الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث
أولًا: ما الاتجاه العصراني
؟
تواجهنا مشكلة التعريف لهذا الاتجاه، والاسم الذي سيُطلق عليه، فإن قلت باستخدام مصطلح "العصراني" أو "العقلاني" فهما من صفات المدح التي تناسب أكثر من اتجاه ومع ذلك فهما من أكثر المصطلحات إطلاقًا على هذا الاتجاه. وكذا إطلاق مصطلح الاتجاه الإصلاحي أو التجديدي أو التحديثي، والأولان أقرب إلى بيئتنا الثقافية بخلاف الثالث فهو متصل بالفكر الحديث ولاسيّما الغربي، وجميعها مصطلحات تتشبع بالمدح والثناء على هذا الاتجاه مع أنها تُناسب في الوقت نفسه غيرهم. يظهر هنا خداع المصطلحات وصعوبة إطلاقها على اتجاه بعينه، ومن زمن وأنا أتأمل في مشكلة تسمية هذا الاتجاه وغيره، فلا يوجد مصطلح محايد وموضوعي، كما أنه لا يوجد تيار إلا ويبحث عن أفضل الأسماء للتعبير عن ذاته، وهذا الاتجاه بالذات يكتسب تعريفه وتسميته صعوبة بسبب تنوع أطيافه واختلاف نشاطاتهم، ولم أقتنع بكثير من
التسميات التي أطلقت على هذا التيار المشهور داخل العالم الإسلامي.
إذا رجعت إلى موضوعي وهو العلاقة بالعلم الحديث: فإن أقرب التسميات المناسبة لهذا الاتجاه حول علاقته بهذا العلم هي الاتجاه التوفيقي أو العصراني، فإذا كان الاتجاه السلفي قد يتميز بدعوته الإصلاحية وقطبها العودة إلى الدين بصفائه ونقائه، فإن من بين أهم ما ميّز الاتجاه التوفيقي هو إثبات عدم وجود مشكلة بين الدين والعلم، ومن أهم شخصيات هذا الاتجاه الشيخ "محمَّد عبده" الذي كتب في آخر حياته عن مشروعه الذي سعى إليه، فقال:"ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة ضمن موازين العقل البشري. . . . وأنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عنها في أدب النفس وإصلاح العمل. كل هذا أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومن هو في ناصيتهم"(1). يظهر في منهجه أهمية إخراج صورة للدين تجعله صديقًا للعلم، صحيح أن سياق النص يفيد بأننا إذا فهمنا الدين على طريقة السلف فإنه سيكون صديقًا للحقيقة ولا يتعارض معها، ويبقى الغامض في السياق مراده بـ"ضمن موازين العقل البشري"؛ فهو يحتمل أكثر من وجه، وإن كانت تطبيقات الشيخ ستزيل كثيرًا من غموضه. وإذا كان الاتجاه السلفي قد اهتم بصفاء الدين دون حبسه في إطار خارج عنه مثل العقل أو العلم، وإن كان يتفق مع فكرة الشيخ محمَّد عبده بأن الدين الحق هو صديق للحق في العقل أو العلم، ولكنه يختلف معه في جعله العلم أو العقل هو المحدد لما يقبل من الدين أو لا يقبل.
فبسبب الحضور الطاغي للفكر الغربي والعلم الحديث في مشروع الشيخ محمَّد عبده وأتباعه من بعده أمكن تفضيل إطلاق مصطلحي: "التوفيقي" أو
(1) الإِمام محمَّد عبده. مجدد الدنيا بتجديد الدين، د. محمَّد عمارة ص 181 عن تاريخ الأستاذ الإِمام، محمَّد رشيد رضا 1/ 11 - 12، وانظره في مجلة المنار، ملخص سيرة الأستاذ الإِمام (مذهبه وطريقته في الإصلاح)، مجلد 8، جزء 23 ص 881، عدد ذي الحجة، سنة (1323 هـ)، وانظر: عند أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 327.
"العصراني" على هذا الاتجاه، فهو لم يواجه مشكلات موروثة وإنما مشكلات معاصرة، فمجتمعه قد عرف غزوًا كبيرًا جديدًا لم يكن معهودًا، ولاسيّما في ميدان العلوم والأفكار، فجاءت محاولتهم للتعامل معها، وبما أنها مشكلات عصرية جديدة كان من المناسب تسمية أصحاب هذا الاتجاه بـ"الاتجاه العصراني". وحقيقته هو محاولة التوفيق بين الدين والصحيح من الأفكار والعلوم الجديدة، والعمل التوفيقي عمل مشروع بضوابطه وشروطه، والخطورة عندما يتحول إلى عمل تلفيقي أو إلى عسف لصالح الأدنى. وهو منهج لا يُستغرب ظهوره في مثل هذه الحالات، فالمجتمع يعج بالأفكار والعلوم الجديدة التي تتعارض ظاهرًا أو حقيقة مع صورة الدين في ذاك المجتمع، وهي صورة دينية يغلب عليها التصور "الصوفي / الكلامي"، وإنما المهم سلامة شروطه وأركانه وتطبيقاته (1).
وبقدر ما يكون وجود هذا المنهج أمرًا يتوقعه الذهن لمعالجة هذه الحالة، فهو أحد المناهج المهيأة للخروج في مثل هذه الأجواء الثقافية والفكرية، ومع ذلك فهناك حالات مشابهة كانت قد سبقت في الظهور في الهند وفي عاصمة الخلافة العثمانية. كما أن هناك حالات أخرى قد سبق ظهورها في أوروبا مع الديانتين الأشهر هناك "اليهودية - النصرانية"، حيث سبق لأتباع تلك الديانتين الاصطدام بالمستجدات الفكرية والعلمية. بدأ الأمر بالرفض من قبل الكنيسة بل إقامتها حربًا شديدة على المفكرين والعلماء الجدد، ثم ضعف موقف الرفض الديني لأنه كان يحمل الخطأ والانحراف والضعف في بنيته، فجاء تيار آخر معارض فرض نفسه بقوة، وهو التيار العصراني، الذي يراعي في المقام الأول التوفيق بين الدين اليهودي أو النصراني مع العلم الحديث (2).
من بين التعريفات لها، أنها:"حركة فكرية واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى" داخل اليهودية وداخل النصرانية، وداخل الإِسلام أيضًا، وعرفت في الفكر الغربي باسم العصرانية " modernism". وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى هذا العصر، ولكنها مصطلح خاص -إذ تعني العصرانية في الدين:
(1) انظر. مبحث دعوى التعارض من الباب الثالث من هذا البحث، فهناك مزيد دراسة.
(2)
انظر: الدراسة المميزة حول الموضوع لبسطامي محمَّد سعيد، مفهوم تجديد الدين.
أي: وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة" (1). يكشف التعريف بثقل المعارف الجديدة على فكر هؤلاء لدرجة أن جعلوها الأصل، ومن ثمّ القيام بتأويل ما يعارضها من الدين، ومع أنه من المتفق عليه أن المعارف تقبل التغيّر وأن الدين في أخباره وأصوله العامة لا يقبل التغير؛ إلا أنهم جعلوا الدين بمثابة المتغير الذي يمكن تعديله ما بين فترة وأخرى.
يعطينا هذا التعريف الإطار العام لحقيقة هذا الاتجاه وهو في الوقت نفسه يحيلنا لمشكلته المنهجية، والمتأمل في أفراده لا يجدهم سواء، فمنهم من يبالغ في التأويل ومنهم من يتحفظ ولا يتسرع، ومع ذلك فالإطار العام يحويهم جميعًا، فهم قد جعلوا من صلب مشروعهم إيضاح العلاقة بين الدين والعلم.
فسنجد صورة من الغلو تكاد تذهب بالدين كله كما هي الحال مع تجربة الاتجاه (التوفيقي - العصراني) الهندي، بخلاف الحال في الجزء العربي من العالم الإِسلامي، ولاسيّما مع الشيخين "جمال الدين الأفغاني" و"محمَّد عبده"، حيث كانا في هذا الباب بالذات أكثر اعتدالًا مما وقع لأهل التجربة الهندية، إلا أن المتأثرين بالشيخين انقسموا إلى قسمين:
فمنهم قسم: حافظ على الاعتدال ولاسيّما من تأثر منهم بكتب شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-، فمع احترامهم للشيخ محمَّد عبده وتقديرهم لمكانته وجهوده؛ إلا أنهم خالفوه في منهجه وكثير من مواقفه وتطبيقاته، وهم أعلام كثر في مصر والشام والعراق وبلاد المغرب وغيرها، ومن هذه الطائفة من حافظ على الصلة بالمنهج (الصوفي/ الأشعري) وظلّ وفيًا لمنهج الشيخ محمَّد عبده وهم مجموعة من فضلاء الأزهر.
أما القسم الثاني: فهم الذين جرفتهم تيارات التغريب والعلمنة إلى صفوفها، وصرفتهم إلى قضاياها، ووجهت جهدهم ونشاطهم في خدمة أهدافها،
(1) انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، محمَّد الناصر ص 186، وانظر: المورد، منير البعلبكي ص 586، وقد ساد في الكتابات المعاصرة إضافة (الألف والنون) آخر الكلمة لتسمية الاتجاه.