الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن وقفتنا تركز أكثر ما تركز على ما جلبته الحملة من العلوم الحديثة إلى العالم الإِسلامي، فهل كان لذلك أثر إيجابي أم سلبي؟ مع العلم بأن ما جلبه المستعمر من نظامه التعليمي بعلومه الحديثة سيناقش من جهة الآثار في الفصل القادم، لوجود ظاهرة استعمارية خطيرة عصفت بالمسلمين، بما في ذلك ما أدارته من تعليم استمر في بعض بلاد المسلمين لأكثر من قرن ونصف.
الحملة العلمية المصاحبة لجيش بونابرت ومجمعها العلمي:
وقعت الثورة الفرنسية التي حولت فرنسا لدولة علمانية سنة (1789 م)، وبعدها بسنوات قليلة قررت فرنسا احتلال مصر، فجهزت جيشها ورسمت خطتها وشنت غارتها، ووقع ذلك سنة (1798 م)(1)، وكانت الحملة تختلف عن حروب فرنسا مع جيرانها في أوروبا واحتلالها لأجزاء منها، فهي حملة معلمنة من جهة، وفي الوقت نفسه يوجد فيها مجموعة من العلماء على خلاف الحملات الصليبية القديمة التي يصحبهم فيها رجال دينهم (2) لعمليات التنصير، وإذا كان غياب الدين ولو ظاهرًا من الحملة مفسرًا بسبب الانتشاء العلماني مع الثورة الفرنسية العلمانية؛ فإن استبدالهم رجال الدين بالبعثة العلمية أو بفريق العلماء المتخصصين في العلوم الحديثة هو الغريب في الحملة، وسبب الغرابة أنها أول مغامرة لهم داخل البلاد الإِسلامية، والعادة جلب قيادات إدارية وسياسية وكذا طبية وخدمات لا علماء، على الأقلّ حتى يستقرّ الوضع لمجيء العلماء.
والذي يظهر أن هذه المغامرة قد دُرست جيدًا وخطط لها كثيرًا (3)، وأن
(1) انظر: التاريخ المعاصر -أوروبا من الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية، د. عبد العزيز نوار وصاحبه، حول الثورة الفرنسية: ص 17 - 70، واحتلال مصر: ص 77 - 80.
(2)
كان "بونابرت" ذا نزعة علمانية، ويميل إلى موقف مفكري التنوير من الدين، ولكنه بسبب وضعه السياسي كان ميكافيليًا نحو الدين، فأظهر في خطابه للمسلمين في مصر أنه مسلم في نوع من الاستخفاف بوعي المسلمين، وتصالح مع الكنيسة عندما نُصب قائدًا لفرنسا، وربما يفسر هذا سماحه بوجود قس واحد ضمن الحملة. انظر: بونابرت في مصر ص 181، ج. كرستوفر هيرولد ترجمة فؤاد أندراوس، مراجعة د. محمَّد أنيس.
(3)
أقامت الجمعية اللبنانية للدراسات والبحوث التاريخية مؤتمرًا بعنوان (حملة بونابرت =
هناك عملًا مُلحًّا ينبغي الابتداء به منذ أول الوصول، واستغلال الوقت قبل تغير الأوضاع، وهو احتمال وارد تؤكده مجريات الأحداث، ويحرص بعض التغريبيين على وصف هؤلاء العلماء بأنهم أصحاب رسالة علمية إنسانية وإن كانوا ضمن حملة عسكرية -وكأن لسان مقاله أنه لا ذنب لهم، فما وجدوا فرصة للوصول إلا بهذه الطريقة- وهذا يدفعنا إلى الوقوف مع الحملة العلمية.
يذكر باحث فرنسي بعض أسرار هذه البعثة العلمية وعلاقتها بأحلام "بونابرت"، فقد كان بونابرت يحلم بصنع إمبراطورية في مصر، فإن لم؛ فلا أقلّ من مستعمرة ذهبية لفرنسا، ولتحقيق هذا الهدف فلم تكن اللجنة العلمية أقل أهمية من الجيش (1)، فالحلم الأكبر أو الأصغر يحتاج إلى علماء لتحقيق هدفه.
أنشأ بونابرت لهذه المجموعة العلمية "المجمع العلمي المصري"، وجعله على غرار "المجمع العلمي الفرنسي، واختار لهم أفضل الأماكن عنوة من أهلها، واغتصب للعلماء أفضل المنازل، حتى إن أحدهم قال: "إن بيوتنا تتيح لنا راحة أكثر مما تجده في اللوفر (2)، وترفًا يعادل على الأقل ترف اللوفر"، وكوّنوا مجتمعًا علميًا مصغرًا من مكتبة ومختبرات وكل ما يخدم عملهم.
قُسم المجمع إلى أربع شعب (3)، الأولى: شعبة الرياضيات؛ وكان فيها مع
= على مصر وبلاد الشام: بداية استعمار أم بداية نهضة) سنة (1998 م)، وذلك بمناسبة مرور مائتي سنة على تلك الحملة، شارك فيها جامعات عربية وغربية وهيئات دولية، وقد أوضحت بعض الأوراق حلم "بونابرت" في إقامة إمبراطورية تخلف الدولة العثمانية، وأنه قد خطط لها كثيرًا ودرست جيدًا، ولكن فشلت كل تلك المشروعات. انظر عرضًا لأوراق هذا المؤتمر، مجلة الكلمة (تقارير ومتابعات)، عدد 22، السنة السادسة شتاء (1999 م - 1420 هـ).
(1)
انظر: بونابرت في مصر، كرستوفر. . ص 188.
(2)
المرجع السابق ص 182.
(3)
لمزيد من معرفة تاريخه يمكن الرجوع لموقعه على الشبكة بعنوان: (L، Instiut d،Egypte)، وفيه أن المجمع توقف بعد خروج الفرنسيين (1801 م) لأكثر من ثمانية وخمسين عامًا، ثم وقعت جهود من إنشاء جمعيات مهدت لعودة المجمع منها: جهود قنصل بريطانيا الذي أسس سنة (1836 م)(الجمعية المصرية)، وتضم فرنسيين وألمانا وأكثرهم إنجليز. وفي (1842 م) بتعاون بين الإنجليزي "هنري" والفرنسي "بريس"؛ أقيمت (الجمعية الأدبية الفرنسية). وفي سنة (1859 م) افتتح (المجمع العلمي) في الإسكندرية بدعم "محمَّد علي" وكذا "جومار" (وهو أحد أعضاء المجمع أيام حملة بونابرت، ثم المشرف على المبتعثين =
الرياضيين الفلكي والمهندس البحري، والثانية: شعبة الطبيعة؛ وكان فيها مع علماء الطبيعة الجراح والحشري والكيميائي والنباتي والمهندس، والثالثة: شعبة الاقتصاد السياسي، والرابعة: شعبة الآداب والفنون؛ وفيها الشاعر واللغوي والملحن والمعماري والرسام، والقسيس (1)، فتكشف هذه الشعب والتخصصات والمتخصصين بأن حلمهم كان كبيرًا، وأن البقاء كان يراد له أن يكون طويلًا، وأن "بونابرت" يحلم بما يخلد حملته، "ومصر تصلح معملًا تجريبيًا لتحقيق هذه الغايات". وهذه التخصصات المتنوعة تساعده في "ارتياد كل جانب من جوانب هذا البلد الأسطوري"، وكان أصرح من عبر عن أهم أهداف المجمع هو رئيسه "مونج" حول تهيئة مصر للاستعمار وليس المقصود نهضتها، فقد كتب لزوجته "أنه لو استوطن مصر 20،000 أسرة فرنسية ليشتغل أفرادها بالمشروعات التجارية والمؤسسات الصناعية. . . . إلخ؛ لغدا هذا البلد أجمل مستعمراتنا وألمعها وأفضلها موقعًا"(2)، وقارن كلام رئيس المجمع بكلام جرجي زيدان عنهم حيث قال:"وكان في جملة تلك الحملة جماعة من العلماء الذين اشتهروا في العلم، ولا تزال أسماؤهم مشهورة في سائر أنحاء العالم، جاء بهم بونابرت إتمامًا لمعدات الاستعمار ظنًا منه بطول مكثه واستعماره الديار المصرية. وقد بحثت هذه الجمعية في الآثار المصرية وتربة البلاد وحللوها ودرسوا طبائع الحيوان والنبات فيها"، ثم أعقبه بقوله:"وكان في عزمهم أن ينشروا لواء العلم بين أهلها لو لم تفاجئهم طوارئ الحدثان بالانسحاب إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات. . . ."(3)، ومثل هذه الدعوى تكرر دائمًا بما ظاهره تبرئة العلماء من كونهم عملاء لا علماء؛ لذا نجد بعضهم يقبل بسبب مهارته في الرياضيات أن يعمل جابيًا للأموال التي تؤخذ من أثرياء مصر والمماليك وغيرهم دون حق (4).
وإن منهم من تفرغ لخدمة الصناعة الحربية وتقديم ما يساعد الجيش في
= من مصر إلى فرنسا)، وأدخل فيه بعض المسلمين، وفي سنة (1880 م) نقل إلى القاهرة.
(1)
انظر: بونابرت في مصر، كرستوفر. . ص 181.
(2)
المرجع السابق ص 179، وقد تحقق لهم شيء من ذلك في استعمارهم اللاحق بداية بالجزائر وما بعدها من بلاد.
(3)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر 2/ 8.
(4)
انظر: بونابرت في مصر ص 177.
حربه على المسلمين؛ أي: أنهم يصنعون للجيش آلات الموت والتدمير، ومع ذلك تغفله تلك المراجع التغريبية بخلاف بعض بني جنسهم، حيث وصف فعل هؤلاء العلماء "كرستوفر" بـ "الحمير العلميين" للجيش الفرنسي (1).
هكذا ظهر المجمع أنه لخدمة الحملة لا لخدمة المسلمين، فلماذا لا تصرح تلك الكتابات التغريبية بأن هذه البعثة العلمية، ما كانت إلا أداة في يد الاستعمار إن لم يكونوا من رواد الاستعمار، وحتى إنجازهم الذي تتسابق بمدحه أقلامهم وهو كتاب:"وصف مصر" بأجزائه العشرة من النصوص وأربعة عشر مجلدًا من اللوحات في ثلاثة أعوام، فإن مثل هذا الكتاب الذي ظهر في فترة ازدهار الاستشراق الاستعماري يجعله موطن اشتباه، هل هو دراسة علمية خالصة لوجه العلم، أو هو كتاب يفحص تلك المستعمرة المأمولة لمعرفة جوانب القوة والضعف فيها؟! لابد في هذا المقام أن نفرق بين نوعين من الأثر، نوع يركز عليه دعاة التغريب وكثير من كتاب نصارى العرب: وهو أن الحملة كانت خيرًا على هذه الأمة، وأنها قصدت نفعنا، وأنها أيقظتنا بما فرضته علينا من منافع ودراستنا من علوم وأفكار، فهذا النوع هو من تعاطف القوم مع بني جنسهم، أو مع من هم على هواهم وشاكلتهم (2)، وإلا فالاستعمار ما كان هدفه يومًا إنقاذ أمة وترقيتها.
وأما النوع الآخر من الأثر: فهو صدمة المسلمين بجرأة بلد كافر يُقْدِم على احتلالهم؛ ثم يجدون عدّتهم المادية في مواجهته ضعيفة، ويجدونه قد تقدم ماديًا في قوته العسكرية والصناعية والدنيوية، وأنّ خلْف هذا التقدم أسبابًا بذلوها ترجع في أغلبها إلى الاستثمار للعلوم الرياضية والطبيعية، هذه الصدمة ورؤية حال القوم المحتلين لبلادهم أيقظت في الأمة جوانب التحدي والقوة، وهذه حال الأمم القوية وإن هزمت في معارك عسكرية؛ فإنها لا تستسلم بسهولة، بل تحاول تصحيح وضعها، أما الأمم الضعيفة فإنها تسحق أو تتلاشى في أحشاء الغالب.
(1) انظر: المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(2)
ككلام "جرجي زيدان" السابق، ومثله محاولات التشويه لحقائق التاريخ في كتاب "لويس عوض" تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة المصرية إلى عصر إسماعيل، وممن كشف زيفها الدكتور محمَّد كشك في كتابه:(ودخل الخيل الأزهر).