الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفلسفة العلم في الفكر العربي، فإن سبب ذلك يعود إلى توجه مجموعة بعثات في الغالب إلى بلاد يزدهر فيها التيار الوضعي والتحليلي (1)، وذلك يشعرنا بأن الأمر لم يخضع لاختيار حرّ من قبل المفكرين المتحمسين لفلسفة العلم الوضعية بقدر ما كان تقليدًا للموجود أمامه.
ومثل ذلك يقال على المدرسة الثانية المنتشرة في بلاد المغرب التي مالت إلى تقليد المدرسة الفرنسية ذات المنحى النقدي، ولاسيّما في صورتها الباشلارية بالدرجة الأولى، وأضاف البعض الرؤى الألتوسيرية "باشلار وألتوسير". ويعود ذلك في الغالب إلى اقتراب بلاد المغرب من فرنسا، وذلك يشعرنا أيضًا بغياب الاختيار الحرّ والنقدي للموقف الفكري المغربي، وإنما كان شيئًا قريبًا من الحدود أُعجب به هؤلاء، ومن بين الأسماء المشهورة نجد كلًّا من "محمَّد الجابري" و"سالم يفوت" و"محمد وقيدي" وغيرهم (2).
وقد استثمر أتباع المدرستين مفهومات فلسفة العلوم وآلياتها في دراسات داخلية ضمن إطار الفكر العربي مما سبب إشكالات كثيرة تأتي بإذن الله دراستها في مباحث قادمة.
5 - نحو نظرية معرفة جديدة:
لقد كانت مسيرة العلم في الفكر الغربي مضنية وعسيرة، وكانت مشوبة بشوائب خطيرة لم يكن أقلها الاستثمار الخطير من قبل تيارات فكرية لا دينية لثمار العلم في تدعيم أصولها ومذاهبها. ولكن مع مستجدات القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي انقلب الوضع رأسًا على عقب، وظهرت تيارات جديدة تعيد دراسة العلاقة مع العلم وتكشف كثيرًا من الأوهام المتخيلة حول حقيقة العلم، وتكشف كثيرًا من التلاعبات الفكرية عن طريق بناء أنساق فكرية مدعية اعتمادها على العلم ونظرياته. وقد كان من بين أكثر المتضررين بالمستجدات العلمية الاتجاه المادي بكل تياراته ومدارسه، سواء في تصوره لحقيقة العلم أو في استثماره الأيديولوجي لثماره.
ويمكن لراصد مسيرة العلم في الفكر الغربي أن يصل الآن ومع فلسفة
(1) انظر: فلسفة العلوم (قراءة عربية) 1/ 33.
(2)
انظر: المرجع السابق 1/ 48 - 49.
العلوم إلى مجموعة نتائج نختار أهمها مما له صلة بقضية تساؤل البحث الجوهري حول طبيعة النظرية العلمية (1)؟
فمن بين أهم التحولات الملاحظة حول طبيعة المعرفة العلمية ما يأتي: كانت روح النظرة السائدة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بأن النظريات العلمية هي صورة طبق الأصل عن الواقع المادي، فالمطابقة هي المفهوم الشائع آنذاك، ويتعلق بهذه النظرة أن الصواب هو ما وافقها والخطأ ما عارضها، وأوسع من ذلك إذ أصبحت هي الحق الوحيد وما عداها فباطل، فالحقيقة العلمية تمثل الحقيقة المطلقة التي لا يدخلها الشك أو الاحتمال وهي معيار الصواب والخطأ.
وعندما وضعت المعرفة العلمية -الرياضية والطبيعية- معيار الحقيقة المطلقة بدأت تصفية واسعة لكل ما يخالف هذه الحقيقة أو يتعارض معها، وكان من بين أهم التيارات نشاطًا في ذلك التيارات المادية والوضعية واليسارية.
ثم حدث ما حدث من مستجدات في أرض العلم ذاته، وأعيد النظر في كثير من المسلمات حول العلم ذاته، وبأيدي العلماء أنفسهم قبل غيرهم، فتغيرت طبيعة الصورة السابقة وانكسرت تلك المعادلة المادية، وأصبح مفهوم المطابقة غير دقيق في النظريات والمعارف العلمية واستبدل به مفهوم المواضعات أو الظاهريات.
واستُبدل به تبعًا لذلك مفهوم الحقيقة العلمية المطابقة مفهوم الحقيقة العلمية النسبية، واستبدل بالحقِ الأنفعُ، وإذا كان الصواب والخطأ يناسب مفهوم المطابقة، فإن المواضعات والظاهريات استبدلته بمناسب وأيسر وأنفع أو غير مناسب وأصعب وغير نافع (2).
وهي تُشكل تحولات منهجية جذرية لطبيعة النظرية العلمية والمعرفة وطبيعة العلاقة بها. فالنظرية العلمية الفيزيائية مثلًا ما هي إلا مواضعات يقترحها الذهن قصد التفسير الأسهل بحسب رأي نقاد العلم، أو هي تعبير عن الظاهر الذي
(1) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 39 - 41 فقرة: أزمة علم الطبيعة النيوتني.
(2)
انظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 427 - 432، ترجمة د. علي ناصف.