الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتبدى لأدواتنا الحسية لا أنه هو الواقع ذاته، فالعقل يتدخل في صياغة النظرية وليس آلة تصوير فقط.
ويعني هذا بأنها حقيقة مؤقتة نسبية تواضعنا عليها الآن قصد التيسير، وليست حقيقة مطلقة يمكن القول عنها: إنها خطأ أو صواب تصور الواقع كما هو، وإنما هي حقيقة نسبية تنفعنا الآن في تفسير الظواهر والتحكم بها أو معرفة كيفية التعامل معها، ويتبع ذلك أن المطلوب ليس صحتها وإنما هل هي نافعة لنا أم لا؟ هل تحقق ما نريد بصورة ميسرة أم لا؟ وبحسب قدرتها في نفعنا تكون نظرية جيدة حتى يأتي يوم لا تستطيع تلك النظرية الإجابة عن أسئلة أو تقديم النفع، فتستبدل بنظرية أخرى تقوم بما قصرت فيه الأولى. وقد سهّل هذا التحول المنهجي حول مفهوم النظرية ولادة كثير من النظريات الجديدة ويسر تغيير النظريات القديمة إذا احتيج إلى ذلك، والأهم من ذلك بأن الكثير لم يعد لديهم اعتقاد صارم بأن النظرية العلمية حقيقة أزلية كالحقائق الدينية الموحى بها من السماء، وإنما هي اجتهاد بشري قد يتغير في مستقبل العلم. وتبقى هذه النظرة الجديدة هي المعبرة غالبًا عن روح فلسفة العلوم في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي.
ب- انقلاب فكري ضدّ الوضعية العلموية وتيارات المعرفة المادية:
مما يلفت النظر في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي ميلاد مذاهب تنتقص من أثر العلم عندما يتجاوز ميدانه، بل تنتقص المكانة المعطاة للعقل والفكر العقلي في المراحل السابقة. وليس أهلها من الجاهلين بالعلوم الحديثة إن لم يكن بعضهم من مدرسيها، ولكنهم اختلفوا مع تيارات القرن الماضي عندما قامت تلك بإعطاء العلم صلاحيات واسعة وبناء منظومات فكرية من خلال تأويلها للنظريات العلمية وتطبيقها في ميادين مختلفة من حياة البشر. فحدث مع مجموعة كبيرة ومشهورة من تيارات القرن الرابع عشر/ العشرين انقلاب كبير ضد الوضعية والمادية الواقعية واستقطبت جماهير غفيرة وأحدثت رؤية جديدة في علاقة الإنسان بالعلم والعقلانية.
وعند استعراض أهم تيارات الفكر في هذا القرن نجد أن تلك الرؤية الوضعية والمادية عن العلم قد أصبحت ضعيفة وتكاد في مواطن كثيرة أن تكون
منبوذة. فمن أشهر التيارات الفكرية في هذا القرن نجد بقايا ممتدة من القرن الماضي، كالاتجاه المادي والمثالي ومنها ما هو جديد كفلسفة الحياة والعمل والوجودية وفلسفات الوجود والظاهرية والبنيوية وغيرها:
كان أشهرها في مطلع القرن ما يُطلق عليه فلسفة الحياة والعمل وأهمها: "الفلسفة البرجسونية أتباع الفيلسوف الفرنسي برجسون""والبراجماتية أو الذرائعية التي ظهرت في أمريكا مع بيرس ووليم جمس وجون ديوي".
1 -
البرجسونية. فأما "برجسون"، فقد كان في مسار تيار نقد العلم، وما كان يرى بتلك القيمة الكبيرة للعلم ونظرياته بحسب ما تراه الرؤية الوضعية والمادية، وعادة ما يُصنف في مدرسة اللامعقول، لنزوعه إلى الحدس وقبوله للدين ومعارضة العقلانية والعلموية (1).
2 -
البراجماتية. أما البراجماتية أو الذرائعية ولاسيّما مع "وليم جيمس"، فقد كانت أيضًا تنزع إلى أن الحقيقة المطلقة غير موجودة حتى في العلم، وإنما تقاس حقيقة الشيء بثمرته وفائدته ونفعه، فالحقيقي هو النافع، وإذا كان الدين أو العلم أو غيرهما ذا فائدة وثمرة فله حقيقة. وإن كان فيهم من تطرف للنظرة الوضعية مثل "جون ديوي" وقدّم العلم على غيره (2).
كانت البرجسونية أهم فلسفة في فرنسا أول القرن بينما الوجودية في أمريكا وموطن اللغة الإِنجليزية، وهما عادة ما يوضعان في إطار الاتجاه اللاعقلي والحيوي والعملي، ويوضعان ضمن تيارات أرادت إيقاف النزعة العلموية المادية والوضعية وفتح المجال للكائن الحي.
3 -
المثالية. نجد أيضًا اتجاهًا ثالثًا ضد النزعة العلموية: المادية والوضعية وهو الاتجاه المثالي مع "كروتشه" و"برنشفيك" ومع "الكانطية الجديدة"، وقد كان لهذا الاتجاه نفوذه في القرن الرابع عشر/ العشرين أيضًا، وكان معظم أصحابه ضد الوضعية العلموية، وفيهم تأثر بمدرسة نقد العلم والوضعية الجديدة التي ترى بأن النظريات العلمية ما هي إلا مواضعات، وقد كان كروتشه مهاجمًا للعلم
(1) انظر: قصة الفلسفة، ول ديورانت ص 556، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 175.
(2)
انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 193 وما بعدها.
وبنفس الاتجاه يهاجم الميتافيزيقا والدين ويؤسس لمثالية جديدة (1).
ويبقى السؤال عن وضع الاتجاه المادي خصيم المثالية؛ أين هو في هذه المرحلة؟ الحقيقة أنه موجود؛ ولكن كثيرًا من دعاويه المستندة على العلم قد سقطت، وما بقي له إلا العودة إلى التخرصات العقلية للدفاع عن الإلحاد بكل مكوناته من إنكار للربوبية والغيبيات واليوم الآخر والروح وغيرها، وهو مرض موجود حتى عند أطراف من خصوم المادية، فهو مرض مستمر في الحدوث ما بقي داعيته في الوجود وهو الشيطان الرجيم. ورغم أنه الأضعف في القرن الرابع عشر/ العشرين إلا أنه قد وجد من يدافع عنه بقوة، مثل الفيلسوف الإِنجليزي راسل، ومثل الوضعية الجديدة وفلسفة التحليل، ومجموعة كبيرة من الماركسيين ولاسيّما في المعسكر الشيوعي السابق وأتباعه في العالم، فإن مما أسهم في بقائه واستمراره أن دولة الاتحاد السوفيتي السابقة قد اعتمدت المادية والإلحاد كأيديولوجيا أساسية ووحيدة للدولة الجديدة بعد نجاح الثورة البلشفية عام (1919 م)، بصورتها "الماركسية اللينينية" واجتهدت في نشرها والدفاع عنها واستبعاد كل ما يعارضها ولو بالتصفية الجسدية للمعارضين، وإعادة النظر في العلوم في ضوء النظرية الماركسية، وأصبح العلم معهم ماركسيًا لا علميًا. والدين عندهم عبارة عن أقوال خاطئة أثبت العلم الطبيعي خطأها، والعلم -بصورته الماركسية- هو الوحيد الذي يسمح لنا بمعرفة الحقيقة.
فأما راسل وإن لم يكن شيوعيًا إلا أنه أحد أهم المدافعين عن الإلحاد في القرن العشرين والمتمسكين بالمذهب المادي محتجًا في ذلك بالعلم مع حجج فلسفية أخرى (2).
ولكن العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين -كما سبق- لا يساعد الماديين على ماديتهم وإلحادهم، وعندما شعروا بذلك رفضوا نظريات الفيزياء المعاصرة بحجة أنها ذات ميول مثالية، ووظفت الدولة والسوفيتية كُتّابها لمحاربة تلك
(1) انظر: المرجع السابق ص 136، وعن المجموعة انظر: نفس المرجع، الباب الثالث ص 125 - 168، وانظر: عرض "مذهب كروتشة" كتاب "زكريا إبراهيم" الفلسفة المعاصرة ص 116.
(2)
انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 91.
النظريات. أما أصحاب الوضعية والتحليل والفيلسوف راسل ممن يعيش في بلاد غير شيوعية، فيكتفون بأن العلم ميدانه الحسّ، ومسائل الدين مما لا تحُسّ فهي إذًا غير علمية ولا يصلح أن يقال عنها: حقيقة، فهذا التيار لا يملك دليل إثبات على موضوعه، وإنما يستشهد على عدم صحة الدين بأنهم لم يحسّوا به ولم يعرفوه، وكما هو معروف فإن عدم الإحساس بالشيء لا يدل على أن الشيء غير موجود (1).
وقد لقي هذا الموقف المادي ضربات موجعة من أغلب تيارات القرن الرابع عشر/ العشرين، لاسيّما في ماديته، وإن كان كثير من التيارات الأخرى يشاركون الاتجاه المادي في الإلحاد، إلا أن ميولهم الإلحادية لا يقيمونها على العلم وإنما على وسوسات عقلية.
5 -
الوجودية. نجد أيضًا في القرن الرابع عشر/ العشرين اتجاهًا كبيرًا هو الوجودية، وهي تكاد تكون فرارًا من العلم والعقل إلى مشاكل الإنسان ذاته ووجوده، ومن الطبيعي في مدينة علمانية محرومة من شرع السماء أن تكون النظرة إلى الإنسان ووجوده بعيدة كل البعد عن المنزلة الحقيقية التي أرادها الله سبحانه لعباده. ومع ذلك فهي تحكي أزمة حقيقية عاشتها أوروبا بعد أن اعتنت بعالم المادة والحسّ والتقدم الدنيوي، وغلت في العلوم الجديدة ونسيت الإنسان، بل أرعبته بحربين كبيرتين قضت على الملايين، عندها جاءت الوجودية تدعو إلى ترك العلموية والعقلانية والوضعية والانتباه لوجود الإنسان. وبسبب ذلك فهي عادة ما توضع في دائرة الاتجاهات اللاعقلية، ويصفها "بوشنسكي" وكأنها فلسفة هندوسية (2).
6 -
الظاهريات والبنيوية. لقد كانت الأمثلة السابقة أبرز الاتجاهات الفكرية التي انقلبت على العلم والعقلانية، وما بقي ذا صلة بالعلم فهو أبعد ما يكون عن الصورة الوضعية المعهودة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كالذي نجده في فلسفة "هوسرل" الظاهرية أو الفمنولوجية، وكالذي نجده في البنيوية مع "فوكو" و"شتراوس" و"بارت" و"ألتوسير" و"يونغ" وغيرهم، فهي تعتني بالوعي مع
(1) أكتفي هنا بمجمل عن التيار المادي يناسب العرض التاريخي؛ لأنه سيأتي له بحث خاص في الفصل القادم ص 352.
(2)
انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، السابق ص 320.
"هوسرل"، وتهتم بالبناء اللغوي مع البنيوية وابتعدت كثيرًا عن التيارات العلموية وإن لم تبتعد عن الإلحاد (1)، وهناك غير هذه التيارات، والمقصود عرض ما يدل على مثل هذا الانعطاف، والابتعاد عن المادية والعلموية، ومع ذلك فالكثير من التيارات الفكرية وإن هجر المادية فما زال يخوض في مستنقع الضلالة، ولكن المؤشر المهم هنا هو هجر الدعاوى العلمية القديمة لإثبات الإلحاد، ومن بقي منهم على هذا الوباء فمستنده من خارج العلم.
خاتمة: لم الانقلاب على العلموية والوضعية والمادية؟
لو اكتفينا بالتيارات الكبرى المعارضة للوضعية والعلموية والرافضة لاستفراد النظرة العلمية بالساحة مثل: "البرجسونية والبراجماتية والوجودية والمثالية والكانطية الجديدة وفلسفات الميتافيزيقا الجديدة وغيرها"، وأبرزنا هذا التساؤل: لماذا انقلبت كل هذه التيارات على النزعة العلموية؟ ربما سيكون من بين أهم الأجوبة بأن النظرة العلمية لم تحقق للإنسان سعادته ولم تلبِّ رغباته وطموحه، وظهر وكأن التعاسة مرتبطة بتقدم العلم عندما يتقدم دون قيم عليا ترعاه وتجعله في خدمة الإنسان. وربما من بين الأجوبة المهمة بأن العلم نشاط بشري محدود الإمكانيات، يقبل التوظيف والتلاعب، ويعتريه الخطأ والصواب، والنقص فيه صفة لازمة كما هي خاصية لكل مخلوق، وبقدر ما تنفتح أبواب لم تكن معروفة عند من سبقنا بقدر ما تنفتح أضعافٌ مضاعفة من مساحات الجهل (2)، وأصبح الاكتشاف وكأنه اكتشاف لغابة كبيرة من الألغاز بدل أن يكون جوابًا لسؤال أو حلًا لمشكلة، لقد اكتشفنا الذرة فهل أُقفل الباب؟ الحقيقة أن هذا الاكتشاف قد أوصلنا إلى غابة كثيفة من الألغاز. وقد اكتشفنا الخلية فهل وصلنا إلى النهاية؟ الجواب: لا. وإنما ظهر لنا عالم عجيب من الكائنات لا يعلم بحقيقته إلا من خلقه وأوجده. وهاهي المركبات الفضائية تسبح في الفضاء فهل أُقفل الباب؟ والجواب: لا. وإنما أرتنا فقط جزءًا من حجمنا الضئيل في
(1) انظر حول "الظاهرية": المرجع السابق، بوشنسكي ص 219، وانظر حول "البنيوية": مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 411، ونظرًا لشهرة هذه المذاهب في الفكر العربي المعاصر وكثرة تعريف العرب بها فقد اكتفيت بالذكر المختصر لها، مع العلم بأن كل تيار منها كان له دعاته في العالم الإسلامي.
(2)
انظر البحث الرائع في كتاب: حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 43 وما بعدها.