تغريب، وأوصلهم في النهاية إلى استبدال الإنكشارية بنظام عسكري جديد على نمط الجيوش الأوروبية، وأبعدت الشريعة رويدًا رويدًا وطبق مكانها القوانين، "كما أن نظام التعليم الحديث حورب ثم ألغي نظام المعارف الإِسلامي" (2)، وهي نهايات أليمة.
لم تكن هذه التجربة خاصة بعاصمة الدولة العثمانية؛ بل هي كذلك ممتدة بآثارها إلى البلاد التي تحت ولايتها المباشرة وأشهرها بلاد الشام "فلسطين والأردن وسوريا ولبنان" وكذا العراق، فضلًا عن أن هذه البلاد لم يُعرف عنها تجارب من قبل ولاتها، وإنما جاءت صلتها بالعلوم العصرية من خلال المدارس الأهلية ولاسيّما مدارس الإرساليات التنصيرية، فلم تكن تجربة قمنا نحن بها وإنما غيرنا قام بها، لذا سنؤجلها للفصل القادم بإذن الله، أما هنا فيكفي التذكير بأن تجربة الشام لم تخرج عن تجربة الدولة العثمانية.
(1) تاريخ الأستاذ الإمام 1/ 415 عن كتاب: الانحرافات العقدية والعلمية. . . . ص 883 - 884.
(2)
انظر: الدولة العثمانية. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 44.