الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضًا تسببت هذه الحالة في إهمال المؤسسات العلمية الإِسلامية لطلب العلوم الدنيوية بحجة وجود معاهد خاصة بها، وإهمال اقتراح الرؤى والتصورات حول العلاقة بين علوم الأمة وبين العلوم الجديدة الموجودة في تلك المعاهد، إن غياب الرؤية يتضح من كثرة التأكيدات التي نجدها عند متزعمي تدريس العلوم الجديدة مثل "الطهطاوي" و"خير الدين التونسي"(1) وغيرهما، فهم يكثرون من الأدلة والتوضيح وذكر التجارب الإِسلامية وتكرير أقوال علماء سابقين في كونها من فروض الكفايات وغير ذلك. وقد كان الأولى أن يقدم الأزهر مثل هذه الأمور، فتخرج مؤلفات ومواقف توضح الحق في الباب والتصور الإِسلامي في الموضوع، فذاك آنذاك هو فريضة الوقت، ومما يؤسف له أننا لا نجد من ذلك شيئًا مشهورًا، ورغم طول الفترة الزمنية فلم يخرج شيء حول هذا الموضوع من داخل الأزهر، لم تقدم الرؤية ولم يظهر تبنيه لبعض المشروعات حول التأصيل الإِسلامي للموقف من هذه العلوم وماذا نفعل مع هذه العلوم بعد أن حدث لها ما حدث داخل الحضارة الأوروبية الحديثة، ولم يناقش بجدية هل يمكن فتح أقسام خاصة داخل الأزهر لبحثها وإيجاد المتخصص الأزهري فيها؟ على الأقل في الجانب النظري منها، إذا كان أهله يعتذرون بعدم الإمكانيات في جانبها العملي.
ولم ينجح العطار والطهطاوي -وغيرهما- رغم كونهما من أهل الأزهر، ومن المتحمسين في الوقت نفسه للعلوم الموجودة في أوروبا، لم ينجحا في معالجة العلاقة بين الجديد والقديم، ولم ينجحا في إقناع الأزهر -المؤسسة العلمية الكبرى في العالم الإِسلامي- في تبني هذه العلوم والقيام على شأنها، أو على الأقل قيام الأزهر بوضع مخطط عام وتصور واضح حول موقف الأمة من هذه العلوم، كيف نأخذها؟ ولماذا نترك الأجانب يتولون تدريسها؟ ولماذا نتركها لهم ولأهل ملتهم ويتخلى المسلمون عن مهمتهم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
بوادر الاختلاف داخل الأزهر ومطلب التحديث:
بدأت معالم الاختلاف داخل الأزهر، ففي الربع الأخير من القرن الرابع
(1) انظر: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمَّد عمارة ص 375 وما بعدها، وانظر: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك. . . .، تحقيق ودراسة د. معن زيادة.
عشر/ النصف الثاني من التاسع عشر "كان بالأزهر يومئذ حزبان: شرعي محافظ. . وحزب صوفي أقل في محافظته من الشرعيين. . وحضر محمَّد عبده دروس كل من الحزبين، فسمع من الحزب الشرعي المحافظ دروس المشايخ: عليش، والرفاعي، والجيزاوي، والطرابلسي، والبحراوي. . ولكنه انتمى إلى الحزب الصوفي، وكان رائده الشيخ حسن رضوان. . . . وكان من هذا الحزب الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمَّد البسيوني"(1)، وسيتحول الأمر بحسب رأي "العقاد" إلى "صراع خفي بين طلاب الإصلاح المجددين وبين شيعة الجمود والتقليد من المحافظين على القديم"(2)، وسيظهر أن أهم أسباب هذا الصراع هو الموقف من علوم الأزهر من جهة، فهل هي كلها تستحق التقدير، والموقف من العلوم العصرية من جهة أخرى، لماذا تبقى بعيدة عن الأزهر.
لقد ابتعد النموذج الجديد الذي وضعه محمَّد علي عن أهدافه (3)، فذاك التعليم الموازي للأزهر والمعارض له أحيانًا قد انحرف مساره كثيرًا مع التحكم الأجنبي وتدخل أهواء السلطة، ومن أيام محمَّد علي إلى حفيده إسماعيل باشا وهناك طموح في إيجاد مجتمع على شاكلة المجتمعات الأوروبية، وظهرت بارزة عند إسماعيل في رغبته تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، ففتح الباب للأجانب من اليهود والنصارى بشكل لا مثيل له، وارتفع شأنهم، وتولوا من المناصب أعلاها، واستأثروا بإدارة التعليم وتوجيهه مستغلين طموحات الوالي في تغريب المجتمع (4). وبرغم ما حدث للتعليم مع الأجانب فلم يتحرك الأزهر الحركة المرجوة منه، بأن يتولى هو التعليم ويحاول سحبه منهم أو يوجد المشروع البديل، وربما لم يكن في مقدوره فعل ذلك وهو في الأصل واقع في مشكلاته الخاصة التي تُعطّل قيامه بالدور المطلوب.
سأعرض الآن شهادة لأحد من عاصر تلك المرحلة وعاش معاناتها وهو "أحمد تيمور باشا"، فيذكر معاناته بين المؤسستين، المؤسسة الأزهرية والمؤسسة
(1) الإِمام محمَّد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، د. محمَّد عمارة ص 27.
(2)
انظر: محمَّد عبده، عباس العقاد ص 134، وانظر: أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور ص 148 - 150.
(3)
انظر: واقعنا المعاصر، د. محمَّد قطب ص 208 وما بعدها.
(4)
انظر فقرة: المدارس والمدرس الأجنبي من هذا الفصل ص 588.
العصرية، فيقول:"فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين. وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس". مما يدلّ على نشاطها الذي يتجاوز تقديم العلوم والمعارف إلى هدمها العقائد والدين، ثم يقول:"إلا أني كنت مولعًا منذ الصغر بالإِسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء، وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها، وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم".
يعترف "تيمور" بأنه وإن تأثر بدراسته، إلا أن تربيته الخاصة وحبه للإسلام وجهده الذاتي حماه بفضل الله من الابتعاد عن الدين، ولكنه في المقابل يشاهد في مجتمعه مظاهر يزعم أصحابها أنها من الدين، وفي مثل هذا الوضع فالمرجع لتوضيح الأمر هو الأزهر الذي يقابل تلك المدرسة التي أثّرت فيه، وهذا هو الأصل أن يعالج تلك المظاهر السلبية في المجتمع، فيقول:"فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم، لعلي أجد عندهم مفرجًا، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين، فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وإما أن يكون ما نراه حقًا، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس"(1).
يكشف هذا الاعتراف عن عمق الأزمة التي عاشها بعض أبناء تلك المرحلة بين جهتين، جهة تشكك في العقيدة، وأخرى تحرص على الخزعبلات، ويقف الشاب حائرًا بينهما، وأبقاه حبه للإسلام داخل دائرة الدين وأوصلته الحيرة والتناقضات التي أمامه إلى حالة من اختلاط المفاهيم، إما أن الدين خزعبلات
(1) أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور باشا ص 100 - 101، وانظر: المقال المميز في مجلة "المنار" بعنوان: المدارس الوطنية في الديار المصرية 1/ 256 سنة (1316 هـ -1898 م)، وفيه يقول:(ومدارس الحكومة المصرية لا أثر فيها للصبغة الدينية، بل قيل: إن الوليد يدخلها بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله. . . .).
وربما هذا ما تحرص على زرعه المدارس الأخرى، وإما أن هذه الخزعبلات هي الدين فعلًا، ولكن الإلحاد المتسرب إلى النفس منع من الراحة إليها والاطمئنان بها. وإذا كان هذا الشاب الباحث عن الحقيقة والباذل لأسبابها قد وفق بأمثال الشيخ "حسن الطويل"(1250 - 1315 هـ) حيث كان من العلماء الذين خرجوا عن التقليد والتعصب وفتح قلبه وعقله للحق (1)، وعنه يقول تلميذه -ذاك الشاب المحتار-:"وكان رحمه الله سني العقيدة، صوفي المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذًا بمذهب الإِمام ابن تيمية بمسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكرًا على المبتدعة أشد إنكار. آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعًا من الحديث، متحصنًا بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات"، إلى أن قال:"ومع انحراف علماء الأزهر عنه؛ لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرّين بفضله، وكثيرًا ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها، والرد على الطاعنين عليها من أرباب النِّحَل الأخرى والمرتدين"(2). فعند هذا الشيخ -العالم بالشريعة العارف بالعلوم الرياضية والطبيعية والمطلع على الأفكار والفلسفات- وجد الشاب حاجته، وما يروي غليله، وما يعالج ما اعتلج بصدره من خواطر حول العلاقة بين المدرستين وأهلها وموضوعاتها. لم يتحرر حسن الطويل من كل أحمال تركة العصور المتأخرة، ورغم اتصاله وانتفاعه بتراث ابن تيمية فإنه بقي على صلة بالتصوف والكلام وبعض ما يُثقل السائر الثائر، وهذا مما يجعل مادته مهدئة لما ينتاب أنفس الشباب دون أن تكون العلاج الناجع.
بقيت أوضاع الأزهر على هذه الحال حتى جاء الزلزال الثاني لأرض مصر وهو الاحتلال البريطاني، حيث كان الأول مع الاحتلال الفرنسي وكان الثاني وهو الأطول مع الاحتلال البريطاني، وحسب كلام العقاد (3): فإن سلطات الاحتلال قد سحبت كل الإدارات من الباشا، وما أبقت له إلا المؤسسات الدينية
(1) انظر ترجمته في المرجع السابق: أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث ص 93.
(2)
المرجع السابق ص 98.
(3)
انظر كتابه: (محمَّد عبده) ص 134 - 135.
حتى لا تثير حساسية الناس ومنها الأزهر، بينما تصرفت في بقية الإدارات تحت دعوى إصلاحها وتحديثها وتطويرها، وعندما لم يجد الباشا إلا تلك الوسائل الدينية وحتى لا يكون متخلفًا عن دعوات التحديث، فقد أراد أن يمارس سلطته عليها، ولكنه أراد -مع من حوله- مدخلًا مناسبًا وحيلة يحتالون بها، فكانت هذه الواقعة المهمة:
تم الاتفاق "على استفتاء شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، في مسألة العلوم التي يجوز تدريسها في الجامع، ولا تعتبر العناية بها في أماكن العبادة مخالفةً للتقاليد الإِسلامية، وكلفوا عالمًا تونسيًا فاضلًا -هو الأستاذ محمَّد بيرم أشهر علماء جامع الزيتونة في عصره- أن يتوجه بهذا الاستفتاء إلى الشيخ محمَّد الإنبابي (1) شيخ الجامع يومذاك (1305 هـ -1887 م) فكتب إليه بعد تمهيد وجيز:
". . ما قولكم رضي الله عنكم: هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية، مثل: الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات، وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لاسيّما ما ينبني عليه منها في زيادة القوة في الأمة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟ بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى أن يكون واجبًا وجوبًا كفائيًا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإِمام حجة الإِسلام الغزالي في إحياء العلوم ونقله علماء الحنفية أيضًا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر والزيتونة والقرويين. . أفيدوا الجواب لا زلتم مقصدًا لأولي الألباب"" (2).
وقعت هذه الفتوى بعد ما يقرب من قرن ونصف من الحادثة المشهورة التي وقعت بين الوالي المحب لعلم الرياضيات وبين شيخ الأزهر، وسبق فيها إقرار
(1) بحسب دراسة أزهرية حديثة بأنه كان من آثار الأفغاني والكواكبي وعبده يقظة في الفكر المصري (وكان من صدى ذلك التمهيد لإصلاح التأخر العلمي في عهد شيخه الرافض للتجديد -الشيخ الإنبابي- بحيلة وهي: إرسال استفتاء. . . .)، انظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلي ص 36.
(2)
محمَّد عبده، عباس العقاد ص 135 - 136.
شيخ الأزهر بكلام الغزالي والأعذار التي قدمها، ولكن هاهي السنين تمضي ومع ذلك لم تعالج المشكلة، ويبقى السؤال يتكرر، إما للجهل بالحكم أو للتعجب من عدم بذل المطلوب في تحقيق فروض الكفايات -لا بمعنى وجود من يعلمها وإنما وجود ثمرتها في الأمة، فالنقص حاصل والحاجة ملحّة ومع ذلك لم يقم الأزهر بدوره المطلوب- مما يجعل السؤال يتكرر والفتوى تتكرر، ومع ذلك فالحال كما هي عليه في الوقت الذي غزتنا فيه المدارس الأجنبية والتعليم الأجنبي ثم احتلنا الأجنبي ذاته، والمعالجة لا تتجاوز تكرير الفتوى دون عمل واقعي يصدقها، فلننظر إلى الجواب:
ذكر "العقاد" بأن الشيخ الأنبابي كان يعلم مصدر الاستفتاء، فلم يهمله كما أشار عليه بعض أعوانه، وكتب في جوابه ما يأتي:". . . . يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة، والجغرافيا؛ لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبًا كفائيًا، كما يجب علم الطب لذلك -كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء- وأن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة في القدر الواجب، فتعلمه فضيلة"، إلى هنا الفتوى عما لا يتعرض منها للدين، ثم جاء الكلام عما له تعرض بالدين، وهما "علم الهيئة والطبيعيات"، فقال الشيخ:"ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وسيرها علم التنجيم، المسمى بعلم أحكام النجوم -وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية- فإنه حرام كما قال الغزالي، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب، والتعرض للأخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطئ لخفاء بعض الشروط". ففرق الشيخ بين نوعين في علم الهيئة: نوع يدخل في الدراسات الطبيعية العلمية وآخر له صلة بالأمور الدينية، ولاسيّما مسألة الغيب، والملاحظ هنا أنه ينقل تصوره عن هذا العلم كما كان معهودًا في القرن الخامس الهجري.
ثم انتقل في فتواه إلى العلم الثاني المُشْكل وهو الطبيعيات، فقال: "وأما الطبيعيات -وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم- فإن كان ذلك البحث عن طريق أهل الشرع فلا مانع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن
حجر الهيتمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتشرة، بل لها حينئذٍ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام؛ لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع كما أفاده العلامة المذكور.
نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكرنا، قياسًا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة، ثانيها: الجواز مطلقًا، ونسبه الملوي في شرح السلم للجمهور، وثالثها: المنع مطلقًا، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي. قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثير من العلماء. . . ."، إلى آخر الفتوى (1).
اعتمد الشيخ في فتواه في باب الطبيعيات على عَلَم من علماء المسلمين في القرن العاشر، ولا شك أن الهيئة التي يتكلم عليها الغزالي في القرن الخامس أو الطبيعيات التي يتكلم عليها ابن حجر الهيتمي (2) في القرن العاشر قد تغيرت كثيرًا عمّا هو معهود في عصريهما، ومن الواضح أن التصور السائد عنها أنها علوم نظرية، والنافع منها محدود، بينما هي في حقيقتها وبعد التحولات الكبيرة التي عصفت بها قد أصبح لها فوائدها العملية وأصبحت عصب الحياة المادية، كما أن الإشكال يبقى قائمًا، فإذا كانت الطبيعيات مثار الجدل رغم أهميتها فلِمَ لم يتبن الأزهر أو غيره من المؤسسات العلمية الإِسلامية مثل هذه العلوم بحيث تكون تحت مظلته، فيؤخذ نافعها وتصفى من الملحقات المضرّة بها، أو يتبنى مشروع تصفيتها؟!
إن ظهور هذه الفتوى المفصلة في وقت متأخر مع النقص الحاصل فيها، ليدل على أن الأزهر -فضلًا عن بقية معاهد المسلمين- قد سوّف كثيرًا في إخراج رؤية كاملة نابعة عن تشاور بين العلماء وتمحيص للموقف ودراسة متأنية للقضية، ثم تخرج تلك الرؤية بحيث تقطع الاضطراب، فإذا كانت المحاولات
(1) الفتوى عرضها العقاد في كتابه: (محمَّد عبده) ص 136 - 137.
(2)
هو أحمد بن محمَّد بن حجر الهيتمي المصري (909 - 974 هـ)(1504 - 1567 م)، تلقى العلم في الأزهر، ومات بمكة، وله تصانيف كثيرة. انظر: الأعلام، خير الدين الزركلي 1/ 234.
في إعادة الاهتمام بالعلوم الدنيوية تعود لعشرات السنين، ومعاهد الأجانب تغزو بلاد المسلمين، وتجتذب أبناءهم، ومع ذلك لم يُحسم الأمر إلى تلك المرحلة، بل دخلنا القرن الرابع عشر -إذْ كانت الفتوى المشهورة سنة (1305 هـ) والحال على ما هي عليه. وقد فتح هذا التأخر والتسويف المجال لغيرنا، فملؤوا الفراغ بما يريدون حتى إذا جئنا بعد ذلك احتجنا إلى سنين لإزالة الترسبات الفاسدة المرتبطة بالعلوم العصرية.
بعد أسبوعين من فتوى شيخ الأزهر صدرت الموافقة عليها من مفتي الديار المصرية، فقال:"إن ما أفاده حضرة الأستاذ شيخ الإِسلام موافق لمذهبنا، وما استظهره من أن الخلاف البخاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضًا وجيه، والله سبحانه وتعالى أعلم"(1).
نلاحظ ذاك التخوف في الخطاب الأزهري، فهو لم ينجح في تجاوز عقبة الخوف، وهي عقدة ترجع أحيانًا إلى الجهل بالشيء، ويتضح هنا في أن الحكم على هذه العلوم يستند إلى رؤية عرضها الغزالي رحمه الله في القرن الخامس، وما جاء بعده مما يعتمد عليه الأزهر هو فتاوى تعتمد أساسًا على مشروع الغزالي الذي ذكره في "إحياء علوم الدين" و"مقاصد الفلاسفة" و"المنقذ من الضلال" وغيرها. ولكن موقف الغزالي ومشروعه يتعلق بما عاصره وعرفه من علوم وأفكار وفلسفات، بينما هي قد تغيرت كثيرًا في القرون الأخيرة، وأصبح للعلوم الطبيعية والرياضية شأن مختلف في حياة الأمم، وتحول جزء كبير منها إلى محيط العلم وتخففت من الأبعاد الفلسفية في التطبيقات المباشرة، وما يتصل بالجانب الأيديولوجي والثقافي المصاحب لتلك العلوم فهو مما يتجاوز الجانب التطبيقي منها، وهنا كان من المهم لمؤسسات المسلمين العلمية الأخذ بزمام المبادرة لمعالجته، فَتُحقق الفرض الكفائي الذي تنص عليه فتاوى علماء تلك المؤسسات بأن يتم تحصيل تلك العلوم تحت إشرافها ويتم تطويرها في محيط ثقافي يختلف عن الأوروبي الذي تطورت فيه.
(1) محمَّد عبده، عباس العقاد ص 137، وانظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلي ص 36، وهو حنفي المذهب بينما شيخ الأزهر كان شافعيًا.