الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فليس العيب فيه فقط، بل العيب فينا عندما انسقنا إلى كل تلك المشكلات حتى كبر حالها داخل الأمة، وظهر خطرها وأصبح من الواجب النظر فيها والانشغال بها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المثال الثاني: داروين ونظرية التطور:
رأينا في المثال السابق ما أثارته المجلة وتردد في أعدادها لسنتَي (1876 - 1877 م)، فبعد أن عرّفت بعَلَم أوروبي مشهور "نيوتن" تكلمت عن نظرية الفلك الجديدة، وما نتج عن ذلك من مشاكل حول العلم الحديث، وسنرى هنا مثالًا آخر لطريقة تعريفها بشخصية أخرى، ثم نظرية تبحث عن كيفية ظهور الحياة والإنسان، التي عُرفت بنظرية التطور الدارونية، وقد كان ذلك سنة الاحتلال الإِنجليزي لمصر، وما مثّله ذلك من دعم معنوي ومادي للنصارى، نجد ذلك في أعداد السنة السابعة (1882 م)، وهذه المسألة كغيرها مما أثارته المجلة لم يكن مفيدًا في سياق التحديث والنهضة، فقد انشغلت الأمة لما يقرب من نصف قرن بهذه النظرية ومسائلها، وكثرت المقالات والتآليف حولها من جميع الأطراف، من النصارى فيما بينهم وكذا من المسلمين، وتحولت المسألة من بحث في نطاق العلوم الطبيعية إلى خلاف ديني حاد، وكما افتتح الاحتلال الإِنجليزي مرحلة خطيرة من عمق العالم الإِسلامي، فإن المجلة في ظل هذه الأجواء فتحت مشكلة تحت ستار العلم العصري، وكما أسلفنا كان يمكن تجاهلها أو تأجيلها.
نجد في افتتاحية السنة السابعة ما يذكرنا بالافتتاحية الأولى، وفيها أن حجم الجريدة أصبح أكبر، وأنهم اتفقوا مع جمعية من كبار الجمعيات الأوروبية أن تمدهم بالصور والأشكال اللازمة للإيضاح، والتذكير بأنها "لا ترغب إلا في نشر المعارف، والحث على إحياء الصناعة والزراعة والإسراع إلى ما به ارتقاء الأمة العربية وصلاح حال الهيئة الاجتماعية"(1)، ثم تفتتح بمقال مطول عن سيرة "شارلس دارون" ومدحته المجلة، وقارنته في كثير من المسائل بـ"نيوتن"، ومن ذلك: "ولم يقم في الناس غير نيوتن رجل كدارون استلم زمام الأذهان وحوّل إليه الأبصار وقال البشر للبحث في كل مبحث شاءه. . . . ولم يمتلك رجل الآراء
(1) انظر: مجلة المقتطف 7/ 1.
بسطوة علمه كما امتلكها ولا شاهد شيوع مذهبه واستعظام آرائه كما شاهد، فإن الكتب التي ألفت له وعليه في كل أنحاء العالم تعدُّ بالمئات والألوف، وعدد الذين انحازوا إلى مذهبه في الارتقاء والتسلسل يكاد يعم العلماء. . ولا عتاب ولا ملامة إن أطنب أهل العلم بالثناء عليه فإنه أهل لأطيب الثناء" (1)، ثم أعقب هذا الكلام بما سيكون مفتاحًا لمشكلة طويلة، وهو الانتقال من حيز العلم الطبيعي إلى حيز الدين، وما يترتب على ذلك من إشكالات "نقول هذا ونحن على يقين أن قولنا لا يرضي بعض القراء لإنكارهم على دارون رأيهُ في تسلسل الإنسان من بعض أنواع القرود المنقرضة. فجوابنا على ذلك أننا لم نتعرض في هذه المقالة لانتقاد رأيه هذا، ولم نثن عليه هنا إلا لخدمتهِ العلم في كل ما قرّرهُ وحققه. . . ."، إلى أن قالوا: "وأما رأيه المشار إليه فلا ينكر أن كثيرين ينفرون منه بدعوى مخالفته للدين، ولكن آخرين لا يرون فيه هذه المخالفة حال كونهم من مشاهير علماء اللاهوت والفلسفة" (2)، وذكر من هؤلاء قول واعظ كنيسة وستمنستر "وأن مبدأ الانتخاب ليس غريبًا مخالفًا للديانة المسيحية على الإطلاق"، وقول واعظ كنيسة القديس "بولس" ببلاد الإنكليز: "لما شاع كتاب دارون في أصل الأنواع وكتابهُ في تسلسل الإنسان زعم أهل الدين أنهما مضادان للدين قطعًا، ولكنهم لما درسوهما بالإمعان غيّروا زعمهم هذا تغييرًا عظيمًا"، ونقلوا قول فيلسوف لاهوتي أمريكي، ثم قالوا: "وقس على ذلك أقوالًا عديدة لو شئنا سردها لضاق بنا المقام. والخلاصة أن العلماء الطبيعيين يوافقون دارون في أمر النشوء والارتقاء بالإجمال، وإن كان بعضهم يخالفونه عند البسط والتفصيل، وأما غيرهم فمنهم من يوافقه ومنهم من يخالفه. وعلى كل وجهٍ فالثناء على أهل الفضل واجب، والإطراء برافعي العلم غير محظور" (3).
هكذا عرضوا الإشكالية المتوقعة من البداية وكأنها ضمن سيرة عالم تحرص المجلة عادة على التعريف بهم، فنظريتهُ إنما تعرض في أثناء عرض سيرته، مع معرفتهم أن الكثير ينفر منها، والسبب ما يراه الكثير من وجود
(1) المرجع السابق 7/ 5 - 6.
(2)
المرجع السابق 7/ 6.
(3)
مجلة المقتطف 7/ 6.
معارضة مع الدين، وإن كان سياق المقال يُظهر أن قصدهم بالدين هنا هو الدين النصراني، ولذا كانت استدلالاتهم من رجال الكنيسة حتى يردوا على مخالفيهم من بني جلدتهم أو يبثوا الشعور في نفوس القراء بوجود قبول ديني لهذا القول. ولكن هذه المشكلة الجديدة التي عرضتها المجلة وعرّفت المجتمع بها لا تبقى في حدود الطائفة النصرانية، ومن الواضح أنها ليست مشكلة علمية بحتة، وإلا لما وقع توهم التعارض مع الدين، أما وقد عُرِضَ أمرها وأن هناك من يرى فيها ما يعارض الدين فسيُفتح من جديد باب الإشكال عن العلاقة بين الدين والعلوم العصرية، والمجلة ستواصل بالتدريج عرض ما تريده، فبعد أن عرّفت بالنظرية المزعجة عبر التعريف بعالمها ستنتقل فيما بعد إلى عرض النظرية ذاتها، فكانت أول مقالات العدد الثاني من السنة السابعة وتصدرت تكملته أيضًا أول العدد الثالث من السنة نفسها بعنوان "المذهب الداروني"، أقف الآن مع أبرز قسمات هذا العرض، ولعله الأول من نوعه، وهو يبرز المشكلات المتوقعة التي ستكون مدار النقاشات فيما بعد لسنين؛ لهذا أذكره بطوله:
1 -
بدأت المجلة مقالها بالتقديم المعتاد، أن هذا المقال جاء إنجازًا لوعد سابق وهدفه "ليحيط القارئ علمًا بخلاصة أشهر مذاهب هذه الأيام وأعجب مبتكرات هذا الزمان"(1).
2 -
ذكّرت بمنهجها المعتاد: "فذكرنا الأمور كما ذكرها أهلها، ولم نتعرّض لإقرارها ولا لنقضها إلا بما يرد معنا في سياق الكلام مما أقرها العلم أو نقضها به"(2).
3 -
ذكرت أن المذهب جديد "منذ نيف وعشرين سنة" وأن صاحبه "العلّامة دارون" ومضمونه "أن كل ما على الأرض من نبات وحيوان، سواءٌ كان عائشًا أو منقرضًا، قد تسلسل بعضهُ من بعض بحيث لم يكن للحيوانات كلها إلا أصل واحد أو بضعة أصول، وللنباتات كلها كذلك في بادئ خلقها"، وذكَرَت أن الجمهور في الغرب على خلافه "بل كانوا يستخفون به كما يستخف به كثيرون اليوم"(3).
(1) مجلة المقتطف 7/ 65.
(2)
المرجع السابق 7/ 65.
(3)
المرجع السابق 7/ 65 - 66.
4 -
ذكَرَت المذاهب حول أصل الحيوان والنبات في الأرض، وأن الشائع منها اثنان:
الأول: مذهب الخلق المستقل، أنها خلقت بأنواعها، وتوالى كل نوع كما هو.
الثاني: مذهب التسلسل أو المذهب الداروني، "أن كل المخلوقات الحية قد تسلسلت من أصل واحد أو من بضعة أصول، وأن أنواعها لم تخلق مستقلة بل تفرع بعضها على بعض".
5 -
وذكرت موقف العلماء المختصين من المذهبين، فالأول كان "مذهب جمهور العلماء لعهدٍ قريب فلما زادوا معرفة بطبائع الحيوانات والنباتات العائشة، وتوسعوا علمًا بآثار المخلوقات البائدة، ترددوا فيه وانحاز الفريق الأكبر منهم إلى المذهب الثاني"(1).
6 -
تحدثت المجلة عن أثر علم الأحافير الناشئ في القول بمذهب التسلسل وما أثاره لامارك الفرنسي، والنواقص التي وقع فيها (2).
7 -
عرضت أول المحْدَثين طرحًا للموضوع وهو الفرنسي "لامارك" في "الفلسفة الحيوانية"، وخلاصته أن كل ما على الأرض من حيوان أو نبات قد تسلسل بعضه من بعض من أصل واحد، اختلفت ذُريات هذا الأصل إما بتغير جزء فيها أو بزيادة جزء عليها أو بإنقاص جزء منها، وجعل البواعث على ذلك ثلاثة: إما تأثير المعيشة، أو إلقاح شكل منها لشكل يختلف عنه، أو عوائدها الموجبة استعمال بعض أجزائها أو إهماله. وذكروا عنه مذهبه أن "كل موجود إنما وُجد بمشيئة بارئ الأشياء ولكن من الذي يقول: أنا أضع لمشيئته حكمًا، فلا تجري إلا عليه. . . . ترى ألا تستطيع قدرته غير المحدودة، أن تبدع للكائنات نظامًا تتوالى عليه" (3)، وذكروا أن من المآخذ على قوله ومذهبه أنه لم يبيّن كيف يمكن إذا حدث تغير وطرأ نوع جديد: لم حافظ على نوعه ولم يتغير؟ (4).
(1) المرجع السابق 7/ 66.
(2)
مجلة المقتطف 7/ 69 - 72.
(3)
المرجع السابق 7/ 70.
(4)
انظر: المرجع السابق 7/ 72، 121.
8 -
ألمحت إلى قضية هي مثار اهتمام من الماديين وهي: "التولد الذاتي"، فالمذهب المادي يرغب في جعل فكرة التطور ذات أصل مادي، حتى يثبُتِ مذهبهم المادي، وألمحوا أن مذهب دارون لا يقتضي ذلك، وذكروا "أن علماء هذه الأيام قد أفرغوا جهدهم ليتحققوا ما إذا كانت المخلوقات الحية تتولد من مخلوقات غير حية، فثبت من تجارب أعظم المحققين منهم أن الحي لا يتولد إلا من حي خلافًا لما ذهب إليه لامارك من أن الحي يتولد من غير الحي"(1).
9 -
ذكر أصحاب المقالة أن الحل جاء به داروين عبر "ناموس الانتخاب الطبيعي" ومداره على قضيتين:
- الأولى: أن كل الكائنات الحية تتكاثر تكاثرًا عظيمًا في زمان قصير، ولكن يموت الكثير منها ولا يبقى إلا المخلوقات التي تفوق غيرها بالصفات المناسبة للمعيشة وإختلاف النسل.
- الثانية: أن الأولاد يرثون خصائص أولادهم، ومع الأجيال يمتاز الأبناء (2).
وللتقريب فهو يرى أن ما يفعله الإنسان في الحيوانات الداجنة حتى يصل إلى بعض الخصائص المهمة، كإدرار الحليب أو كثرة البيض أو اللحم، هو ما يقع في الطبيعة على كل حيوان ونبات، فكما أن الإنسان ينتخب الصفات التي يريد بقاءها في النسل هكذا تنتخب الطبيعة الاختلافات التي تصلح لتطويل معيشة الجسم الحي وبقائه وتمكنها فيه حتى تصير ثابتة في طبيعته (3).
10 -
كان هناك مشارك لداروين اسمه "وولس" إلا أنه كان يرى الإنسان كائنًا مختلفًا عن الحيوانات والنباتات، أما داروين فكان يرى كما في "أصل الأنواع" أن كل حيوانات الأرض قد تسلسلت من أربعة آباء أو خمسة على الكثير ومثلها نباتات الأرض، وأن أصل الإنسان يرجع إلى بعض القرود المنقرضة (4).
الخاتمة -لهذا المقال الطويل- فيها توقف حول موقف داروين من الإنسان
(1) المرجع السابق 7/ 72.
(2)
انظر: مجلة المقتطف 7/ 121 - 122.
(3)
انظر: المرجع السابق 7/ 123 - 124.
(4)
انظر: المرجع السابق 7/ 125 - 126.
ولاسيّما مسألة نفس الإنسان، فإنه "إذا نظر فيها بطريق العلم لا غير كانت من أعوص المسائل وأغمضها، ولا يستطيع العاقل القطع في الحكم عليها اعتمادًا على مذهب من مذاهب أهل العلم والفلسفة. ."، إلى أن قالوا:"إن الحق بين مذاهبهم ضائع والصحيح مجهول، فالحكيم يعتصم بما أنزل الله عليه ويقبل من العلم الحق الجلي"(1)، وهي أصدق ما قالوه بعد هذا المقال الطويل، وهذه اللفتة القصيرة لو التُزم بها ما وقع الانحراف بالعلم والابتداع في الدين، ولكن هذه الجملة الخاتمة لم تمنع أناسًا جاءوا بعد ذلك فأخذوا من مذهب داروين ماديته وباطله وتركوا ما ينفع الناس كما سنرى لاحقًا.
كان هذا مجمل الصورة التي عرضته المجلة عن نظرية "داروين"، وعرّفت المجتمع بها، ورغم أهمية خاتمة المقال إلا أن المتتبع للمقال بطوله يجد ما يخالف تلك الخاتمة، فهي عرضت النظرية بصورة المادح المؤيد، وقذفت بمشكلة ثانية تحت مسمى العلم، وعلينا أن نتخيل تلك المرحلة وشعور الجمهور نحو هذه النظرية، فهم يعلمون أن أبناءهم يذهبون لدراسة العلوم العصرية في أوروبا، ويوجد أيضًا بعض المدرسين الأجانب في مدارس خاصة، فإذا كان هذا العلم يقول: إن أصل الإنسان يرجع إلى قرد، فإن هذا يعني وجود مشكلة كبيرة في علوم أوروبا، ويقفز إلى أذهان الكثير فساد علومهم جملة ومن ثم تقع ردّة الفعل المفسَرة من قبل المجتمع، بل من قبل علماء الشريعة، والملفت في الأمر أن صاحب النظرية إنجليزي، وفي العام نفسه التي تعرف فيها أهل الشام ومصر على النظرية احتل الإِنجليز أرض مصر.
ومما عرضته المجلة حول الموضوع خطبة ألقاها أستاذ في "الكلية السورية الإنجيلية" على الطلاب المتخرجين، وفي كلمته تحدث بمثال عن العلم الحقيقي ومثّل بداروين، وكان ذلك سنة (1881 م)، فاعترض كاتب أمريكي عليه، وهذا يكشف أنها كانت في البداية فيما بين النصارى، وهو "جيمس أنس" الأمريكاني (2)، فقال: "فقد لاح لي أنه ذكر مستر دارون كمثال لرجال العلم، وذكر مذاهبه على أسلوب يظهر منه أنها تستحق الاعتبار، ولم يحاول
(1) مجلة المقتطف 7/ 127.
(2)
انظر: المرجع السابق 7/ 233.
إظهار فسادها ونقصها ولا كونها محسوبة عند كثير من أكبر علماء عصرنا سخيفة وخالية من الدليل"، إلى أن قال: "وأن أُظهر لقراء جريدتكم إقرار دارون نفسهِ بكونهِ لا يؤمن بالوحي، شافعًا ذلك بشهادة بعض العلماء الأفاضل على أن المذهب الداروني خالٍ من الثبت العلمي" (1)، ثم استطرد في بيان إنكاره للوحي بقول داروين: "أما من جهتي فأنا لا أعتقد بأنه هبط وحي على الإطلاق" (2)، ثم ذكر شهادات علماء ذلك العصر ضدّ داروين (3)، ورد على من قال: إن هناك الكثير أيده من أهل الدين بأنه قد عُرض مذهب دارون العلمي على "المجمع السنوي لكنيسة المشيخة في أمريكا، "فأجمع أهل ذلك المجمع على رفضه بصوت واحد وهم خمس مائة من القسوس والأساتيذ والكتاب وطلبة العلم وغيرهم، ولم يكن منهم من يؤيده. ولا يؤخذ من ذلك أنهم لا يحبون العلم الصحيح، ولا أنهم يخافون أن يناقض العلمُ الكتاب المقدس؛ لأنه لا ريب في أنهم من أوّل الناس في إباحة الأبحاث العلمية والاعتراف بتقدم هذا العصر. ."(4).
وجاء جواب صاحب الخطبة على "جيمس" ببيان قصده من كلمته وطريقة تعامله مع طلابه، ومما قاله:"أما من جهة الذين قرؤوا العلم عليّ من شبان المشرق، وتفرقوا في جهات سورية ومصر كلها فلا حاجة بي أن أزيد على ما قلتهُ في خطبتي كلمةً واحدة لإيضاح مرادي، إذ كلهم يعلمون أني عندما أبحث في أعمال الله وأجد أن إله الطبيعة هو إله الوحي، أشعر في نفسي كمن هبط عليه الوحي. وأن أعظم سروري هو البحث في عجائب الطبيعة وجمالها بقصد معرفة الدلائل على أن الله إله الوحي حاضر وعامل فيها. وكلهم يعرفون أن تعليمي لهم إنما لخصته في هذه العبارة من خطبتي وهي: "ليكن كل ما يزيدنا معرفة وعلمًا آية آتية من الله عن طريق أعماله كما أتتنا آيات أقواله عن طريق وحيه. الله واحد، وهو المهبط الوحي والخالق الطبيعة، أيناقض قوله عمله -أيخشى من عمله على قوله. ولعلّ حضرة المنتقد الشهير لا ينكر ذلك، ولكن
(1) مجلة المقتطف 7/ 233 - 234.
(2)
المرجع السابق 7/ 234.
(3)
المرجع السابق 7/ 234 - 235.
(4)
المرجع السابق 7/ 236.
يقول: إنه لا يوافقني على ذكر دارون مثالًا على رجال العلم. ." (1).
يحيل هذا النص مشكلة النظرية من باب العلم إلى العلاقة بين "خبر الوحي" و"معلومات العلوم الطبيعية"، ولكن لا تصح تلك المساواة؛ فإن الوحي قد اختار له المولى سبحانه أفضل خلقه من الملائكة والبشر، والرب هو المتكلم به سبحانه، أما "معلومات العلوم الطبيعية" فهي اجتهاد بشري لا ضامن للصواب فيه، فكيف يُقارن بالوحي؟ لا شك أن الأمر بالنظر في مخلوقات الله قد كثر وروده في الوحي، وهو يدل على أن من نظر في الكون قاده النظر السليم إلى الإيمان بالوحي والإيمان بالله سبحانه، فلا تناقض بين قوله وعمله فله الخلق سبحانه وله الأمر، والاعتراض هنا أنه كيف توضع اكتشافات علماء الطبيعة بموازاة حقائق الوحي؛ لأن هذا العمل يؤدي إلى افتراض المساواة، وعند افتراض المساواة فإن وقَعَ ما يوهم التعارض وقع القارئ لهما في إشكال، فماذا يعمل جراء ذلك؟ نحن لدينا يقين بالوحي، فالله سبحانه اختار أعظم ملائكته، وأوصله لأعظم خلقه من البشر، أما معلومات العلوم الطبيعية، فأهلها إنما كشفوها بمناهج تجريبية عمدتها الاستقراء الناقص، فكيف إذا اجتمع بذلك أهواء قوم مالوا بالعلوم في اتجاهات لا دينية ولو زعموا الموضوعية والمنهجية والعلمية.
نعلم علم اليقين أن الحق واحد، وأن ما في الطبيعة من خلق الله سبحانه لا يتعارض مع الوحي، فهذا كلامه وهذا خلقه، ولكن هناك فرق بين الطبيعة ذاتها وما فيها من سنن وآيات كونية، وبين ما يعلنه العلماء من نظريات وقوانين كشفوها، وعندما توضع تلك المقابلة بما تعنيه من مساواة بين ما في الوحي وما في مكتشفات علماء الطبيعة فهي مقابلة ظالمة وباطلة، فكيف تُقام بين الوحي الحق وبين ظنيات البشر وجهودهم بما يعتريها من نقص وضعف وأهواء.
كانت المجلة تركز على تقديم المشكلة بهذا الأسلوب؛ أي: أن الوحي من عند الله والطبيعة من خلق الله، فلا يمكن أن يقع هناك تعارض، فيشعر أصحابها بأنهم قد عالجوا المشكلة بينما هم قد وضعوا لغمًا ربما عن غير قصد، فالذي يظهر بأنهم يحترمون على الأقل أهل ملتهم ويظهرون تعظيمهم لدينهم ولا يريدون
(1) مجلة المقتطف 7/ 287 - 288.
الظهور بمن يكذب بأمور الدين (1)، ومن أجل ذلك ركّزوا على هذا القالب الذي يرون فيه معالجة كافية للمشكلة، وقد أصبح أحد القوالب السائدة فيما بعد، وهو قالب قديم ومعروف وله أشكال مختلفة، ولكن القالب قد افترض أن حقيقة الطبيعة قد كشفها علماء الطبيعة وبهذا يكون ما كشفوه مقابلًا لما نجده في الوحي، وما يبقى بعد ذلك إلا توضيح أحدهما بالآخر أو التوفيق بينهما عند التعارض، وهو تسويق سريع -غير مقبول- لكل ما جاء من دائرة العلوم العصرية وإعطائها جميعًا درجة واحدة من الصحة، ما دام أنها تنتمي لدائرة العلم. يكون القالب السابق صحيحًا إذا كان لدينا القطع التام بصحة الوحي ودلالاته القطعية، والقطع التام بصحة المسألة العلمية ودلالتها القطعية، فإذا تحقق فيهما ذاك فهي مما ينطبق عليه القالب.
جاء في هذا السياق مشاركة تؤيد أستاذ الكلية السورية اليسوعية من "يوسف حائك" من الإسكندرية، ومما قال:"فنحن نعلم أن كثيرين من الفلاسفة كفرة، ولم تزل أعمالهم واكتشافاتهم واختراعاتهم مستغرقة عظيم الاعتبار، وعائدة عليهم بجليل الثناء، فلا يمكننا إلا أن نجاهر بها، ولا نستطيع إفسادها فإن المذهب العلمي هو غير المذهب الديني، على أن الدين الحقيقي لا يناقض العلم كما أشار حضرة المعترض؛ فما العلم سوى تبيان النواميس التي أجرى الله الكون عليها. ويتفق الفلاسفة من معطلة ومعتقدين بالله بالبحث عن الحقائق، ويختلفون بأن هؤلاء يعترفون أن واضع النواميس هو الله عز وجل وأولئك ينكرون ذلك، فلا حرج إذًا إذا مثّل المؤمن بآراء الكفرة العلمية في جلسةٍ علمية"(2)، فهي تؤكد التقابل بين "مذهب علمي" وآخر "ديني"، يختلفان ولكن لا يتناقضان. وما نؤكده هنا هو أنها امتداد لمشكلة مجتمعات أخرى، مجتمع انحرف فيه الدين عندهم عبر قرون ونشأ العلم الحديث من ثلاثة قرون مما يجعل التقابل مُفَسرًا، ومن الطبيعي امتداد المشكلة داخل الطائفة النصرانية العربية لسبقها إلى دراسة هذه العلوم واشتراكهم مع أوروبا في الإطار الديني والثقافي العام، ولكن
(1) جاء في سؤال من قارئ للمجلة: (على أي شيء ترتكز الكرة الأرضية بشرط أن لا يخالف ذلك الديانة المسيحية؟) فكان الجواب: (معاذ الله أن نناقض الديانة المسيحية في شيء. .)، المقتطف 1/ 255 - 256.
(2)
مجلة المقتطف 7/ 291.