الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمثلة تبين المقصود بمفهوم الانحراف بالعلم
التاريخ القريب مليء بالأمثلة والشواهد على مثل هذا النوع من الانحراف بالعلم، إما بتصويره وكأنه بمثل لهذا المذهب أو ذاك، أو توظيفه في ما يخدم هذا المذهب أو ذاك، وسأذكر بعض الأمثلة الموضحة لمقصودي من الانحراف العلمي أو الانحراف بالعلم، والتفريق بينه وبين التقدم العلمي.
بعد نجاح العلمانية في فرض وجودها ورؤيتها في المجتمع الغربي؛ قامت بتوجيه المجتمع بما يخدم تلك الرؤية، وانصرفت كثيرٌ من الفئات عن العناية بالروح إلى العناية بالجسد فقط، وأغفلت الآخرة واهتمت بالدنيا، نسيت الخالق واهتمت بالمخلوق في صورته الحسية. ثم تطور الوضع العلماني مع التصور المادي الذي ساد في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فتحول ذلك النسيان إلى جحود وإلحاد صريح، ثم بدأت تلك الفئات في الاستدلال بكل دليل على أنه لا حياة ولا حقيقة إلا هذه المادة، وكان العلم أحد أهم ما يمكن استغلاله لإثبات صحة تلك الدعوى، ومن بين الأمثلة:
المثال الأول: إنسان بِلتْداون:
كانت التيارات المادية قد ادعت بأنها عالجت مشكلة الوجود المادي في ظل النظرية النيوتنية العلمية، فهم يدعون أن العلم قد أثبت أن الوجود المادي يعتمد على ذاته بقوانينه الخاصة في الحركة، ومن ثمّ لا حاجة لنا في البحث عن خالق ومدبر وحافظ لهذا الكون، وبالرغم من اصطدامهم بمشكلة حقيقية هي: كيف وجد هذا العالم! ومن وضع فيه القوة! فقد فسّر بعضهم ذلك بالتأليه السببي، ومفاده أن الله خلق العالم ثم تركه، إلا أنه كان تفسيرًا ناقصًا من أجل
الهروب من الحقيقة، وعندما وجده المتأخرون ملزمًا لهم بالاعتراف بالخالق سبحانه؛ فقد تغافلوا عن مثل هذا السؤال، واكتفوا بإعلان الإلحاد المطلق دون تقديم جواب للسؤال المهم.
عندها جابهتهم مشكلة أكثر تعقيدًا لتبقى حجة الله قائمة على كل ملحد، كانت المشكلة هي ظاهرة وجود الحياة في العالم المادي وظهور أعظم الكائنات الحية وهو الإنسان، حيث تمثل تحديًا للماديين الملحدين لا يمكنهم الجواب عنه إلا بالإقرار بوجود الرب سبحانه. بقي هذا الإشكال قائمًا إلى أن جاء "داروين" بنظريته في التطور، فالحياة كما يزعم خرجت من عالم المادة صدفة، ثم تطورت إلى أن تمثلت في صورة الإنسان، وفق قوانين تشابه قوانين نيوتن في عالمه المادي، فوجدها الملحدون فرصة للزعم بأن العالم المادي وعالم الحياة لا موجد لهما إلا المادة، وأن العلم كما دلّ على وجود العالم المادي باعتمادهم الفاسد على نظرية نيوتن، فكذلك العلم الطبيعي دلّ على وجود الحياة بالاعتماد الفاسد على نظرية داروين.
ومع أن الانحراف بنظرية نيوتن، أو استغلال نظرية التطور الدارونية في إثبات المادية وإنكار الربوبية والغيب والدين والروح هي صورة خبيثة من الانحراف بالعلم؛ إلا أن هناك أمثلة تفصيلية تدل إلى مدى ما يصل إليه الانحراف بالعلم، حيث كان التيار المادي مهمومًا بإثبات صحة هذه النظرية الدارونية لما تعنيه من زلزلة لكل الأديان والعقائد.
ومن بين أشهر الأمثلة لهذا الانحراف قصة أحد الأدلة المكذوبة للدفاع عن المادية التطورية وروحها الإلحادية، فمن أدلتهم على وجود التطور "إنسان بلتْداون" ليكشف لنا صورة شنيعة من صور الانحراف بالعلم، ففي سنة (1912 م) أعلن أحد علماء الحفريات اكتشافه لعظمة فك وجزء من جمجمة، وكانت عظمة الفك أشبه بفك القرد بينما كانت الأسنان والجمجمة أشبه بأسنان وجمجمة الإنسان، وسميت هذه العينة بـ "إنسان بلتْداون" نسبة إلى المكان الذي اكتشُفت فيه، وزعم أن عمرها خمسمئة ألف سنة، فأخذت شعبية كبيرة وعرضت في العديد من المتاحف بوصفها دليلًا قاطعًا على تطور الإنسان، "ولأكثر من أربعين سنة كُتب الكثير من المقالات العلمية عن "إنسان بلتداون"، كما أُعِدّت له العديد من التأويلات والرسوم، وقُدّمت الحفرية بوصفها دليلًا مهمًا على تطور الإنسان،
وكُتب ما لا يقل عن خمسمئة رسالة دكتوراه حول الموضوع"، ولقيت العينة اهتمامًا كبيرًا.
وفي سنة (1949 م) حاول أحد المختصين بالحفريات تجريب طريقة جديدة "اختبار الفلورين" لتحديد تاريخ الحفرية، فأجرى اختباره على العينة، وكانت النتيجة مذهلة، فقد اكتشف أن عظمة الفك لا تحتوي على الفلورين، مما يدل على أنها مدفونة في الأرض من بضع سنين، أما الجمجمة فقد احتوت على مقدار ضئيل من الفلورين التي تبين أن عمرها لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين. وتتابع البحث حولها، وتبين أن هناك عملية تزوير لتلك العينة، ففي سنة (1953 م)"تم الكشف للجمهور عن هذا التزوير؛ إذ كانت الجمجمة تخص إنسانًا عمره نحو خمسمئة سنة، في حين كانت عظمة الفك السفلى تخص قردًا مات مؤخرًا! وقد تم ترتيب الأسنان على نحو خاص في شكل صف، ثم أُضيفت إلى الفك وتم حشو المفاصل لكي يبدو الفك شبيهًا بفك الإنسان، وبعد ذلك تم تلطيخ كل هذه القطع بثاني كرومات البوتاسيوم لإكسابها مظهرًا عتيقًا، ثم بدأت هذه اللطخ بالاختفاء عند غمسها في الحمض"، وقد كان أحد أعضاء فريق كشف هذا التزييف يستغرب أن عملية التزييف كانت "واضحة جدًا لدرجة تجعل المرء يتساءل: كيف لم يتم الانتباه إليها من قبل؟! " وكأنهم تعاموا عنها، وفي أعقاب هذه الفضيحة تمّ إخراج العينة من المتحف البريطاني بعدما عرضت لمدّة تزيد على أربعين سنة (1).
هذا المثال عن الانحراف بالعلم له دلالاته العميقة، فهو يُظهر كيف يتعامى تيار عريض عن عملية التحقق، ويظهر كيف انصرف أعضاؤه مباشرة إلى استغلال شاهدٍ مزور واستثماره في إثبات النظرية، ومن ثمّ خدمة التصور المادي حول وجود الحياة، ويظهر حاجتهم ولو لأكذوبة ليعلقوا عليها رغباتهم، وكيف انصرفت حتى معاقل العلم الأساسية للعناية بهذا الكشف العظيم المزوّر، فكُتبت فيه المقالات المتخصصة، وأعدت حوله أطروحات علمية عليا، ثم تأتي اليد
(1) المثال منقول بتصرف بسيط عن كتاب: خديعة التطور، هارون يحيى ص 36 - 46، وفي الكتاب أمثلة كثيرة من هذا النوع يمكن الرجوع إليها، وانظر مثالًا آخر لعالم آخر:"إرنست هيكل" قام بتزوير آخر، فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 96.