الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم نقاد العلم السابق ذكرهم من أمثال بوانكاريه ودوهيم، ومنهم أيضًا فيلسوف العلم المشهور "جاستون باشلار"، فهو صاحب نشاط بارز ومدرسة كبيرة لها امتدادها حتى في الفكر العربي.
تدور مؤلفاته "حول موضوعين أساسيين هما: نظرية المعرفة العلمية. . والنزعة الشعرية المقترنة بالتحليل النفسي"، ويذكر لتاريخ العلم فائدة مهمة، فهو "يبين كيف أن ما نعده اليوم نظرية علمية صحيحة قد مرّ بالعديد من النظريات التي ثبت خطؤها في مرحلة تالية. ومعنى هذا أيضًا أن ندرك أن نظرية الغد ستكون صحيحة في نظر أصحابها؛ لأنها قضت على نظرية اليوم"(1). ويمثل موقفه هذا من النظرية رؤية معتدلة مقارنة بما نراه مع الوضعية والعلموية، وفيه اعتراف بنسبية النظريات العلمية وقابليتها للتبدل والتغير، ويقترب في ذلك من كل الرؤى السابقة.
- ونجد ثالثًا في إنجلترا صورة أكثر مثالية لا تستبعد الديني والإيماني في الموقف من النظريات العلمية وضمن إطار فلسفة العلم. وكان من أشهر فلاسفة العلم أدنجتون (1882 - 1944 م) فهو يرى مثلًا بأن العلم الحديث والفلسفة وإن اعتمدا على العقل فإنهما لا يستبعدان الإيمان، بل إن العقل أحد قواعد الإيمان، وانتهى إلى مثالية صوفية، وقريبًا منه جيمس جينز (1877 - 1946 م) الذي عرض صورة مثالية في علاقة الفلسفة بالفيزياء المعاصرة (2).
ورغم الاختلاف والتباين بين جميع من سبق، إلا أن ما يجمع بينهم: نظرتهم النسبية إلى النظرية العلمية، والمعرفة العلمية مع الاتفاق على قيمة العلم وأهميته.
3 - الوضعية المنطقية:
يُعد المذهب الوضعي المنطقي أحد أشهر فلسفات القرن العشرين (14 هـ) وهو من بين أهم التيارات عناية بفلسفة العلم، ويزعم أصحابها وضع رؤيتهم
(1) عن موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 292، وكأن الأصح الشعورية مكان الشعرية، وانظر: برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم. .، د. السيد شعبان ص 145، وانظر: مجموعة الفرنسيين عند حسن حنفي في: مقدمة في علم الاستغراب ص 415 - 416.
(2)
انظر: مقدمة في علم الاستغراب ص 416.
الفلسفية وفق مقتضيات العلم. وترجع جذورها القريبة إلى حلقة فيينّا، وقد كان "ماخ" في مقام الأب الحقيقي للحلقة. وقد ضمّت مجموعة كبيرة من الباحثين في مختلف فروع العلم والفلسفة، وأعلنت ميلادها بالبيان الذي أصدرته عام (1929 م) بعنوان "فهم علمي للعالم" بقيادة "موريتز شيلك"(1882 - 1936 م)(1)، ومن بين رموزها منظِّرها المشهور "كارنابّ" وصديقهم من مدرسة برلين "ريشنباخ".
استفادت المدرسة من "ماخ"، ومن نقد "بوانكاريه" الذي يرى بأن النظريات العلمية ما هي إلا اتفاقات، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون المحافظة على إرث التيار التجريبي الذي يعتمد على الحس والتجربة (2). ويمكن التفريق بين التيار الواقعي والتجريبي القديم وبين الوضعية المنطقية الحريصة على مواصلة رؤاه، بأن الأول كان يرى التطابق بين حقيقة النظرية والواقع، أما الوضعية المنطقية فبتأثير ماخ وبوانكاريه تنزع منزعًا اسميًا، فالنظرية هي أداة اصطلاحية للتعبير عن الواقع ولكنها ليست الواقع، ولكن في الوقت نفسه فلابد من علاقة بين النظرية والواقع تجعل بأيدينا طريقة للتحقق من المعرفة، فجاءت بذلك أهم الإشكاليات التي حاولت الوضعية معالجتها دون أن تنجح وهي: كيف نستطيع التحقق من صدق المعرفة العلمية؟
ويعد هذا الموقف من ضمن موضوعات فلسفة العلم، وهو موطن صراع كبير بين تيارات الفكر الغربي وإن كان لا يصل إلى درجة موقفهم من غير هذه المعرفة المقرونة بالتجربة سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية أو مثالية. فما يُسمى علمًا هو إما "الرياضي والمنطقي" الذي هو تحصيل حاصل أو "الطبيعي التجريبي والحسي" الذي يعتمد على التجريب والاستقراء والإحصاء في الوصول إلى نتائج جديدة، وما لا يدخل في هذين القسمين فليس علمًا وإنما هو كلام فارغ. ومن بين أشهر الأمثلة المضروبة لديهم هو كلمة "الله" التي هي غاية الديانات ونهاية
(1) انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية، وداد الحاج ص 39 - 51، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 93 - 94، وأغلب المهمين فيها من الألمان كما ذكر، وبهذا تكون ألمانيا أهم موطن لفلسفة العلم في القرن العشرين.
(2)
انظر: كتاب وداد الحاج السابق ص 161 - 164.
علومها، فهي بحسب مذهبهم كلمة لا تدخل إطار العلم؛ لأنها لا تدخل في القسم الأول ولا القسم الثاني (1)، وتكون كلمة فارغة لا معنى لها. فهذا الموقف الأيديولوجي الملحد هو ما أثار ضجة كبيرة ضد الوضعية المنطقية في الغرب؛ فإن الانتقال بفلسفة العلم إلى حدود الإنكار للعقائد والتكذيب بها بحجة أنها لا يمكن التحقق منها، وفق معايير الوضعية المنطقية، هو أحد صور الانحراف الكبيرة في فلسفات العلم المعاصرة، وأبرز صور الاستثمار السيئ لثمار العلم الحديث في إنكار ما لا يدخل في مجاله. فلو توقف الأمر على حدود: ما الذي يعدّ علمًا رياضيًا أو طبيعيًا؟ وما حدوده؟ وما إمكانياته؟ لما حدث إشكال، وما زال العالم مختلفًا حولها إلى الآن. لكن العمل غير المشروع هو جعل العلم الرياضي الاستنباطي أو الطبيعي الحسي والتجريبي العلم الوحيد المعتبر وما عداه فوهم وكلام فارغ.
لقد جعل الوضعيون المنطقيون من بين مهامهم تصفية العلم من كل المفاهيم الدينية والميتافيزيقية وتسوير العلم بأسوار لا تسمح بدخول مثل تلك المفاهيم إلى دائرة العلم. ففي البيان الذي أصدرته المجموعة بعنوان "فهم علمي للعالم" ما يؤكد ذلك، فهو يقوم على استبعاد الميتافيزيقا من كل فروع المعرفة، ومن ذلك "تنقية النظريات العلمية من الميتافيزيقا"؛ لأن يقين نظرية ما يأتي فقط من المشاهدة؛ أي: من الأحاسيس، وما لا صلة له بالمشاهدة والأحاسيس فيجب تنقية النظريات العلمية منه، وهي الصورة التي عرفت مع "ماخ" وأحيتها الوضعية المنطقية (2). وبدأت المجموعة بمراجعة العلوم كلٌ في تخصصه وتنقيتها من المفاهيم الميتافيزيقية بحسب المبادئ المقترحة في البيان، وهدفهم المشترك -رغم الاختلافات بينهم- هو إلغاء الميتافيزيقا. وقد اتخذت الوضعية المنطقية من مفهوم الميتافيزيقا مدخلًا للانحراف بالعلم على المستوى الأيديولوجي للتيار، فجعلت منها منطلقًا لاستبعاد الدين والانتقاص من قيمه وعدم الاعتراف بمسلماته، ومن تسامح منهم مع الدين فقد أحاله إلى مجال الأساطير والفنون والموسيقي المعبرة عن مشاعر وجدانية، لا أنه ذو مرجعية حقيقية أو مضمون صحيح.
(1) انظر: المرجع السابق ص 45.
(2)
انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية ص 41.