الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتبرت "أن إلحاد فرويد لم يكن إلا إلحادًا زائفًا؛ لأنه تركه بعد ذلك متشبثًا باليهودية الصهيونية، وفيًّا لها، سائرًا في طريقها. . . ."، ويذكر الميداني عن أحد الكتاب الراصدين لمسيرة فرويد تأكيده بأنه "ليس في حياة فرويد ما يومئ بأنه قد تخلى يومًا عن يهوديته، بل إن فيها ما يؤكد تمسكه بها، واستغراقه فيها إلى درجة غير مألوفة"(1)، ورغم وجاهة هذا القول إلا أنني لا أميل إليه؛ وذلك أن صلة فرويد كانت بتيارات علمانية يهودية لا يعنيها كثيرًا الدين اليهودي الموروث بقدر ما يهمها الشعب اليهودي، ووضع هوية جديدة له وفق تطور العصر.
ومنهم من يرى بأن فرويد كان حريصًا على يهوديته في مستوى الهوية، أما الدين اليهودي الموروث وعقائده وطقوسه المتوارثة، فقد كان ضدّه ومبغضًا له وغير مؤمن به، وكما يقول عن نفسه بأنه:"يهودي غير مؤمن"(2)، وهذا ما توصل إليه أحد الباحثين في الفكر الفرويدي حيث يقول:"كان لفرويد، كما سنرى فيما بعد، ميلٌ قويٌّ للهرطقة، لكنه لم يتخل عن يهوديته. أما مشاحناته مع الدين فلم تتناول إلا الأشكال الأرثوذكسية القديمة لليهودية. لقد ظن أن بإمكانه الاحتفاظ بهويته اليهودية رغم مهاجمته للأرثوذكسية"(3)، ولذا كان موقفه:"يجب أن نرفض العقيدة، ولكننا لا نستطيع أن نرفض الانتماء اليهودي"(4). وهذا القول هو الأقرب للقبول؛ لأننا نجد إنسانًا مستهترًا بالأديان ولكنه في الوقت نفسه منخرط في النشاط اليهودي العلماني القائم في أوروبا. ورجل بهذه الحال لابد -شعر أو لم يشعر- أن يوجه على الأقل جزءًا من نشاطه العلمي في خدمة مبدئه ونصرة الهوية التي ينتمي إليها، وقد كانت الذراع في ذلك هي جماعة "التحليل النفسي" اليهودية.
د- جماعة التحليل النفسي: جماعة علمية أم جماعة يهودية
!:
عاش فرويد شبابه فترة اشتهار النظرية التطورية الدارونية كما سبق بيانه. وعندما قرر أن يسلك باب علم النفس، وأن يجعله ميدانه بدأ يفكر في تقديم
(1) صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 218.
(2)
انظر: الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي ص 156.
(3)
فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 100.
(4)
فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 271.
نظرية علمية في تخصصه على منوال نظريات العلوم الأخرى، وعبر محاولات ودراسات توصل إلى إخراج نظريته في ميدان علم النفس كما فعل كوبر من قبل في ميدان الفلك أو نيوتن في الطبيعة أو داروين في الأحياء وغيرهم، وهي تعد إلى اليوم من أشهر النظريات في علم النفس، ورغم ما حدث لها من تعديلات معه وبعده فهىِ ما زالت ركنًا مهمًا من علم النفس المعاصر وأصبحت أصلًا من أصول التحليل النفسي.
وقد كان من أهم النتائج التي توصل إليها في نظريته بعد تأمله في الحالات المرضية المختلفة، هو دور اللاشعور في حياة الإنسان، وتأكيده أن هناك جزءًا من الإنسان هو "اللاشعور" وأنه يقوم بتأثيرات أقوى من تأثيرات الشعور، ومما أوصلته إليه تأملاته أيضًا بأن الطاقة الجنسية هي الطاقة العظمى المسيطرة على كل الطاقات والموجهة لها.
يلعب الجنس في نظريته دورًا أساسيًا، بل نظريته كلها تقوم على تصوره للجنس، فالطفل يولد بطاقة جنسية تحرك جميع نشاطاته من رضاع وتبول وغير ذلك. في أثناء نمو الطفل يشعر تلقاء أمه بشهوة وكذا البنت تلقاء أبيها، ولكن الولد يجد أباه عائقًا، فيكره أباه الذي يحبه في الوقت نفسه، فيصطرعان في نفسه، فيكبت الكره في اللاشعور، واللاشعور هو موطن دفن كل الرغبات المكبوتة، ولكنها هي الموجهة لسلوك الإنسان دون وعي. ومع النمو يتقمص الابن شخصية الأب فينهى ويأمر كما يفعل به والده، فينشأ الضمير، ومنه القيم الأخلاقية، وينشأ الدين، وبقية القيم العليا. وتتركب النفس في نظريته من ثلاث طبقات: الذات السفلى الشهوانية، مخزن المكبوتات، والموجهة للسلوك دون وعي، والذات وهي الوسطى مركز الوعي وأفعال الإنسان الواعية، والذات العليا مركز الكوابت الصادرة عن الدين والأخلاق والقيم وهي لاشعورية أيضًا. . . . إلخ (1).
(1) اكتفيت بالعرض الموجود في الكتب الفكرية، تلك التي خرجت بالنظرية من صياغتها العلمية إلى مجال الفكر والثقافة، انظر مثلًا: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 108 - 109 فهو أساس العرض، وانظر: تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون ص 337 - 343، مع المراجع السابقة لهذا المبحث وما سبق في الفصل الأول.
وقد حدث لهذه النظرية تحديثات وتحسينات على يد صاحبها أو أتباعه أو المنشقين عنه، كما أن هذه النظرية قد طبقت في مجالات شتى -خارج المعالجة للمرضى- فدرست من خلالها الأديان والتاريخ والحضارات وطبقت في ميادين الاجتماع والسياسة والحروب وغيرها، بل طبقت في الآداب والفنون كما سبق إيضاح شيء من ذلك في الفصل الأول.
ولكن أفكار فرويد لم تقبل في البداية بسهولة لاسيّما ومصدرها يهودي في بيئة نصرانية، مما دفع فرويد إلى تكوين جماعة أُعجبت بنظريته وأفكاره، أغلبهم كانوا من اليهود هي جماعة التحليل النفسي، لتقوم بالمحافظة على فكره ونشر نظرياته في المجتمع.
ظهرت هذه الجماعة عام (1902 م) بعد اقتراح قدمه أحدهم إلى فرويد كانت أولًا تسمى "جمعية الأربعاء النفسية"، وفي عام (1908 م) أُعيد تنظيمها تحت مسمى "جمعية فيينا للتحليل النفسي"(1)، وأبرز من فيها كانوا من اليهود باستثناء "إرنست جونز" المؤرخ للجماعة ولحياة فرويد و"كارل يونغ" عالم النفس والفيلسوف المشهور، وقد "كتب جونز معلقًا على ذلك بأنهم جميعًا كانوا يهودًا يحسون بيهوديتهم بشكل حاد، وكان إيتنجتون مثلًا من أشدّ هؤلاء الحواريين إحساسًا بيهوديته. . . ."(2). وقد كان مجمل نشاط الجماعة يدور حول إنجاز فرويد "نظريته والتحليل النفسي"، مما جعل البعض يرى في أن التحليل النفسي "حركة فكرية تاريخية شبه دينية تقوم على النظرية السيكلوجية حاول به التنظير لأخلاق دنيوية علمانية متحررة هي في جوهرها الدين اليهودي"(3)، وقريبًا من هذا قول أحد أقطاب هذا المجال "أريك فروم" في كتابه "مهمة فرويد -تحليل لشخصيته وتأثيره":"لقد حاولت أن أبين أن التحليل النفسي قد تطور كحركة شبه دينية، قامت على نظرية نفسية"(4)، ومشبهًا نضال تلك المجموعة بزعماء حركات شبه دينية، لها مصطلحاتها واجتماعاتها السرية، تهاجم وتهادن، لا يملكون سمة
(1) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 134 - 135.
(2)
النبي موسى والتوحيد، فرويد ص 7 من مقدمة المترجم الحفني.
(3)
المرجع السابق ص 15.
(4)
مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره، إريك فروم ص 108 ترجمة طلال عتريسي.