الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين
يكشف التمهيد والفصل (*) والثالث والرابع الكثير من معالم هذا الاتجاه، كما أن الفصول القادمة مخصصة لتحليل هذا الاتجاه ونقد موقفه من العلم الحديث ونظرياته وعلاقتها بالدين، ولهذا السبب فلن أطيل الحديث عنه في هذا المبحث، وإنما أضع بعض الخلاصات المهمة التي تكمل لنا صورة الوضع الفكري في علاقة تياراته بالعلم الحديث، مع التذكير بأن التمهيد فيه عرض موجز لظهور تيار التغريب أما هنا فيتم الوقوف على صورة علاقة هذا التيار بالعلم الحديث.
عرف أول العصر الحديث لعالمنا الإِسلامي بطلب الإصلاح أو التحديث، يركز "الإصلاح" على الدين والفكر والثقافة بينما يركز "التحديث" على الجانب الدنيوي وشيء من الإدارة، كان الدعاة العلماء قادة الإصلاح بينما كانت الدولة العثمانية وبعض ولاتها أصحاب مشروعات التحديث، وقد ارتبط الإصلاح بالعودة للإسلام فكانت وجهته ذاتية بينما ارتبط التحديث بالسفر إلى الغرب فكانت وجهته خارجية، قاد دعوة الإصلاح الاتجاه السلفي مع الإمام محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله بخلاف دعوة التحديث التي تبناها النخبة في السلطنة العثمانية
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع
ممن لهم صلة بالغرب عبر الرحلة أو السفارة وأمثالها. نقف هنا مع التحديث لأن مساره تعطل واختلط فيما بعد بظاهرة التغريب.
الأصل في "التحديث" طلب العلوم النافعة من الغرب التي تساعد المسلمين في التقدم الطبي والصناعي والعمراني وغير ذلك، ومعلوم أن هذا النوع صعب وعسير ويحتاج إلى جهد ومشقة، وربما لهذا السبب فتَرَت هِممُ الولاة وهمم قادة التحديث -فضلًا عن أسباب كثيرة اختلطت بمشروع التحديث- عن التحديث، عندها بدأ يتسرب نوع آخر، يركز على المتعة والسهولة والإثارة دون أن يكون له فائدة، ومنه تسلل "التغريب" إلى مجتمعاتنا عبر الاهتمام بالفنون والآداب والفلسفات، فهي لا تحتاج إلى حركة وعمل، فيجلس مستهلكها على أريكته ويتلذذ بهذه الأنواع، ولكنها تحمل في طياتها أدوات تأثير خطيرة تزعزع العقول الضعيفة التي استولى عليها الجهل وقتلها التقليد والكسل المعرفي وانتشر في قلوب أصحابها أهواء خطيرة.
بدأ التحول من "التحديث" إلى "التغريب"، كان الأصل في التحديث الاهتمام بالعلوم النافعة بخلاف التغريب الذي تحول إلى الآداب والفنون والأفكار النافع منها وغير النافع مع غلبة غير النافع. كان حملة التحديث أغلبهم من المسلمين الذين أرسلهم الولاة إلى أوروبا بخلاف أوائل حملة التغريب فأغلبهم من النصارى والأقليات الدينية الأخرى، وقد اعتنى الطرفان:"المحدثون والمتغربون" بالعلم الحديث، ولكن لكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، فبينما كان أهل التحديث همّهم العلم الأداتي: الطب والصناعة والعمران. . . .، كان أهل التغريب همهم الآداب والفنون والفلسفات والعلم ونظرياته وما له صلة بالدين والثقافة الإِسلامية وكثير مما هو من هوية الحضارة الغربية ومن خصائصها؛ وذلك أن الهدف عند مجموعة التحديث يختلف عنه عند مجموعة التغريب. همّ أهل التحديث القوة والتقدم والرقي بالجانب الدنيوي من عالمنا، أما أهل التغريب فكان همهم التخلص من الإِسلام وإحلال الثقافة الغريبة مكانه. حاجة الطرفين من الفكر الغربي تختلف باختلاف أهدافهم، لذا ركز الطرف الأول على الحقائق العلمية النافعة بينما ركز الثاني على النظريات العلمية العائمة، الأولى تُبنى عليها منافع دنيوية واضحة أما الثانية فتفتح الباب لتأملات فلسفية وعرض أيديولوجيات تدّعي العلمية يبنى عليها أسلوب الصراع مع الدين الذي يُراد التخلص منه.
ارتبط موضوع التحديث بالعلم، ومن هنا كانت النقاشات أكثر عقلانية فتدور حول: تقدم أوروبا، وأنه كان بسبب ما أخذته عن المسلمين في نهاية عصورها الوسطى، والواجب علينا استعادة مكانتنا عبر اهتمامنا بالعلم النافع، وأنه من الواجبات؛ لأنه من إعداد القوة، ويستدلون بتاريخنا العلمي، وكان تيار التحديث من أهل الإِسلام وانحرافاتهم -إن وقعت- غير غريبة داخل المسلمين؛ فهي غالبًا من النوع المعهود ونجده واضحًا مع المسلمين كـ"الطهطاوي""والتونسي" وغيرهما، فهما على مذاهب بلادهما الاعتقادية والفقهية، وللطهطاوي مؤلفاته الشرعية، ومع ذلك وقعت منه زلات وهي معهودة في تاريخنا الإِسلامي ولم تخرج عن إطارنا التراثي في الغالب.
بخلاف نصارى هذه المرحلة ممن كان في مراكز العالم الإِسلامي المهمة ولاسيّما مصر، فقد كان هوى أغلبهم غربيًا، وجاءتهم الفرصة مع مشروعات التحديث في عهد التنظيمات العثمانية الذي فتح لهم الباب أو مع تجربة محمَّد علي القائمة على تمكين غير المسلمين والاعتماد عليهم في التحديث، أو الضغط الشديد على بلاد المغرب التي فتحت باب الامتياز للأجانب، فوجدوا فرصة للحركة لا مثيل لها، تصل أحيانًا لدعمهم وتوليهم مثل ما حدث مع إسماعيل بأشا في مصر.
حلم التحديث القائم على جلب العلم والصناعة والمدنية الذي شغل بال المفكرين والساسة (الثالث عشر/ التاسع عشر) سقط صريعًا مع الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين وانكشف ضعفه وهزاله، وظهر في الواجهة أصحاب التغريب ليطغوا على أهل التحديث، مجموعة منهم استقلّت بعاصمة دولة الخلافة وكوّنت منها دولة هي تركيا، ومجموعات أخرى بقيت في تعاون وتنافس مع المستعمر حتى خرج بعد أن مكنها خلفه.
لم ينقطع التحديث، ولا الابتعاث للغرب من أجل تحقيقه، ولكنه أصبح مُزاحمًا بالتغريب الذي وصل تأثيره إلى طائفةٍ كبيرة من أهل التحديث ووظفهم -دون أن يشعروا- لتحقيق الأهداف التغريبية فضلًا عن تدخل المستعمر في التوجيه والتأثير. وإلى هذا الحد سيقف الكلام على أهل التحديث مكتفيًا بمشاركة بعضهم تيار التغريب دون أن يشعروا بحقيقة تلك المشاركة، وأواصل الحديث مع أهل التغريب.
يعرف "التغريب" بأنّه: "تيار فكري ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية"(1). وقد كانت المعارف الحديثة والعلوم العصرية وسيلة مميزة لدخول هؤلاء في بنية الصراع الاجتماعي داخل العالم الإِسلامي، ثم اتسع وجودهم مع وقوع الاستعمار الذي أخذ بأيدي هذا التيار ليصنع منهم قوة كبيرة، ظهرت أولًا في جماعات سرية وأحزاب علنية، ووصلت فيما بعد إلى رأس السلطة أو كانت أهم المشاركين فيها، أبرز صورها الصارخة والحادة:"جمعية الاتحاد والترقي" التي حكمت تركيا وألغت الخلافة، ثم ألغت المؤسسات الدينية وسعت إلى إلحاق المجتمع التركي بالغرب في أشدّ أنواع عمليات التغريب المعاصرة غلوًا وتطرفًا (2)، وكانت القيادات التغريبية الأخرى التي تفردت بالسلطة أو كانت مشاركة تقود مجتمعات بلدانها بصُوَر متباينة -من بلد لآخر- نحو التغريب.
كانت أوضح صورة في القسم العربي من العالم الإِسلامي ما عرفته مصر؛ حيث تضافرت مجموعة أسباب جعلت من مصر مركز تجمع لطائفة من المتغربين، ومن بين أفضل من يحدثنا عنهم الدكتور "محمَّد محمَّد حسين"، حيث ذكر أن قوام هذا الاتجاه عدد من أصحاب الثقافة الأوروبية الذين كان يسميهم خصومهم وقتذاك بالمتفرنجين، وقسمهم إلى قسمين:
بعضهم من الشاميين النصارى الذين استقروا في مصر، وكانوا موزعين بين النفوذ الفرنسي والإِنجليزي، وأداروا أهم صحافة تلك المرحلة، وعرضوا فيها بشكل جذاب الفكر الغربي ودافعوا عنه بكل وسيلة، وقد كانوا أداة مهمة بيد الاستعمار فيما بعد، حيث تم التعاون معهم واستغلالهم. أما القسم الثاني فهم من المصريين وأغلبهم من المسلمين الذين فتنتهم الحضارة الغربية، فرعاهم الاستعمار وسهر على صناعتهم بعد التحول الخطير في الفكر الاستعماري القائم
(1) الموسوعة الميسرة. . . .، عن الندوة العالمية للشباب الإِسلامي 2/ 698، وقد سبق ذكر هذا التعريف في التمهيد.
(2)
من بين أوسع المناقشات والتحليل لحالة التحول في تركيا نجد دراسة، د. سيار الجميل، العرب والأتراك والانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة.
على أهمية استنبات فئة من أهل المجتمعات المسْتَعْمرة تقوم بالدور نيابة عن المستعْمِر في تغريب المجتمع (1).
إذا اهتم الاتجاه "السلفي" بالعلوم الشرعية وحث الأمة على طلب النافع فقط من العلوم العصرية، وإذا توجه الاتجاه "العصراني" نحو مشكلات واجهته فبرز بعلاجه المسكن للعلاقة بين الدين والعلم والقائم على التوفيق، فإن "التغريبي" ركز جهده على الآداب والفنون والأفكار والفلسفات بخيرها وشرها، صحيحها وفاسدها، مع تركيز خاص على ما يُصادم الإِسلام لحاجة في أنفسهم، فإذا وقفنا مع دوره في المجال العلمي فقط، فمما نجده:
كان أوائل المتغربين من النصارى غالبًا، ولا نكاد نجد بينهم مسلمًا، ونجدهم أيضًا قد انصرفوا عن الاهتمام بالعلم النافع الذي لا جدال حوله إلى النظريات العلمية في العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية التي تفتح جدالًا واسعًا، فضلًا عن عدم إمكانية التحقق منها في مجتمع يحاول رفع الجهل عنه. ثم تحولوا مع الأيام إلى مذاهب فلسفية وأيديولوجيات وضعية تدّعي العلمية بسبب انتسابها لتلك النظريات العلمية، ثم زاد هؤلاء درجة بجعل العلم هو المقدم بل البديل عن الدين، فالغرب وجهة التغريبيين لم يتقدم بحسب زعمهم إلا بعد أن أقصى الدين عن الحياة وقدم العلم، وقياسًا على ذلك ينبغي إبعاد العلم عن الدين وأن يتحرك العلم باستقلال تام وكيفما أراد وفق ضوابطه الخاصة فقط.
لقد كشف لنا الفصل الرابع دور النصارى في الصحافة، حيث أشغلوا الساحة الإِسلامية فترة من الزمن بمسائل تنتسب للعلم ويظهر منها معارضة للدين، سواء كان ذلك في باب النظريات العلمية أو مناهج العلوم أو حتى في المكتشفات العلمية وأجهزتها الحديثة. وأبرز الأمثلة على ذلك انشغال التيار التغريبي فترة الاستعمار البريطاني لمصر بنظرية غريبة هي الدارونية، وكأن الغرب العلمي لا يوجد فيه سوى هذه النظرية، وكأن العلم هو فقط نظرية داروين التطورية والمذهب الداروني القائم عليها. تفرغ قادة التغريب لهذه النظرية
(1) انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د. محمَّد محمَّد حسين 1/ 256 - 265، وانظر له أيضًا: الإِسلام والحضارة الغربية، الفصل الثاني: التغريب، وانظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 328.
وانصب جهدهم حولها تعلمًا وتأليفًا وكتابة صحفية ومحاضرات ثقافية، وتحولت النظرية معهم إلى دين جديد لا علاقة له بالمفهوم العلمي ولا حتى بالنظرية العلمية، وربطوا دعوتهم ومذهبهم ووجودهم بهذه النظرية، وأشعروا من حولهم أنه لا تغير ولا تحول إلا بهذه النظرية. والعلم عندهم في المرحلة الأولى من التغريب العلموي هو المرادف لنظرية التطور الدارونية، نجده في المرحلة الأولى بارزًا عند "شبلي شميل" و"فرح أنطون"، ثم بعدهما عند "سلامة موسى"، ثم دخلت على بعض المسلمين كما نجده بارزًا عند "إسماعيل مظهر" وغيره.
أعقب هذه المرحلة الدارونية الأولى انتشار غريب لهذا التيار التغريبي واشتهر بين الحربين العالميتين "الأولى والثانية"(1)، كما أن الأحزاب الجديدة التي برزت في تلك المرحلة قد اخترقها هذا التيار بقوة، وأصبحت قوة سياسية للتغريب وأهدافه فتوسع مجال نشاطها من فكري إلى اجتماعي عام بكل أشكاله (2)، "والذي يثير الانتباه لدى الكتاب التغريبيين -من المصريين خاصة- هذا الانقياد الكامل والاستسلام العجيب للقيم الغربية، وهذا الغياب المطلق لكل روح نقدية بإزاء هذه القيم. فلقد اشتغلت رؤوسهم ذكاء ونقدًا للمدنية العربية الإِسلامية بينما تقلص هذا الذكاء تقلصًا كاملًا بإزاء المدنية الغربية التي كانت تلاقي في عقر دارها، في الفترة نفسها، انتقادات لا ترحم. . . ."(3). والمتأمل في حركة التغريب والباحث فيها لا يجد سببًا مقنعًا في تخصيص طائفة منهم بهذه التبعية العمياء دون غيرهم، فهم يشتركون في هذه التبعية، وما خفّ إعلانها إلا بعد النقد الإِسلامي وكشف حقيقتها.
يمكن ذكر نموذج على سبيل الاختصار هنا؛ لأن الاتجاه هو موضوع البحث في جميع الفصول، فيُعرض هنا من أجل شيء من المقارنة بين الاتجاهات الثلاثة، وسيكون المثال أحد أهم شخصيات الفكر التغريبي في بدايات تكونه وهو "شبلي شميل".
(1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 185.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 328، وانظر حول نشأة الأحزاب وعلاقاتها: مدخل لدراسة الأحزاب السياسية العربية، د. رسلان شرف الدين، الجزء الثالث منه ص 153 وما بعدها.
(3)
المرجع السابق ص 330 - 331.
فقد كانت الدارونية هي مصدره الأهم، يقول أحد المتخصصين في فكره:"فمن المؤكد أن المصدر الأوّل لآرائه وأطروحاته الفكرية والاجتماعية هو في الفكر المادي الغربي والمدرسة الدارونية"(1). وعبر المقارنة بين الحضارتين -الإِسلامية والغربية- وجد "شميل" أن الغرب كان تقدمه بسبب العلم، وكان الفكر المادي في تلك الحضارة أبرز المستغلين لنجاحات العلم وقدم نفسه بأنه "قادر على تقديم مشروع علمي يربط أجزاء الكون في صيغة نظام محكم يقوم على مجموعة قوانين ميكانيكية. . . . "، إلى أن قال:"أسرع الشميل يتبنى من دون تردد مذهب "النشوء والارتقاء" دافعًا به إلى منتهاه المنطقي، مستخرجًا ما وسعه من الأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية، متجاوزًا بذلك إطاره العلمي الصرف إلى بعده الفلسفي الشامل"(2)، ويتخذ منه منهجًا لدراسة قضايا الفكر والواقع جميعًا (3). وإذا كانت حقيقة الدين قائمة على الإيمان بوجود الرب سبحانه؛ فإن "شميل" وحسب الباحث السابق لم يعد يؤمن بهذا الرب، و"أمسى مع تطور حياته واتجاهه في مسار العلم الطبيعي، ضربًا من الوهم، لا مكان له بين حقائق تفكيره"(4)، فيصبح الاعتراف بأهمية وجود الدين أو وجود حقائق دينية لا مكان له داخل هذا الفكر، ويصبح من الكلام الفارغ الحديث عن تقديم الدين على العلم أو العكس؛ لأن هذا الفكر لا يؤمن بأساس الدين ذاته فكيف يقبل ببقية حقائقه؟! ومن هنا يصبح المقدم هو ما عرفوه من ظاهر الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، وقد وجدوا آنذاك نظرية "داروين" أمامهم جاهزة بما تحمله من مضامين يمكن بها هدم الدين مع فئة ذات خصومة مع الإِسلام، يتناغم ذلك مع اعتقاده بأن الحاسة الدينية آخذة في الضعف وأنها ستزول كلما ارتقت العلوم وازداد انتشارها بين الناس، وقيام الدنيا وصلاحها وتطورها لا يقوم إلا على العلم (5)، إلى غير ذلك من المبادئ التي يؤصلها شميل للتيار التغريبي معتمدًا بحسب زعمه على العلم، مع أنه إنما يعتمد على مذهب فكري مادي أراد استغلال العلم.
(1) الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية .. ، د. محمود المسلماني ص 22.
(2)
المرجع السابق ص 23 - 25.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 97.
(4)
المرجع السابق ص 167.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 180.
فمثل هذا النموذج يعطي صورة مختصرة عن منهجية الاتجاه التغريبي العلموي، فقد أنهى علاقته بالدين من جهة، وربط مشروعه بعلاقة جديدة مع تيارات الفكر الغربية على سبيل التبعية التامة والتقليد الحرفي، وهو عندما يتعامل مع العلوم والنظريات فهي من مركب كبير يأخذه عن الغرب ولكنه يوظفه توظيفًا جديدًا في البيئة الإِسلامية، ومن صور ذلك التوظيف ما نراه من جعل الفلسفات والأيديولوجيات والنظريات الفكرية والعلمية مكان الدين.
وفي هذا الباب نجد تركيز الاتجاه المتغرب على زعمٍ مفاده عدم إمكانية الانتقاء من الحضارة الغربية، فليس أمام المجتمعات الإِسلامية سوى أخذ الغرب بكامله أو تركه بكامله، فدعوى التفريق بين المفيد في الغرب وبين أمراضه دعوى غير ممكنة، ويقول: إنه لا يفهم هذه العقلية التي تفكر بهذه الطريقة (1)، وفي موطن آخر يحلل هذه العقلية التي يصفها بالإصلاحية الإِسلامية والمحافظة عمومًا التي تشطر الحضارة الغربية إلى شطرين: شطر روحي وأيديولوجي، وهو مرفوض؛ لأنه نابع من مصدرين: إما النصرانية أو العلمانية، والعالم الإِسلامي ليس بحاجة لهذا الشطر؛ لأن في الإِسلام ما يغنيه عنه، والعلماني منه مرفوض؛ كونه ضد الإِسلام، أما الشطر الآخر فهو المادي والتكنولوجي والعلمي، الذي يقبل الفكر الإِسلامي (2)، وهو يقف عكس هذا الموقف تمامًا حيث أعلن الحلول التي اهتدى إليها التي "تقوم على رَكْل كل تراث أخذناه من عصور الانحطاط، الاستفادة من تجارب الحضارات الراقية في تجديد الحياة من كل الوجوه. . . ."(3).
هذه عينة من الموقف التغريبي، التي تدافع عن التغرب الواسع دون حدود إلا تلك الحدود التي تضعها انتماءات المتغرب الفكرية العلمانية، وهي تعلن بصراحة نبذ الإِسلام وحضارته والارتماء في حضارة الغرب، وهو موقف لا يقول به عاقل، فكل الأمم تتعامل مع غيرها بانتقاء المفيد وترك غيره، وأركز هنا على
(1) انظر: أسئلة النقد، جهاد فاضل ص 303.
(2)
انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 426 - 427.
(3)
أوراق العمر ص 474، عن لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 44.
نقطة اعتنى بذكرها وهي صعوبة هذه القسمة، والجواب: أننا نفرق بين الصعوبة والاستحالة، فالاستحالة لا يقول بها مدقق، إلا أن تكون استحالة متوهمة بسبب اتساع العماية، أما الصعوبة فنعم هناك صعوبة، ولكن لا تعني هذه الصعوبة أخذ كل الحضارة الغربية بما فيها من خير وشرّ.