المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ١

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب الاختيار:

- ‌أهداف الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة حول الموضوع:

- ‌أولًا: الكتب الإسلامية التي تكون بعنوان:الدين والعلم، أو القرآن والعلم، أو الإِسلام والعلم، وما في معناها وبابها

- ‌ثانيًا: الكتب التي تناولت بعض موضوعات البحث:

- ‌ثالثًا: "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير

- ‌رابعًا: الكتب التي تدور حول الفكر العربي المعاصر ومذاهبه:

- ‌خامسًا: الكتب المتخصصة في مشكلة البحث:

- ‌منهج البحث

- ‌خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌أولًا: النظرية العلمية

- ‌ثانيًا: أسباب نشأة الاتجاه التغريبي

- ‌ثالثًا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها

- ‌الباب الأول نشأة الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث وظهورها في العالم الإسلامي

- ‌الفصل الأول تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين وأثرها

- ‌أولًا: مصطلح أو مفهوم "الثورة العلمية

- ‌ثانيًا: ما قبل الثورة العلمية الحديثة "ممهدات الثورة العلمية

- ‌[1] التركة الأرسطية المتغلغلة في أواخر العصور الوسطى الأوروبية ومحاولتهم تجاوزها:

- ‌[2] الأمر الداخلي: أثر عصر النهضة والإصلاح الديني:

- ‌أ- عصر النهضة وحركة الإنسانيين:

- ‌ب- الإصلاح الديني:

- ‌[3] الأمر الخارجي: أثر العلم المنقول من بلاد المسلمين في ظهور الثورة العلمية:

- ‌ثالثًا: الثورة العلمية

- ‌معالم الحدث في الكتابات الفكرية

- ‌[1] البداية من علم الفلك:

- ‌أ- علم الفلك القديم:

- ‌ب - علم الفلك الجديد وشخصياته:

- ‌1 - مولد النظرية مع كوبرنيكوس:

- ‌2 - إحراق برونو يُشهر النظرية:

- ‌3 - براهي والبحث عن الأدلة:

- ‌4 - كبلر: للسعي للتوفيق واكتشاف القوانين:

- ‌ج- دور جاليليو:

- ‌1 - استعمال جاليليو للتلسكوب وآثار ذلك:

- ‌2 - صراعات جاليليو والمظهر الفكري الذي تبعها:

- ‌[2] قنطرة بيكون وديكارت والتأسيس المنهجي للثورة الفكرية والعلمية:

- ‌أ- فرانسيس بيكون:

- ‌ب- ديكارت:

- ‌[3] نيوتن وظهور أشهر ثاني نظرية في العلم الحديث:

- ‌أ- كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية

- ‌ب- القوانين والنظرية:

- ‌ج- النقاش حول علاقة العلم بالدين:

- ‌د- أثر نيوتن في الفكر الغربي:

- ‌رابعًا: ما بعد الثورة العلمية (1) "القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي

- ‌[1] أبرز التطورات العلمية:

- ‌[2] التحول إلى العلمنة:

- ‌[3] تيارات الفكر المشهورة وعلاقتها بالعلم:

- ‌أ- التياران الموروثان "العقلاني والتجريبي

- ‌ب- الفلسفة النقدية الكانطية:

- ‌ج- الاتجاه المادي:

- ‌د- التنوير:

- ‌[4] الثورة الفرنسية العلمانية (1789 م):

- ‌خامسًا: ما بعد الثورة العلمية (2) "القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي

- ‌[1] تيارات الفكر المشهورة:

- ‌أ- اليسار الهيجلي:

- ‌ب- نقاد الدين ونصوصه الجدد:

- ‌ج- الوضعية:

- ‌[2] النشاط العلمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر:

- ‌[3] نظرية التطور الدارونية وأبعادها الفكرية والاجتماعية:

- ‌أ- مصطلح التطور:

- ‌ب- تشارلس داروين (1809 - 1882 م):

- ‌ج- من إشكاليات النظرية الدارونية في مفهوم العلم:

- ‌د- من النظرية إلى المذهب:

- ‌هـ - موقف الكنيسة والعلماء من النظرية:

- ‌[4] البحث عن حدود النظرية العلمية والدين:

- ‌أ- مفهوم النظرية:

- ‌ب- مع الدين وضدّه:

- ‌سادسًا: ما بعد الثورة العلمية (3) (القرن الرابع عشر الهجري/ العشرون الميلادي)

- ‌[1] المستجدات في العلوم الاجتماعية "علم الاجتماع وعلم النفس

- ‌أ- علم الاجتماع:

- ‌ب- علم النفس:

- ‌ج- العلاقة بين الدين والعلوم البشرية من جهتي الخبر والشرع:

- ‌[2] نظريتا النسبية والكوانتم وثورة جديدة في الفيزياء:

- ‌أ- تحولات في الفيزياء "أشياء صغيرة تدفع العلم نحو التواضع

- ‌ب- تجربة مايكلسون ومورلي ومولد النظرية النسبية

- ‌1 - الأثير لا يصمد أمام التجربة:

- ‌2 - من التجربة إلى النظرية النسبية:

- ‌3 - علاقة النظرية بالواقع المعاصر:

- ‌ج- اكتشاف الذرة ومولد نظرية الكم:

- ‌1 - قصة عالم الذرة:

- ‌2 - من آثار النظرية:

- ‌د- خاتمة حول الفيزياء المعاصرة:

- ‌[3] علاقة العلم بالفكر في القرن "الرابع عشر/ العشرين م

- ‌أ - طبيعة النظرية العلمية وحدودها "طبيعة المعرفة العلمية وحدودها

- ‌1 - نقاد العلم:

- ‌2 - فلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا:

- ‌3 - الوضعية المنطقية:

- ‌4 - فلسفة العلم في الفكر العربي:

- ‌5 - نحو نظرية معرفة جديدة:

- ‌ب- انقلاب فكري ضدّ الوضعية العلموية وتيارات المعرفة المادية:

- ‌ج - عصر جديد لعلاقة العلم بالايمان في الفكر الغربي:

- ‌الفصل الثاني أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث

- ‌الفرق بين أسباب تقدم العلم وبين أسباب الانحراف به وأهمية بحثها

- ‌أمثلة تبين المقصود بمفهوم الانحراف بالعلم

- ‌المثال الأول: إنسان بِلتْداون:

- ‌المثال الثاني: التولد الذاتي:

- ‌ما بين الرؤية الكنسية والرؤية العلمانية للعلم وأثر ذلك في الانحراف بمسيرة العلم

- ‌الأول: دور الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم

- ‌دخول النصرانية للغرب واحتواء لاهوتها على معارف علمية:

- ‌العداء بين الكنيسة وطوائف اجتماعية جديدة:

- ‌تمثيل الكنيسة للموقف الديني في الصراع بين الدين والعلم وأثره:

- ‌المواقف الأربعة للكنيسة من العلم الحديث وما تضمنته من إشكالات:

- ‌حالة المعاناة من الكنيسة وظهور العلمانية:

- ‌المثال الأول: باب المعجزات:

- ‌المثال الثاني: اعتقادات النصارى حول الأرض:

- ‌الثاني: دور العلمانية في الانحراف بمسيرة العلم

- ‌التحول نحو العلمنة في أوروبا:

- ‌أ- العلاقة المشبوهة:

- ‌ب - الحل العلماني من كونه فصلًا إلى كونه رؤية:

- ‌ج - ظهور الدولة العلمانية القومية، وأثرها في الانحراف بمسيرة العلم:

- ‌د - التيار العلمي في ظل السيطرة العلمانية:

- ‌1 - أثر نشأة العلم في البيئة العلمانية:

- ‌2 - قناعة التيار العلمي بأهمية الفصل بين الدين والعلم:

- ‌3 - ظهور طائفة من العلماء الماديين والملحدين وأثرهم:

- ‌الثالث: دور الفكر المادي في انحراف العلم

- ‌أ - ما المادية

- ‌ب - التطور العلمي والتوسع في التصورات المادية:

- ‌ج - صورة العلاقة بين المادية والعلم الحديث:

- ‌مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر:

- ‌د - المنهجية المادية للانحراف بالعلم:

- ‌أولًا: آلية الربط للحصول على السند العلمي:

- ‌ثانيًا: آلية التعميم لاستغلال العلوم الحديثة:

- ‌ثالثًا: نماذج من انحرافات الاتجاه المادي بالعلم "الفيزياء - الأحياء - الرياضيات

- ‌1 - مفهوم القانون العلمي في الفيزياء:

- ‌2 - ظاهرة الحياة في الأحياء:

- ‌3 - إقحام المادية في الرياضيات:

- ‌هـ - التوظيف المادي للعلم من أجل إلغاء الدين:

- ‌الرابع: دور المذهب التجريبي الحسي والوضعي

- ‌الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي -وهم التسمية وحقيقة الاتجاه:

- ‌المؤسسون للمنهج وتصورهم للعلم:

- ‌ما بين الميتافيزيقا والعلم عند الاتجاه التجريبي:

- ‌كونت والدعوة الوضعية:

- ‌الوضعية المنطقية في القرن الرابع عشر/ العشرين:

- ‌مبدأ التحقق

- ‌الخامس: دور اليهود

- ‌الأحداث الثلاثة التي مكنت لليهود في الفكر الحديث:

- ‌يهودي دون ديانة يهودية

- ‌نموذج للدور اليهودي في الانحراف بمسيرة العلم الحديث:

- ‌نموذج فرويد ونظرياته في علم النفس:

- ‌أ- من داروين إلى فرويد:

- ‌ب- فرويد وظاهرة "اليهودي الملحد

- ‌ج- علاقة فرويد باليهود واليهودية:

- ‌أولًا: العلاقة باليهود:

- ‌ثانيًا: علاقته باليهودية:

- ‌د- جماعة التحليل النفسي: جماعة علمية أم جماعة يهودية

- ‌حادثة انشقاق كارل يونغ:

- ‌هـ - النظرية العلمية -صورة للاستثمار اليهودي:

- ‌1 - علاقة الفرويدية باليهودية وكتبها المقدسة:

- ‌2 - استثمار النظرية العلمية في إنكار العقائد والقيم:

- ‌الفصل الثالث تاريخ تكون الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإِسلامي وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر

- ‌أولًا: تغير العالم ببعثة الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌ظهور أمة الإِسلام ودورها في إنقاذ العالم:

- ‌ثانيًا: موجز لصورة العلوم في الحضارة الإِسلامية

- ‌القسم الأول: العلوم النقلية:

- ‌القسم الثاني: العلوم الحكمية:

- ‌العلوم السبعة:

- ‌خلاصة صورة التعرف الأولي علي علوم الأمم السابقة:

- ‌ثالثًا: الضعف والتخلف وانحسار مفهوم أمة العلم وظهور الدعوات الإصلاحية

- ‌1 - الانكسار في خط المسار:

- ‌2 - المخاض العسير لدخول العصر الحديث:

- ‌3 - البحث عن مخرج لأزمتي الانحراف والتخلف:

- ‌رابعًا: تجارب الولايات الإِسلامية للتحديث وطلب العلوم العصرية "المرحلة الأولى

- ‌1 - تجربة الدولة العثمانية:

- ‌2 - تجربة الهند الإِسلامية:

- ‌خامسًا: تجارب الولايات الإِسلامية "المرحلة الثانية

- ‌1 - الحملة الاستعمارية الحديثة الأولى لبلاد المسلمين "الحملة الفرنسية

- ‌الحملة العلمية المصاحبة لجيش بونابرت ومجمعها العلمي:

- ‌مواقف جديدة لبعض شيوخ الأزهر من العلوم العصرية:

- ‌أ - عبد الرحمن الجبرتي:

- ‌ب- حسن العطار:

- ‌2 - ولاية محمَّد علي باشا، ثم أولاده من بعده:

- ‌أدوات محمَّد علي في تحصيل العلوم العصرية:

- ‌أ- الاستعانة بالأجانب

- ‌ب- مشروع الابتعاث لأوروبا:

- ‌ج- إنشاء المدارس الفنية في مختلف التخصصات:

- ‌د- المدارس الأجنبية "مدارس الإرساليات

- ‌هـ - مشروع الترجمة:

- ‌و- المطبعة وما ارتبط بها من ظهور الصحافة العلمية والفكرية:

- ‌خلاصة التجربة:

- ‌3 - السلاطين الشباب في الدولة العثمانية ومغامرات الإصلاح:

- ‌1 - السلطان محمود الثاني:

- ‌2 - السلطان عبد المجيد:

- ‌3 - السلطان عبد العزيز:

- ‌سادسًا: تجربة بلاد المغرب

- ‌1 - تجربة تونس:

- ‌أ- المدرسة الحربية والصادقية:

- ‌ب- خير الدين التونسي:

- ‌2 - تجربة المغرب:

- ‌أ- تنبيه النخبة بأهمية العلوم العصرية:

- ‌ب- إصلاح التعليم أو توسيع دائرته:

- ‌سابعًا: تجربة فارس

- ‌تكوين نظام علمي موازي للنظام القديم:

- ‌ثامنًا: تعرّف المجتمع الإسلامي على العلوم العصرية ونظرياتها

- ‌1 - طُرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات:

- ‌2 - تاريخ دخول النظريات العلمية ذات الإشكالات للعالم الإسلامي:

- ‌الفصل الرابع أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية

- ‌أولًا: ضعف مؤسسات الأمة العلمية

- ‌الاحتياجات المعرفية الجديدة وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على تلبيتها:

- ‌نموذج الأزهر:

- ‌قصة الوالي العثماني مع الأزهر ودلالاتها:

- ‌مشكلات ذاتية للمؤسسات العلمية الإِسلامية:

- ‌الاحتلال الفرنسي ثم ولاية محمَّد علي وآثار ذلك على الأزهر:

- ‌بوادر الاختلاف داخل الأزهر ومطلب التحديث:

- ‌أثر جمال الدين الأفغاني:

- ‌دار الدعوة والإرشاد والمشاريع الجديدة:

- ‌ثانيًا: المدرسة الحديثة ومدارس الأقليات

- ‌الفصل والانفصال: الفصل بين المجالين الديني والدنيوي، والانفصال عن هوية الأمة:

- ‌دور مدارس الأقليات:

- ‌ثالثًا: دور الصحافة (نشأتها وتمكن النصارى منها وتوجيههم التغريبي لها)

- ‌ظروف نشأة الصحافة وأثر ذلك على الانحراف بمسيرة العلم الحديث:

- ‌النموذج الأول، مجلة المقتطف -النظريات الجديدة:

- ‌المثال الأول: نظرية الفلك الجديدة ومسألة دوران الأرض:

- ‌صدى المشكلة عند بعض المسلمين:

- ‌المثال الثاني: داروين ونظرية التطور:

- ‌النموذج الثاني: مجلة الجامعة العثمانية "الجامعة" لفرح أنطون -الإطار العلماني:

- ‌رابعًا: التيارات الفكرية الوافدة وتنظيماتها كالماسونية والسيمونية

- ‌[1] الدور الماسوني:

- ‌[2] أتباع سان سيمون

- ‌خامسًا: دور الاستعمار

- ‌سياسة التعليم الاستعمارية:

- ‌1 - تهيئة بيئة تسمح بتسرب الانحرافات وتغذي حركتها:

- ‌2 - صناعة الازدواجية في التعليم وعلمنته:

- ‌3 - ترسيخ الهزيمة النفسية في مجال التعليم:

- ‌4 - تحول المؤسسة العلمية في منبع لتوليد التيارات التغريبية:

- ‌5 - فتح الباب للنظريات الاجتماعية:

- ‌سادسًا: بيئة ثقافية جديدة وحضور التيار التغريبي فيها

- ‌الفصل الخامس أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها

- ‌تمهيد الأصول الثقافية للوضع المعاصر

- ‌فترة التحولات واضطراباتها ومشروع الشيخ حسين الجسر

- ‌المبحث الأول موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة

- ‌أولًا: الشيخ محمود شكري الألوسي

- ‌1 - الموقف من النظرية الجديدة في الهيئة:

- ‌2 - السعي إلى التأصيل الإِسلامي لهذه العلوم:

- ‌ثانيًا: الشيخ عبد الرحمن السعدي

- ‌1 - تأكيد دخول العلوم الصحيحة النافعة العصرية في الإِسلام، وأثر إدراك هذا المقصد

- ‌2 - خطورة ابتعاد العلوم الصحيحة النافعة العصرية عن الدين وحاجتنا إلى تقريبها من الدين:

- ‌ثالثًا: الشيخ محمَّد الشنقيطي

- ‌موقف الشيخ من الحضارة الغربية والعلوم الدنيوية التي برعت فيها:

- ‌1 - القرآن فيه تبيان كل شيء وهو يهدي للتي هي أقوم:

- ‌2 - الموقف من العلوم الدنيوية وكيف نحولها إلى أشرف العلوم:

- ‌رابعًا: الشيخ عبد العزيز بن باز

- ‌دعوة التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة

- ‌1 - الوعي باختلاف أرضيات العلوم:

- ‌2 - الوعي بمشقة المشروع:

- ‌3 - قوة التماسك في منهج التنظير وفي العمل التطبيقي:

- ‌المبحث الثاني موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث

- ‌أولًا: ما الاتجاه العصراني

- ‌ثانيًا: ظهور الاتجاه العصراني وحقيقة منهجه:

- ‌ثالثًا: النموذج الهندي العصراني:

- ‌رابعًا: النموذج العربي العصراني:

- ‌المبحث الثالث موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين

الفصل: ‌ثالثا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها

‌ثالثًا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها

الموقف الإسلامي من العلم موقف لا مثيل له؛ فالعلم والإسلام توأمان لا ينفصلان، لقد وضع الإسلام العلم في منصّةٍ عالية، فبوابة الإسلام هي العلم، وقد عقد البخاري رحمه الله بابًا مهمًا في صحيحه فقال:"باب العلم قبل القول والعمل"، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:"قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه"(1)، وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(2). ويكفي دلالة على مكانة العلم في الإسلام أن أول سورة نزلت كان فيها الحديث عن العلم ووسائله، وهي سورة العلق التي ابتدأت بـ "اقْرَأْ" وجاء فيها توجيه الإنسان إلى نعمة القلم ونعمة العلم التي أعطانا الله إياها، فقال -تعالى-:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]، قال القرطبي رحمه الله: "قوله -تعالى-: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} ـ يعني الخط والكتابة؛ أي: علم الإنسان

(1) فتح الباري 1/ 160.

(2)

سنن ابن ماجه، برقم (220) من المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) برقم (183)، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (416)، أما من ضعَّف سنده من العلماء فقد قال بصحة معناه، انظر مثلًا: مفتاح دار السعادة. .، لابن القيم ص 156.

ص: 68

الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: "القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش". فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دُوِّنت العلوم، ولا قُيِّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. . . ." (1).

وقال الشيخ عطية سالم: ". . . . ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي، بل جعل التعليم به أعم، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبًا محسنًا" ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب. وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال:"علّمت ناسًا من أهل الصفة الكتابة والقرآن". . . . وأبعد من ذلك ما جاء في قصة أسارى بدر، حيث كان يفادي بالمال من يقدر على الفداء، ومن لم يقدر -وكان يعرف الكتابة- مفاداته أن يعلِّم عشرة من الغلمان الكتابة، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك. . . . فإذا كان المسلمون -وهم في بادئ أمرهم، وأحوج ما يكونون إلى المال والسلاح، بل واسترقاق الأسارى- فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله، ليدل على أمرين:

أولهما: شدة وزيادة العناية بالتعليم.

وثانيهما: جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلُّق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية، في الهندسة، والطب، والزراعة، والقتال، ونحو ذلك.

وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك، حتى كان عدد كتَّاب الوحي اثنين وأربعين رجلًا ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام. . . . " (2).

(1) تفسير القرطبي، 20/ 120.

(2)

من تكملته أضواء البيان 9/ 356 - 357، وحديث عبادة في سنن أبي داود برقم (3416)، كتاب الإجارة، باب كسب المعلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (256)، وحديث أسارى بدر في مسند الإمام أحمد برقم (2216) من طبعة بيت الأفكار الدولية، وقال فيه ابن كثير: انفرد به أحمد وهو على شرط السنن، السيرة النبوية 2/ 512.

ص: 69

وبعد هذه المنزلة الكبيرة التي جعلها الإسلام للعلم جاء دوره في وضع صورة جديدة لمفهوم العلم، فهناك إعادة تشكيل جذرية لمفهوم العلم تطال كل أموره، تطال المضمون والترتيب والغاية، فقد جاء الإسلام بعد أن وصل العالم إلى مرحلة صعبة من الجهل والظلم، فجاء بالتوحيد والعلم والعدل، فكان من رسالة الإسلام رفع شأن العلم بعد ملئه بمضمون جديد يقوم على العلم بالله وبدينه وبشرعه وبأمره ونهيه وبما أنزله مما يُصلح حال العالم، وأعاد ترتيب الأولويات في العلم، وكان قد أُهمل علم الدين الحق، ووُضع عند من بقي عندهم منه شيء في أسفل الهرم، وانشغل الناس بعلوم محرمة أو مفضولة وقدموها على العلم الأهم، وأخيرًا ربط الإسلام العلم بقيم وغايات قد غفل عنها البشر. فانطلقت الأمة الوليدة بهذا العلم الذي ورثته عن نبيها صلى الله عليه وسلم، كما أنها قد أخذت علوم الأمم النافعة وأدخلتها ضمن المفهوم الجديد للعلم. ومن بين النصوص القديمة -نسبيًا- والشاملة نجد كلامًا نفيسًا حول القضايا السابقة لابن عبد البر رحمه الله (368 - 463 هـ)، نختصر منه بعض المعالم رغم طوله وأهميته إذ قال:"باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المتصرفات بحسب تصرف الحاجات وسائر العلوم المنتحلات عند جميع أهل المقالات"، بدأه بتعريف العلم وأقسامه فقال: "حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئًا وتبينه فقد علمه،. . . .

والعلوم تنقسم قسمين: ضروري ومكتسب، فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يُدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركًا ساكنًا،. . . . وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر، ومنه الخفي والجلي، فما قرب منه من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بَعُد منها كان أخفى. والمعلومات على ضربين: شاهد وغائب، فالشاهد ما عُلم ضرورةً، والغائب ما عُلم بدلالة من الشاهد.

والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى، وعلم أسفل، وعلم أوسط. فالعلم الأسفل هو: تدريب الجوارح في الأعمال والطاعات، كالفروسية والسياحة والخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو أن يأتي عليها وصف. والعلم الأعلى عندهم: علم الدين الذي لا

ص: 70

يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة -أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين- نصًا ومعنى، ونحن على يقين مما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل وسَنَّه لأمته من حكمته، فالذي جاء به القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، شفاء ورحمة للمؤمنين، آتاه الله الحكم والنبوة فكان ذلك يُتلى في بيوته قال الله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] يريد: القرآن والسنة، ولسنا على يقين مما يدَّعيه اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل؛ لأن الله قد أخبرنا في كتابه عنهم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فكيف يؤمَّن من خان الله وكذب عليه وجحد واستكبر؟ قال الله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وقد اكتفينا -والحمد لله- بما أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم من القرآن وما سَنَّه عليه السلام".

ثم توقف مع علم اللسان وفائدته في معرفة "علم الدين الذي هو أرفع العلوم وأعلاها، به يُطاع الله ويُعبَد وُيشكر ويُحمد، فمن عَلِمَ من القرآن ما به الحاجة إليه وعرف من السنة ما يعوِّل عليه ووقف من مذاهب الفقهاء على ما نزعوا به وانتزعوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم حصل على علم الديانة، وكان على أمّة نبيه مؤتمنًا حق الأمانة إذا أبقى الله فيما علمه، ولم تمل به دنيا شهوته أو هوى يرديه، فهذا عندنا العلم الأعلى الذي نحظى به في الآخرة والأولى".

وبعد إعادة صياغة مفهوم العلم الديني ووضعه في مكانه يأتي إلى العلوم البشرية، فيذكر أهمها وأشهرها، مع بيان الموقف منها الذي هو الموقف في كل حين، وهنا تظهر نظرة العالم المسلم إلى العلوم من حوله وتقييمها من خلال الإسلام، وقد اصطُلح على تسمية هذا الموقف في الدراسات المعاصرة بالتأصيل الإسلامي للمعرفة، فقال: "والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، وُيستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة.

وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة (1)، إلا أن العلم

(1) انظر أيضًا حول هذا التقسيم مع نقد مختصر: الفتاوى، ابن تيمية 9/ 125 - 131.

ص: 71

الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العُلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك، مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه، والتشبيه ونفيه، وأمور لا يُدرَك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس، قد أغنت عن الكلام فيها كتب الله الناطقة بالحق المنزلة بالصدق وما صح عن الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم العلم الأوسط والأسفل عندهم على ما ذكرنا عن أهل الأديان إلا أن العلم الأوسط ينقسم عندهم على أربعة أقسام هي كانت عندهم رؤوس العلوم، وهي علم الحساب والتنجيم والطب وعلم الموسيقى. . . ."، ثم تحدث عن هذه العلوم الأربعة وبيان الصحيح منها والباطل عند أهل الدين، وذكر أثرًا له دلالته المهمة عن أبي إسحاق الحربي قال: "العلوم ثلاثة: علم دنياوي وأخروي، وعلم دنياوي، وعلم لا للدنيا ولا للآخرة؛ فالعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم الذي للدنيا علم الطب والتنجيم، والعلم الذي لا للدنيا ولا للآخرة علم الشعر والشغل به"، وبعد كلام مهم حول هذه العلوم ختم بعلم الدين في الإسلام فقال: "واتفق أهل الأديان أن العلم الأعلى هو علم الدين، واتفق أهل الإسلام أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام،. . . . والقسم الثاني معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه،. . . . والقسم الثالث معرفة السنن واجبها وأدبها، وعلم الأحكام. . . ." (1).

ومن الأمور المنهجية المهمة التي وقف معها هذا الإمام الكبير أنه -أثناء حديثه عن علم الدين- يذكر منهجية المسلم في هذا الباب، وهي: الاكتفاء بما في الوحي وأهمية العناية بصحة الخبر، فعلم الدين عمدته -كما سبق أول التمهيد- على السمع، بينما إذا جاء إلى علوم الدنيا نجده ينبه إلى "المشاهدة والحواس"، وما يقبله العقل ويقوم عليه البرهان، وذلك أن عمدتها على البصر، وهي ظاهرة في المنهج الإسلامي نحو العلم، فالدين عمدته الوحي، وفهمه يكون بما وُرِث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقامه سلف الأمة، أما الدنيا -بعد معرفة الحلال والحرام فيها- فعمدتها على الحس والمشاهدة والعقل، وبهذا يقوم علم الدين وعلم الدنيا على منهجية صحيحة.

(1) انظر: تهذيب جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر ص 163 - 169، هذبه أبو عماد السخاوي.

ص: 72

° توجيه الإسلام للعلم وتيسير طرقه:

ولمنزلة العلم في الإسلام جاءت النصوص قوية وصريحة في الحثّ عليه وترتيب الأجور العظيمة على طلبه ونشره، وقد خصص العلماء لذلك مصنفات في فضل العلم وطلبه، فضلًا عن أن أغلب كتب العلم الشرعي تبدأ بمقدمات تذكر فضل العلم، وهي دلالة بيّنة على منزلة العلم في الإسلام ومكانته (1).

وقد فتح الإسلام جميع المنافذ نحو العلم النافع، وأزال الحواجز والمعيقات، فمن نظر في الإسلام وجد أنه ما ترك طريقًا يوصل إلى العلم النافع إلا دلّ عليه، وما من حاجز يعيق العلم النافع إلا حذّر منه، فما بقي بعد ذلك من عذر لأحد في طلب العلم، ففضل طالبه كبير، والطرق إليه ميسرة وصحيحة والعوائق مُزالة، وهذا يكشف تلك الظاهرة العجيبة التي ارتبطت بظهور الأمة الإسلامية، وهي مكانة العلم في هذا الدين العظيم، فإذا أصابها ضعف وجهل فهذا دلالة على بعدها عن تعاليم دينها، وهنا بعض معالم التوجيه الإسلامي في هذا الباب، وسأقسمها -إن شاء الله تعالى- إلى قسمين:

الأول: من صور فتح الباب نحو العلم النافع.

والثاني: من صور إزالة العوائق أمام العلم النافع (2).

الأول: من صور فتح الباب نحو العلم النافع:

وهو باب كبير، والقصد فقط التنبيه بالبعض على الكل، فمن ذلك:

1 -

بيان سعة العلم، وأن ما عند البشر شيء قليل، وأثر هذا البيان على المسلم:

قال -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ

(1) انظر تلك الوقفات المهمة حول فضل العلم ومنزلته في مفتاح دار السعادة، لابن القيم 1/ 48 - 187 بعنوان:(الأصل الأول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه، وتوقُّف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه).

(2)

انظر مثلًا في هذا الباب: أسس المنهج القرآني في بحث العلوم الطبيعية، د. منتصر مجاهد، وانظر: الإسلام والعلم، د. منصور محمد، وانظر: الإسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي.

ص: 73

مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]، قال الشيخ السعدي رحمه الله في آية الكهف:"فلو جُمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى"(1). وقال -تعالى-: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، قال ابن كثير رحمه الله:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال الحسن البصري: ليس عالِم إلا فوقه عالِم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. . . . عن ابن عباس:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالِم. وهكذا قال عكرمة. وقال قتادة:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود" (2). وقال -تعالى-:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.

والمعنى: أنَّ عِلْمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يُطلعكم عليه، كما أنه لم يُطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة؛ أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " (3)، والحديث الذي ذكره عن موسى عليه السلام والخضر دليل عظيم في الباب، فإن موسى عليه السلام عندما طلب الخضر

(1) تفسير السعدي ص 489.

(2)

تفسير ابن كثير ص 684.

(3)

تفسير ابن كثير ص 790 - 791.

ص: 74

إنما طلبه للعلم، وجاء في الحديث "فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر"(1).

وهذا البعد الذي يرسخه الإسلام حول العلم له أهميته، فكل علم هو من الله سبحانه، وكل علم البشر لا يساوي شيئًا في علم الله سبحانه، وبهذا مهما بلغت علوم البشر من الكثرة والإبهار فهي نقطة بل لا شيء في علمه سبحانه، وإدراك هذا الأمر له أهميته، ومن صور الأهمية: عدم الغرور بما يصل إليه البشر من علم، بل ذاك يدفع أهله إلى التواضع، ومن ثمّ شكر المولى على ما فتح على الناس من علم والانتفاع به بما يرضي الرب سبحانه، والأمر الثاني الذي نستفيده من هذا الأمر أن العلم بحر لا نهاية له، وعلى المسلم طلب المزيد من العلم الذي ينفعه، وعلى المسلمين عدم الوقوف عند أي باب من العلم إلا في باب جاء الشرع بطلب التوقف فيه، وما عداه فالعلم بحر واسع وعلى الناس الأخذ منه دون توقف، وأعلاه العلم بالله وبما يوصلنا إليه، ويدخل في ذلك تبعًا كل علم نافع يحتاجه الناس.

وهذا الأصل العظيم يجعل الأمة متوازنة في تحصيل العلم وفي موقفها من العلم، فلا تغتر بما حصلت عليه كما حدث للكفار من الاغترار بما وصلوا إليه من علوم، ولا تقف عند حدّ في طلب النافع منه.

وتبع الأمر السابق بيان أن كل علم البشر هو من الله سبحانه، فهو الذي خلق الكون بسننه التي يكتشف منها البشر شيئًا بعد شيء، وهو الذي خلق للإنسان أدوات التعلم والإدراك من سمع وبصر وعقل، فيكون ما يحصلون عليه من علم هو من الله، ويعلمون في النهاية أن ذلك مما يفتح الله به على خلقه قال -تعالى-:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وقال -تعالى-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ

(1) متفق عليه، البخاري برقم (119) كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سُئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، ومسلم برقم (4385) كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام.

ص: 75

إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]، ومن استشعر هذا الأمر أقام العلم بما يرضي الرب سبحانه، بخلاف من ظن أنه من قدرات العقول وحدها فتجده ينحرف بهذا العلم. ومن استشعر أن كل علم هو من الله، تجده يلجأ إلى ربه دائمًا في طلب العلوم، وحتى الدنيوية منها ما دامت صحيحة ونافعة، والإنسان يؤجر في ذلك بحسب نيته.

2 -

دعوة القرآن إلى استخدام العقل في بابه الصحيح وبيان منزلة العلم:

والآيات وإن قصدت في البدء إلى تحريك العقل نحو مقاصد دينية، إلا أن في ذلك توجيهًا صريحًا لتشغيل العقل وعدم إهمال شأنه، فجاءت آيات تدعو إلى النظر، وإلى التبصر، وإلى التدبر، وإلى التفكر، وإلى الاعتبار، وإلى التفقه، وإلى التذكر، وآيات في ذمّ الذين لا يعقلون وغيرها (1)، وغذاء العقل هو العلم، وقد جاءت آيات وأحاديث في الحث على العلم والتعلم بصور وأشكال مختلفة بالأمر الصريح أو بمدح العلم وأهله، أو بذكر الأجر، أو بذكر التميز، أو بذكر المآل الحسن. . . . وغيرها من الصور التي عُرض بها العلم في الكتاب والسنة (2)، وهذا باب يصعب سرد نصوصه فهي من الكثرة والتنوع بما يتعذر في مثل هذا المختَصَر ذكرها، ولكن من المهم الاعتبار بدلالتها على منزلة العلم في الإسلام، وعلى أهمية إعمال العقل فيما يقرِّب من الله وفيما ينفع من أمور الدين والدنيا، ومن هنا يُعلم أنه ما وُجد من حث على العلم وإعمال العقل مثل ما وُجد في الإسلام.

3 -

حثّ الإنسان على استخدام الحواس في طلب العلم، وقد سبق هذا في أول التمهيد.

4 -

طلب الحجة والبرهان، والصدق واليقين، والحق والقسط، وهي أمور لا تتحقق إلا بالعلم، فطلبها هو طلب العلم، وطلبها يقتضي العناية بالعلم، قال -تعالى-:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقال -تعالى-:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، وقال -تعالى-:

(1) انظر: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل ص 66 - 80.

(2)

انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية ص 1/ 48 وما بعدها، سبق ذكره.

ص: 76

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]، وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، وقال -تعالى-:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]، وقال -تعالى-:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]، وقال -تعالى-:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} [يونس: 36]، وقال -تعالى-:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28]، وغيرها من الآيات.

وفي الجملة فإن من تتبع القرآن وجده يحث على العلم وييسر كل طريق إليه، فإن هذه الشريعة العظيمة عندما تحث على باب أو تأمر به تجدها تيسر كل طريق إليه، وفي المقابل فإنها تُقفل كل باب يكون سببًا في تعطيل المأمور به، وفي الفقرة الآتية بعض ما يدلّ على ذلك.

الثاني: من صور إزالة العوائق أمام العلم النافع:

وكما فتح الإسلام الباب للعلم النافع فقد أزال كل العوائق التي تعيقه، ومن ذلك مثلًا التحذير من اتباع الظن، واتباع الهوى، ومن الجدل المذموم، ومن البغي، والريب، ومن تبديل كلام الله، ومن تحريف الكلم عن مواضعه، ونهى عن تقليد الآباء والزعماء والأحبار والرهبان بالباطل، ومن ذلك محاربته للخرافة من السحر والشعوذة والتنجيم، والخرافات التي تتعلق بالتصور والاعتقادات الغيبية، وغيرها من المنهيات التي غاية النهي عنها صلاح حال المسلم في دينه ودنياه.

وقد سبقت آيات في النهي عن اتباع الظن في الفقرة السابقة، فالابتعاد عن الظن يعني الحرص على اليقين والحق والعلم والصدق، وفي النهي عن اتباع الهوى قال -تعالى-:{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقال -تعالى-:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وجاء التحذير من تحريف الكلم عن مواضعه فذاك من التلاعب بالحق والعلم، قال -تعالى-:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، وقال

ص: 77

-تعالى-: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، ومثله النهي عن تبديل العلم والحق فقال -تعالى-:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} [البقرة: 181]، وجاء في النهي عن التقليد المحرم أدلة منها: قوله -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]، وقال -تعالى-:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، وقال -تعالى-:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]، وقال -تعالى-:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]، فما أعظم هذا الوصف لمن أقفل حواسه عن الحق، وقال -تعالى-:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} [الزمر: 43]، وهي وإن كانت في باب الوصية فالعبرة بعموم اللفظ. أما ما جاء في المحرمات من مثل السحر والتنجيم والشعوذة والخرافات التي يتصورها الكفار حول الملائكة والجن وأصنامهم المعبودة فقد جاء التوحيد لمحاربتها، فكما أنها عائق عن تحقيق التوحيد فهي عائق عن العلم النافع، والأدلة في ذلك كثيرة.

فمن تأمل هذا الباب عَلِمَ عظمة هذا الدين الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه وما ترك باب شر إلا نهانا عنه، وعلم أن الشرع قد حث على العلم وحث على أسبابه ويسر الطرق إليه، وأنه في المقابل حذر من الجهل وأقفل الأسباب الموصلة إليه، فلله الحمد على نعمة الإسلام ونعمة القرآن، قال -تعالى-:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:"يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة، وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}؛ أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم"(1).

(1) تفسير السعدي ص 421، وانظر: الإسلام والعلم، د. منصور محمد ص 39.

ص: 78

° الحكم الفقهي لأنواع العلوم:

بعد أن عرفنا شيئًا من الموقف الإسلامي من العلوم أختم ببيان حكمها عند أهل العلم، ومع أن في كلام ابن عبد البر رحمه الله شيئًا من ذلك إلا أن عددًا من التفصيلات ذكرها علماء بعده، ومن أشهرهم الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين"، ولاسيّما من جهة الأحكام التكليفية "الواجب والمستحب والجائز والمكروه والمحرم"، ثم درج أهل العلم على مثل ذلك، ومن بينهم الإِمام النووي رحمه الله، ففي مقدمة كتابه "المجموع" تكلم على ذلك وقسم العلم إلى قسمين: شرعي وغير شرعي، فقال رحمه الله عن القسم الأول:"باب أقسام العلم الشرعي هي ثلاثة: الأول: فرض العين؛ وهو تعلُّم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به. . . . القسم الثاني: فرض الكفاية؛ وهو تحصيل ما لابد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية، كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما، والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف، ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف. وأما ما ليس علمًا شرعيًا وُيحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب ففرض كفاية أيضًا نص عليه الغزالي. واختلفوا في تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما، واختلفوا أيضًا في أصل فعلها، فقال إمام الحرمين والغزالي: ليست فرض كفاية، وقال الإِمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي صاحب إمام الحرمين: "هي فرض كفاية، وهذا أظهر. قال أصحابنا: وفرض الكفاية المراد به تحصيل ذلك الشيء من المكلفين به أو بعضهم، ويعم وجوبه جميع المخاطبين به، فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإذا قام به جَمْعٌ تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب. . . ."، ثم قال: "واعلم أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين لأنه أسقط الحرج عن الأمة"، ثم قال: "القسم الثالث: النفل؛ وهو كالتبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القَدْر الذي يحصل به فرض الكفاية".

وقال عن القسم الثاني: "قد ذكرنا أقسام العلم الشرعي، ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح: فالمحرم كتعلم السحر. . . . وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين وكل ما كان سببًا لإثارة الشكوك،

ص: 79

ويتفاوت في التحريم. والمكروه كأشعار المولدين التي فيها الغزل والبطالة. والمباح كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف ولا شيء مما يُكره ولا ما ينشِّط إلى الشر ولا ما يثبط عن الخير ولا ما يحث على خير أو يُستعان به عليه" (1).

فقد جعل النووي رحمه الله تعلم العلوم العقلية الدنيوية البشرية النافعة من فروض الكفايات، وجعل لمن قام بفرض الكفاية مزية يختص بها، مع العلم أن لابن قيم الجوزية نقدًا لقسم فرض الكفاية يحتاج إلى تأمل إذ قال:"وأما فرض الكفاية -أي في العلم- فلا أعلم فيه ضابطًا صحيحًا؛ فإن كل أحد يُدخل في ذلك ما يظنه فرضًا، فيُدخل بعض الناس في ذلك علم الطب وعلم الحساب وعلم الهندسة والمساحة، وبعضهم يزيد على ذلك علم أصول الصناعة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها، وبعضهم يزيد على ذلك علم المنطق. . . .". ومن اعتراضاته: "فلا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله، فيا سبحان الله! هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيبًا حجامًا حاسبًا مهندسًا؟!. . . . فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين، وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض. . . ." إلى آخر كلامه رحمه الله (2)، واعتراضه هنا إنما هو على جعلها فرض كفاية وليس اعتراضه على صحتها في ذاتها أو جواز تعلمها، وهو اعتراض وجيه، ومع ذلك فمن العلماء من جعلها فرض كفاية من جهة النظر في حاجة الناس إليها، ومعلوم أن هذه الحاجات معتبرة في الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها"(3).

فهذا النوع إن لم يكن فرضًا من فروض الكفايات فهو جائز، ما لم يتعلق به ما يُفسد جوازه، كما أن الأمر يختلف بالنسبة إلى الدولة المسلمة، فما يجب في حقها قد لا يجب على الأفراد، فيجب على الدولة توفير الضروريات

(1) المجموع للنووي 1/ 62 - 67 باختصار، وانظر: الفتاوى لابن تيمية 28/ 79 - 80.

(2)

مفتاح دار السعادة ص 157.

(3)

الفتاوى، 28/ 79 - 80.

ص: 80

والحاجيات، ومن ذلك فتح الباب لما ينفع وحثّ بعض الناس على تعلمه بوضع الحوافز وغيرها، وهي أمور لا تحتاج لإيجاب وإنما يكفي التحفيز؛ لأننا لن نُعدم في كل علم وفي كل فن وفي كل مهنة من يهوى تعلمها ويحب الاشتغال بها، قال النووي رحمه الله:"وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش كالبيع والشراء والحراثة وما لابد منه حتى الحجامة والكنس فالنفوس مجبولة على القيام بها فلا تحتاج إلى حثٍّ عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية"(1).

وأختم هذه الفقرة بفتوى معاصرة جامعة ومهمة في هذا الباب ضمن فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وقد جاءت جوابًا على سؤال أورد صاحبه آيات النظر في الآيات الكونية وغيرها، سائلًا: هل يناسب الاستدلال بها على علوم طبيعية؟ فمن الجواب: "ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات إثبات أصول دينية هي توحيد الإلهية وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصِدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات. ولم يُقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شؤون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية، ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء، وطبقات الأرض، ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب، ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السموات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية. فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التشريع الديني تقعيدًا وتفصيلًا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة، لا قواعد كلية يُرجَع إليها في تشخيص الأمراض، أو يُعتَمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يُتَعرف منها خواص جميع الخامات وما يكون منها علاجًا للأنواع المختلفة من الأمراض".

(1) روضة الطالبين، النووي 7/ 424.

ص: 81

وتوقفوا مع آية الأعراف التي ذكرها السائل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185] بقولهم: ". . . . ولم تنزل لوضع تقعيد أو نظريات للعلوم الكونية، يرجع إليها من يريد أن يتعلم تفاصيل هذه العلوم"، ثم توقفوا مع حديث التداوي الذي ورد في السؤال بقولهم:"وأما حديث التداوي فالقصد منه الأمر بالتداوي، والتنبيه على الأخذ بالأسباب، وعدم الإعراض عنها، وبيان أن ذلك لا ينافي التوحيد؛ إذا كان المتداوي لا يعتمد على الأسباب ويجعلها الأصل في الشفاء، بل يوقن بأن الشفاء من الله، وأنه هو الذي جعل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء كما ثبت ذلك في الحديث، ولم يفصِّل النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الأدوية والأدواء، ولم يبين لكل داء ما يخصه من الأدوية، إلا في جزئيات قليلة، ولم يضع للطب قاعدة يتعرف منها من يريد تعلُّم الطب خواص الأدوية، وأعراض الأمراض".

ثم أعقبوا ذلك ببيان الموقف الإسلامي من العلوم الدنيوية والعقلية فقالوا: "ولكن حثهم على النظر وتعلُّم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسخر الله لهم الكون، وأعطاهم العقل؛ ليتبصروا في ذلك، ووفَّق منهم من شاء لما شاء من إدراك أسرار الكون وعجائبه، وما فيه من الخواص والمنافع والمضار.

فعلى المسلمين أن يتبصروا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا كمال الشريعة، ومقاصدها، وتفاصيلها، كل ذلك بقَدْر ما آتاه الله من عقل واستعداد، وما هيأ الله له من صحة وفراغ، كما أن عليهم أن يدرسوا أيضًا سنن الله الكونية في السماوات والأرض، ليعلموا ما أودع الله فيها من أسرار، وليستنبطوا منها ما شاء الله مما هم في حاجة إليه: من علوم الطب والزراعة والصناعة والفيزياء وطبقات الأرض، وغيرها من العلوم الكونية؛ ليستفيدوا منها في دنياهم، ويستعينوا بها في شؤون دينهم، ويستغنوا بها عمن سواهم من الكافرين، وبذلك يجمعون بين القوة والعزة في الدنيا، والنجاة والسعادة في الآخرة، ويصلحون للخلافة في الأرض، وعمارتها دينًا ودنيا.

وعلى ولاة أمور المسلمين من علماء وحكام أن ينهضوا بالأمة الإسلامية، وأن يرعوها حق الرعاية، ويأخذوا بأيديها إلى ما فيه الخير والصلاح علمًا وعملًا، ويوزعوا جهودها على جميع جوانب الحياة دراسةً وإنتاجًا لشتى العلوم

ص: 82

والأعمال، دينية ودنيوية، ليوجدوا الأكفاء الذين يقومون بمصالحها، ويتضلعون بأعبائها، ويتحملون مسئولياتها، وتستغني بهم عمن سواها من الدول علمًا وعملًا.

ومن هذا يتبين أن كل علم ديني -مع وسائله التي تعين على إدراكه- داخل فيما يرفع الله مَن عَلِمَه وعمل به مخلصًا له عنده درجات، وأنه مقصود بالقصد الأول. وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة، وتتوقف عليه حياتها، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضًا إذا حسنت النية، وأراد به متعلمه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغناءَها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كلٍّ متفاوتة تبعًا لمنزلة ذلك من الدين، وقوته في النفع ودفع الحاجة، والله -سبحانه- هو الذي يقدِّر الأمور قدرها، ويُنزلها منازلها، وهو الذي يعلم السر وما هو أخفى، وإليه الجزاء ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" (1). وهم يَعُدُّون النافع منها من فروض الكفاية، ففي فتوى أخرى عن حكم تعلم التكنولوجيا أجابوا: "أولًا: يتعلم المسلم من أمور دينه ما يجعله على بصيرة من أمره. ثانيًا: دراسة العلوم التكنولوجيا من فروض الكفاية، فإذا درسها أبناء المسلمين للاستفادة منها فهم على أجر، على حسب نياتهم" (2).

(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (6249) 12/ 64 - 77، عبد الله بن قعود عضوًا، عبد الله بن غديان عضوًا، عبد الرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة من لباب الأول، عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسًا.

(2)

المرجع السابق برقم (4258) 12/ 81، وسيأتي مزيد من ذلك بذكر مواقف العلماء -ولاسيّما علماء الاتجاه السلفي- في الفصل الخامس من لباب الأول، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من الأئمة الأعلام مثل الشوكاني والألوسي والشنقيطي والسعدي رحمهم الله جميعًا.

ص: 83