الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين هؤلاء العلماء وبين المختصين في تدريس العلوم الحديثة، علاقة تفرز موقفًا موحدًا ينهض بالأمة، بل كان مدرس الجغرافيا والفلك يُدرّس النظرية الجديدة في الفلك ويقوم بنفسه بعمل التأويل والتقريب بين النصوص الشرعية وبين ما يُدرّسه دون أن تظهر صلة بأعلام التيار التوفيقي. ولم أستطع من خلال ما وصلت إليه من مراجع إيجاد صلة عملية حقيقية بينهم، حتى النقاش العلمي بين المواقف لم أجد شيئًا يثبت مثل ذلك رغم أهميته، إلا ما يدور في صحافة ذاك العصر، ولكنه لم يكن حوارًا بين المتخصصين في العلوم الحديثة وبين علماء الشريعة. وإن لم تظهر العلاقة بين علماء الشريعة والباحثين في العلوم العصرية؛ فقد كانت العلاقة بين هؤلاء العلماء والمجتمع قوية، ولاسيّما النخبة المثقفة التي تأثرت بالصحافة والتعليم والمراكز الثقافية وبالاطلاع الفردي فضلًا عما يضغط به أتباع الطوائف الغربية المنتشرة في مدن العالم الإِسلامي آنذاك، وبسبب ذلك يكون التأويل عملًا يراعي ثقافة المجتمع وحدود معرفته ولكنه لا يراعي المعارف العلمية وعلماءها. فكان عملهم التأويلي أشبه بالمُسكّن الذي أوقف إلى حدٍ ما زحف التغريب والتفلّت الديني، ولكنه لم يكن من الجهة العلمية مقنعًا لمن عندهم اطلاع على المعارف الحديثة. وقد كان من آثار ذلك أن ذهب أثر المُسكّن مع اكتشاف معارضات جديدة نقضت القديمة، وفي الوقت نفسه وجد أصحاب المعارف الحديثة أن عملية التأويل هي أشبه بالاحتيال على النص الشرعي أو الأصل الديني، فلماذا لا يُوسع هذا الاحتيال؟ ومن هنا حوّل أتباع هذا التيار هذا الدين المؤول إلى دين مبدل، حيث انفلت أتباع التيار إلى دعوات علمانية صريحة بعيدة عن الدين حتى بصورته المؤولة، وقد كانت هذه من أخطر ثغرات هذا المنهج العصراني.
ثالثًا: النموذج الهندي العصراني:
لقد رأينا في الفصل الثالث أن تجربة المسلمين في الهند كانت تجربة مهمة حول العلاقة بالحضارة الغربية وما ارتبط بها من علوم حديثة ذات أثر في تقدمهم وقوتهم، ومن أسباب أهميتها أنها سبقت تاريخيًا بلاد المسلمين الأخرى لاسيما على مستوى المجتمع وبعيدًا عن السلطة والحكومات.
كان من بين أشهر ما ظهر هناك مدرسة "سيد أحمد خان"، تلك المدرسة
التي أُعجب شيخها بالحضارة الغربية، وتصادق مع الإِنجليز، وتحول إلى داعية لتلك الحضارة ومبشرًا بها، دون أن يُظهر قدرته على الاختيار المستقل والنقد. فقد أخذ بالحل الأسهل وهو قبولها بحذافيرها مع الابتداء بالجانب الفكري والأدبي فيها، الذي هو الأكثر إشكالًا حتى في بيئتها الغربية. واختيار الحلّ الأسهل ليس بطريق الأقوياء الواثقين من هويتهم، والقادرين على التفاعل الإيجابي -لا السلبي- مع غيرهم، وهو خطأ التيار "الديوبندي" نفسه في اختياره للحل الأسهل القائم على الرفض العام للحضارة الغربية. فهو ليس بطريق الأقوياء بل أقرب إلى طريق المستهترين بهويتهم أو الخائفين، وما كان هذا الأصل في الأمة الإِسلامية في أثناء مواجهتها للتحديات.
بدأت معالم الضعف تتكون في مدرسة "سيد أحمد خان" لتنتشر بعده إلى أغلب بلاد المسلمين، وسنرى فيما بعد أن الشيخ محمَّد عبده يُشبّه في مواقفه -مع كونه أعقل- بسيد خان الهندي، مما يدل على أن طريقته تعممت على مستوى العالم الإِسلامي، فهي وإن جرّأت أتباعها على اقتحام الحضارة الغربية؛ فإنها أعطتهم السلاح الضعيف، منحتهم ما يساعدهم على الدخول دون أن تعطيهم ما يحميهم في الوقت نفسه من الآثار الجانبية لهذا الدخول.
الطبيعة والتأويل:
يُعد "سيد أحمد خان" بين أتباعه من علماء الشريعة، ولذا كان موقفه يمثل عندهم موقف عالم الشريعة المجتهد، ويختلف بهذا عن التغريبي العلماني الذي لا صلة له بعلوم الشريعة، فيُعدّ موقف "سيد أحمد خان" موقفًا دينيًا في المقام الأول؛ ولذا يُحسب على الاتجاهات الدينية.
عاش الشيخ في بيئة تغلي بالصراع بين العلم الموروث والعلم الوافد، وكان العلم الوافد قد اشتهر عبر المدارس التبشيرية والمعاهد الإِنجليزية والشخصيات الفكرية الغربية الموجودة في الهند، في فترة كانت طبيعيات "نيوتن" وتطورية ومادية "داروين" هي البارزة في الفكر الإِنجليزي وانتشرت في الأجواء الهندية لاسيما مع المتحمسين للحضارة الغربية عبر ممثليها الإِنجليز.
لقد كانت الحضارة الغربية بحسب صورتها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بما في ذلك العلوم الحديثة هي قِبلة "سيد أحمد خان"، وكانت ملامسته لها
ملامسة المثقف، يعرف الأفكار الأساسية فيها دون التفاصيل، وقد انطبع عنده عنها انطباعٌ حسن فتقدمت على غيرها لدرجة أنها تقدمت على الدين ذاته.
الملفت في النموذج العصراني الهندي المنبهر بالحضارة الغربية هو الحضور الطاغي للحضارة المادية وضعف عنايته بالدين لدرجة سهولة إهماله وتقديم الفكر الغربي عليه، وكأن الدين هو العائق عن التقدم أو أن الانطلاق للتقدم لا يكون منه وإنما من غيره. قد لا يصرحون بذلك، ولكنه حال موقفهم للمتأمل فيه، والدليل على ذلك أن الحضارة الغربية بما في ذلك ما عرفته من علوم جديدة قد أصبحت مقياسًا لما يُقبل من الدين وما يردّ، إما بالتحايل عن طريق التأويل أو برده مباشرة دون البحث عن مخارج تأويلية.
وهو يختلف عن موقف الواثق بدينه، المؤمن بأنه من عند الله سبحانه، وأنه لا يأتيه الباطل، فإنه يجعل دينه مقياسًا لكل شيء، ولا يستعجل في عمليات التأويل والتوفيق إلا بعد تأكده بأنه قد فهم أصله الديني حق الفهم وفهم في المقابل حدود المعارض له في الظاهر، عند ذلك تُدرس الحلول المقترحة لمعالجة التعارض المتوهم. أما ما نجده عندهم من امتهان الدين بهذه الصورة بحيث كل ما وجدناه في الغرب يتعارض مع الدين؛ نُعمل فيه مقص التأويل، فما هذه بحال الأمة العاقلة المعتزة بدينها وهويتها.
لقد قفزت مفاهيم مرتبطة بالأفكار والعلوم الجديدة إلى منهجية "خان"، وأهمها مفهوم "الطبيعة" السائد في الفكر الفلسفي والعلمي الغربي العلماني والمادي، وأصبحت هذه الطبيعة هي نظارته للأشياء بما في ذلك نصوص الوحي، وكان التأويل هو الأداة المستعملة لتطويع النصوص لتلك الطبيعة، ويتوسع التأويل مع القوم إلى درجات الغلو بما يُشبه شطحات المتصوفة وتأويلات الباطنية، وربما كان لطبيعة انتشار تلك المناهج في بلاد الشرق الإِسلامي أثرها في اتساع شطحات القوم.
يقول "أبو الحسن الندوي" عن "أحمد خان" بأنه تزعم اتجاهًا "على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإِسلام والقرآن تفسيرًا يطابقان به ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابقان هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة، ولا تقرره
علوم الطبيعة في بادئ النظر، من الحقائق الغيبية، وأمور ما بعد الطبيعة" (1)؛ أي: أن الدعوة لتقليد الغرب مكونة من مكونات مشروعة دون مراعاة لأبسط شروط الهوية الإِسلامية، حتى ولو كان الأمر يوصل لإعادة النظر في القرآن والإِسلام، يريد كما يقال قصقصته ليتلاءم مع تلك الحضارة. والأخطر من ذلك أثر هذه الحضارة عليه في الاستهانة بغير المحسوس من أمور الغيب وإعادة النظر فيها أيضًا بمقياس تلك الحضارة في صورتها المعهودة في القرن الثالث عشر / التاسع عشر الميلادي.
ولتحقيق هذا المشروع قام بتفسير القرآن الكريم، ولنا أن نتخيل مراده من التفسير وهو بهذه النفسية ويحمل هذه المنهجية -النفسية المنهارة أمام ثقافة هي تتشكل وتتغير وتتطور، والمنهجية التأويلية المستسهلة لحرمة كل نص يقابل تلك الحضارة، ولنا أن نتخيل حجم الأخطاء التي سيقع فيها وسيوقع من اتبعه فيها، لقد أراد لمشروعه أن ينطلق من القرآن من خلال تفسيره تفسيرًا جديدًا يستجيب لتلك الحضارة المطلوبة، أراد "من ورائه أن يثبت أن حقائق الإِسلام وتعاليمه لا تتعارض مطلقًا مع قوانين الطبيعة؛ لأن القرآن "كلمة الله" وقوانين الطبيعة هي "فعل الله" ولا يتعارض كلامه مع فعله"(2). ولا شك أنه سبحانه العليم الحكيم لا يقع التعارض بين كلامه وفعله سبحانه، ولكن الشر كما يقال يكمن أحيانًا في التفاصيل، فإن هذه القاعدة خلفها ما خلفها، مما يؤثر في استقرار القاعدة، ويأتي الإشكال من جهة رأيه في كلام الله سبحانه وكذا تصوره حول قوانين الطبيعة:
أما رأيه في كلام الله سبحانه فيقول "أحمد أمين" عن "خان": "وأخذ يفسر القرآن، ويدعو إلى أن القرآن -إذا فهم فهمًا صحيحًا- اتفق مع العقل، وأن النظر الصحيح فيه يوجب الاعتماد على روحه أكثر من الاعتماد على حرفيته، وأنه يجب أن يفسر على ضوء العقل والضمير. وتطرّف أكثر من ذلك، فقال: إن الوحي كان بالمعنى دون اللفظ"(3). فإن مثل هذا الاعتقاد -المتطرف- قد يشجع
(1) في كتابه الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية ص 69.
(2)
مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد ص 123، وانظر: الفكر الإِسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمَّد البهي ص 37.
(3)
زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 130 - 131.
صاحبه على استسهال تأويل الآيات بحجة أن اللفظ من كلام جبريل عليه السلام أو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. مع أنه حتى على افتراض صحة هذا التطرف جدلًا بأنه من وضع الملك أو النبي فإنهم أعلم بمراد الله سبحانه ولا يتصور منهما وضع لفظ يخالف المعنى؛ لأنه حتى على هذا التصور لا يجوز التساهل في تأويل الآيات. وما يعنينا أن سلامة التصور حول الوحي له أثره في التعامل مع كتاب الله سبحانه، وأن دخول هذه البدعة حول القرآن تؤثر في تصور أصحابها عن حقائق القرآن.
وأما فهمه عن الطبيعة فقد فهمها بحسب التصور العلماني اللاديني السائد في الفكر الفلسفي والعلمي في أوروبا القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، عصر انتفاش المذاهب المادية والوضعية العلمانية، ومثل هؤلاء كان تصورهم للطبيعة تصورًا مغايرًا لأهل الدين، فقد تألهت عند بعضهم ووُظفت في إعطاء الحجج ضد الدين والغيب، فأخذها بهذه الروح مع غياب الوعي النقدي بمثل هذا المجال، فأخذها بنفس "المعنى الذي استعمله علماء أوروبا في القرن التاسع عشر للميلاد، نظام كوني مغلق يخضع لقوانين عمياء ليس فيها أيّ مجال للخرق أو الاستثناء"(1)، وليس في القرآن -بحسب كلامه- ما يخالف هذه الطبيعة المتصورة المنقولة عن أوروبا ومفكريها في القرن التاسع عشر (2).
كان افتتان أحمد خان بالحضارة الغربية كبيرًا، ودعوته لأخذ علومها وفكرها لا يحدّه حدّ، ولكن آثار انزلاقه فيما ينفع ويضرّ دون تفريق، جعله ينظر أيضًا للوجود والدين والغيب والكون والحياة من خلال المنظور الحضاري الغربي العلماني، أصبحت الطبيعة مثلًا هي جوهر الوجود، ولأجلها قام بعملية تأويل واسعة لا تختلف كثيرًا عن مواقف الباطنية القديمة.
ومن باب التمثيل على تضخم مفهوم الطبيعة عنده واتساع دائرة التأويل معه، نجده ينكر "المعجزات" لما يجده فيها من تغيير لقوانين الطبيعة، فيجعل بعضها رؤيا منام للأنبياء لتتماشى مع قوانين الطبيعة مثل قصة إبراهيم عليه السلام مع
(1) مفهوم تجديد الدين، بسطامي ص 124، وانظر حول مفهوم الطبيعة: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 191 وما بعدها، ترجمة نهاد رضا.
(2)
انظر كلام أبو الحسن الندوي في الشاهد السابق.