الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يميز هذا المعبر هو انفتاحه على الجميع، فالجميع يطالع الصحافة ويقرأ ما فيها، ويزيد من شعبيتها وعمق تأثيرها أنها الوحيدة في الساحة، ولكن الخطير فيها أن أصحابها هم من الفئة النصرانية المصنوعة في مدارس الإرساليات الغربية للتأثير من الداخل في الأمة الإسلامية، وربما كان سبب قوتها واستمرارها الطويل هو ما تتلقاه من دعم غربي، ودعم مالي وسياسي، ودعم معنوي من خلال إمدادها بالمعلومات والمعارف والأفكار.
الصورة الخامسة: المنتدبون من العالم الإسلامي إلى أوروبا لتحصيل العلوم العصرية ودخول جامعاتها ومعاهدها والنظر فيها والتعرف عليها، ليُطلع العالم الإسلامي عند العودة على ما حصّله، وقد كان هؤلاء المندوبون إما دبلوماسيين أو رحالة أو -وهو الأهم- طلابًا مبتعثين لتحصيل تلك العلوم، وهم بقدر ما نجحوا في إطلاع المجتمع على أن هذه العلوم قد حدث لها تطوير كبير في أوروبا بعد أن أهملها المسلمون، ولكنهم لم ينجحوا في تكوين نواة علمية إسلامية تسهم في استقلالنا المعرفي.
كانت هذه المعابر هي صور تعرفنا -أو إعادة اهتمامنا- بالعلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية، ولكن هذه المعابر قد نشأت في ظروف غير طبيعية للمسلمين، لاسيّما مع ما أسلفنا من الحديث عن الابتداع في الدين والضعف الدنيوي وعدم الانطلاق من نقطة صحيحة، فقد وقع من تلك المعابر آثار خطيرة على الأمة الإِسلامية، حيث اكتسب كل معبر من ظروفه المحيطة به ما يعكر مساره -لاسيّما في ظل غياب الإصلاح الديني- وتحولَ إلى طريق يسمح بتسرب الانحرافات في أثناء طلب النافع من العلوم العصرية.
يمكن إهمال الحديث عن تلك المعابر بعد أن تجاوزنا تاريخيًا تلك المرحلة لولا أن هذه المعابر ما زالت تواصل دورها إلى الآن وبالإشكالات نفسها، وفيما يظهر للمتأمل في حال أمتنا أن ذلك باق إلى سنين قادمة، مما يعني أهمية تحليل تلك المعابر ومراجعة حقيقة دورها في تعريفنا بعلوم العصر، وكيف نستطع عبر الاستفادة من التاريخ إصلاح الوضع الحالي من جهة ونقد الصور التغريبية أو السلبية من جهة أخرى.
2 - تاريخ دخول النظريات العلمية ذات الإشكالات للعالم الإسلامي:
أول ما كان يصل المجتمع من النظريات العلمية هو من العموميات، مع
العلم أنه حتى داخل أوروبا لم يصل انتشار التعليم فيها درجةً تحقق استيعاب المجتمع لها، ومن هنا استمرّ الصراع داخل فرنسا إلى نهايات القرن التاسع عشر، والحال أعقد داخل العالم الإسلامي، فالمحيطون بشيء من هذه العلوم قلّة بل إن أهل العلم الشرعي قلّة فكيف بغيره من العلوم؟! لذا كانت تثار مثل هذه القضايا دون أن يكون هناك واقع ثقافي حقيقي لفهمها والتعامل الحسن معها، وهذا ما سمح بتضخيم القضايا دون أن تكون عن علم يقيني بالشرع والعلوم العصرية.
وصلت أشياء كثيرة من قضايا العلوم العصرية، وهناك قصص كثيرة تدار حول موقف علماء الدين منها، ووصفهم لكثير من المخترعات أنها من السحر وعمل الشياطين، ويصرّ التيار التغريبي على إظهارها وكأنها تمثل موقف علماء الشرع، والحقيقة أنها كانت تمثل مواقف فردية لبعض من تدين مع جهل بالعلم الشرعي، وأمرهم مشهور في تاريخ المسلمين، وربما تكون لهم شهرة وأتباع ولكنهم لا يُحسبون على علماء الشريعة، ومن ذلك مثلًا ما يتكرر في كتابات تغريبية عن تحريم وسائل الاتصال الحديثة وغيرها من قبل بعض علماء الدين، فإذا جاء الباحث لينظر من هم علماء الدين فلا يجد عالمًا، وإنما قد يجد أحد شيوخ الصوفية أو بعض المقلدين المتعصبين دون فقه حقيقي في الدين؛ ولكن أهل التغريب يصرّون على إظهار ذلك على أنه موقف علماء الشريعة، بينما هي حالات فردية لغير المحسوبين على العلم الشرعي، وما عرف عن عالم حقيقي في الشرع مثل هذه المزاعم (1).
فلنترك الأمور الصناعية التقنية وما يدار حولها، مع أن الكثير منها دخل إلى العالم الإسلامي في وقت متأخر، ولننتقل إلى النظريات العلمية التي كانت أسبق في الحضور، كما أن ما تثيره من مشاكل أوضح؛ لكونها تحمل في طياتها رؤى فلسفية وثقافية تختلط بالجانب العلمي منها، وهذا ما يجعلها مثار إشكال، ومن ثمّ لا يستغرب أن نجد من يحترز منها أو يحتاط في موقفه منها، فهذا هو عين العلم والعقل في مثل هذه الأبواب بخلاف من ظنّ أن العلم هو في تقليد كل ما جاء من الغرب بحجة انتسابه للعلم.
(1) ستأتي مناقشة ذلك بإذن الله في الفصل الخامس في المبحث الأول منه.
قد يكون هناك مسائل كثيرة اطّلع عليها المسلمون في القرن الثالث عشر، إلا أن أهم ما اطلع عليه المسلمون من نظريات مؤثرة في الوسط الاجتماعي -وإلى الآن آثارها قائمة- نظريتان، هما:"نظرية الفلك، ونظرية التطور"، وسنرى الآن باختصار كيف وقع ذلك التعرف للمجتمع:
النظرية الأولى: نظرية الفلك الحديثة:
فمن أهم العموميات التي تناولها الناس واختلفوا حولها ثلاثة أشياء: كروية الأرض، ودورانها حول نفسها، ودورانها حول الشمس، لا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. هذه العموميات هي من نتائج نظرية يقبع خلفها كثير من الحسابات الرياضية والرصد الفلكي الدقيق والاستنباطات العقلية؛ مما لا يسع لغير المتخصص إدراكها بخلاف العموميات، ولذا فإن اعتراضات كثير من المعترضين هي على النتائج العامة وليست على الأدلة وطرق التحقق والاستنباط، ومن هنا كانت الاعتراضات ضعيفة لأنها لا تواجه العلم ذاته وإنما تواجه بعض نتائجه، والحقيقة أن المعترضين آنذاك ليس باستطاعتهم منافسة أهل النظرية الحديثة لما يتطلبه من معرفة رياضية عميقة ورصد طويل وحسابات فلكية معقدة وممارسة فلكية طويلة تؤهل للاستقراء والاستنباط، فكانت الساحة غير متكافئة، وقد كان السائد في البلدان الإسلامية التي احتكت أولًا بهذه النظرية أن الأرض مسطحة مع وجود القول بكرويتها عند آخرين، وأنها ثابتة، وأن الشمس تدور حولها، ولا شك أن دخول النظرية الحديثة على مثل هذا الجوّ السائد سيصنع توترًا شديدًا في المجتمع ما لم ينجح أهل العلم في رفع الإشكال؛ لأن السائد هنا يرتبط باعتقاد ديني، فكثير من الكتب الكلامية تتناول هذه المسألة كما أن بعض علماء التفسير قد أدخلوا بعض الآراء الفلكية القديمة أثناء مرورهم على الآيات الكونية مما حولها إلى مسألة دينية خبرية.
يعود السبب في أسبقية دخول نظرية الفلك إلى كونها أوّل النظريات شهرة في أوروبا وحدث بسببها صراع مشهور، كما أنها تدخل في مادة الجغرافيا وقد كانت من أول ما اهتُم به في العالم الإسلامي؛ وذلك أن التعليم العصري طُلب أول ما طُلب لتكوين الجيش الحديث، ومن أهم ما يحتاجه الجيش هو دراسة جُغرافيّةِ العالم. وتبدأ كتب الجغرافيا عادة بدراسة الأرض، من جهة: كرويتها
وأدلة ذلك، وحركتها ثم بقية التفاصيل، أضف إلى ذلك أن علم الفلك كان من أشهر العلوم الحكمية في التراث الإسلامي؛ مما يجعله أقرب إلى الفهم عند غالبية المثقفين المسلمين وأمثالهم عندما يعاد الاهتمام ببعض قضاياه.
نقف الآن مع الصور الواضحة المشهورة حول دخول النظرية، وقد كان أولها ما ذكره "الطهطاوي" في كتابه:"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" في المقالة الثانية، الفصل الأول:[في مدة إقامتنا في مدينة مرسيليا]، فبمناسبة حديثه عنها استطرد لذكر مجادلات بين علماء المغرب ومحاورات منها ما دار حول كروية الأرض وحركتها بين الشيخين:"محمد المناعي التونسي" و"محمد البيرم"، فالمناعي كان يرى بسط الأرض وبيرم يرى كرويتها، ثم قال:"وممن قال من علماء المغرب بأن الأرض مستديرة، وأنها سائرة، العلامة الشيخ مختار الكنتاوي بأرض أزوات، بقرب بلاد "تمبكتو". . . . وقد ألف كتابًا وسماه: "النزهة"، جمع فيه جملة علوم، فذكر بالمناسبة علم الهيئة، فتكلم على كروية الأرض، وعلى سيرها، ووضح ذلك، فتلخص من كلامه أن الأرض كرة، ولا يضر اعتقاد تحركها أو سكونها"(1). ولكن هذا الحوار الذي ذكره الطهطاوي كان موجودًا في التراث الإسلامي وقبل الاطلاع على مستجدات علم الفلك، والذي يظهر أن الطهطاوي كان يستحضرها وهو على علم بالمستجدات الفلكية، فيكون ذلك تمهيدًا لما يعرضه، فقد ذكر في كتابه ما يدرسه المبتعثون من علوم وفنون في فرنسا، ومن ذلك الجغرافيا فقال:"فقد تقدم منها نبذة في مقدمة الكتاب، وإنما ينبغي لنا هنا أن نذكر أقسامها، فنقول: إنه تارة ينظر إلى الأرض من جهة سكونها أو تحركها، أو نسبتها لما عداها من الأجرام الفلكية، فتسمى الجغرافيا الرياضية أو علم هيئة الدنيا"، ثم تحدث عن أربعة أقسام أخرى ثم قال:"غير أنه ينبغي لنا هنا الكلام على مسألة من مسائل علم الجغرافيا الرياضية التي هي علم الهيئة، فنقول: الإفرنج قسموا الكواكب الفلكية إلى ثوابت إلى سيارة، وإلى سيارة السيارة، وإلى ذوات الذنب، وعدوا الشمس من الثوابت، والأرض من السيارة، والقمر من سيارة السيارة؛ أي: التابعة في السير للكواكب السيارة، وهذا المذهب يسمى عندهم مذهب "كبرنيق النيمساوي"، وقد كشف المتأخرون
(1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 115 - 116.
منهم عدة كواكب سيارة لم يظفر بها المتقدمون، لفقد الآلات عندهم، ووجودها لهؤلاء الإفرنج، فبذلك بلغت السيارات المعروفة عندهم أحد عشر، غير الشمس والقمر، فإن الأولى من الثوابت على رأيهم، والثانى من سيارة السيارة، ولنذكرها لك على حسب قربها من الشمس، فنقول هي: عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ"، وبعد تعدادها قال: "وهذه الكواكب الجديدة لا يمكن رصد دورانها على نفسها إلا بصعوبة، لصغر بعضها في رأي العين، وبعد البعض الآخر، بل لا يمكن رصد ما عدا "أورانوس" إلا بالنظارات الفلكية، ولهذا سميت عند الإفرنج بالسيارات النظارية، ويؤمل الإفرنج كشف غيرها من السيارات" (1)، وقد ذكر أنه سيتفرغ لترجمة التاريخ والجغرافيا من الفرنسية إلى العربية: "وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى" (2).
وإذا كان قد عرّف بالنظرية فإنه في الوقت نفسه كان منتبهًا إلى مشكلاتها أو مشكلات الفكر الأوروبي عمومًا التي ترتبط به، ففي الفصل الثالث عشر عن تقدم أهل باريس في العلوم والفنون والصنائع. . . . يقول: "وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن لهم بعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلًا، فإنهم محققون فيه وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له.
ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات، غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى" (3)، وقد ذكر محققو (4) كتابه بأنه حذف
(1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 372 - 374.
(2)
المرجع السابق ص 375.
(3)
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 255 - 256.
(4)
هم: (مهدي علام، أنور لوقا، أحمد بدوي)، انظر: مقدمتهم للكتاب السابق ص 40 - 41.
"كالقول بدوران الأرض ونحوه" جملة كانت بعد قوله: "السماوية" حيث كانت في المخطوط قبل تسليمه للمطبعة، ومما حذفه أيضًا بحسب زعم محققي الكتاب نص له علاقة بالنظرية:"وقال بعض علماء الإفرنج: إن القول بدوران الأرض واستدارتها لا يخالف ما وردت به الكتب السماوية، وذلك لأن الكتب السماوية قد ذكرت هذه الأشياء في معرض ونحوه جريًا على ما يظهر للعامة لا تدقيقًا فلسفيًا، مثلًا: ورد في الشرع أن الله تعالى وقف الشمس، فالمراد بوقف الشمس تأخير غيابها عن الأعين وهذا يحصل بتوقيف الأرض، وإنما أوقع الله الوقوف على الشمس؛ لأنها هي التي يظهر في رأي الأعين سيرها. انتهى. فظاهر كلامه أنه ارتكب غاية التأويل"(1).
قد يتعرض الطهطاوي لمثل هذه الأمور في الكتب التي ترجمها، ولكن تلك الكتب المترجمة بطبيعتها تكون محدودة الاطلاع، يدرسها فقط طلاب المدارس الجديدة، أما هذا الكتاب فهو للجمهور، وقد حظي الكتاب وكاتبه بشهرة كبيرة داخل مصر وخارجها، فصاغ في كتابه باختصار الحركة الفكرية والعلمية والاجتماعية في باريس، فإذا جاءت مسألة حساسة توقف معها، ومنها وقفاته مع نظرية الفلك الجديدة لارتباطها بأحد العلوم المفضلة عنده وهو الجغرافيا، كما أن ذلك يدل على أصداء المشكلة داخل العالم الإسلامي ومحاولته ملامستها من بعيد.
وبما أن الكتاب هو كتاب تعريف ورحلات؛ فمن غير المتوقع أن نجد فيه معالجة للمشكلة، لذا اكتفى الطهطاوي بالإجابات المجملة، وقد كان يفترض في من جاء بعده البدء في رسم الرؤية حول الموقف من هذه المشكلات، وهو ما لم يظهر بالشكل الكافي والمقنع. ومع مثل هذه الآراء الجديدة التي ولدت في البداية على شكل نقل أخبار؛ جاء الإرباك للواقع العلمي والثقافي والفكري في العالم الإسلام في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وربما هي تواصل في القرن الخامس عشر الهجري، وذلك أن المعالجة الحقيقية تؤجل عادة كلما ظهر مثل هذا الإشكال، أو يتولاها من ليس من المؤهلين في العلمين.
كانت الطبعة الأولى من كتاب الطهطاوي سنة (1250 هـ-1834 م)؛ أي:
(1) المرجع السابق ص 41 - 42، ويظهر وجود سقط في جملة (في معرض ونحوه. .).
منتصف القرن الثالث عشر، وبعد ما يقرب من ثلاثين سنة جاء كتاب آخر حظي بشهرة قريبة من كتاب الطهطاوي، وهو كتاب "خير الدين التونسي""أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" سنة (1283 هـ-1867 م)، ونجد عنده أيضًا أصداء هذه النظرية وإن كان بأسلوب التعريف بأحوال الممالك، ففي [مطلب ذكر من اشتهر من الأوروبيين بالمعارف والاختراعات]، يقول:"وأما أهل شمال أوروبا فلم يشتهروا إلى ذلك الوقت بشيء من أعمال الفكر، غير أن منهم من لا تنكر منته على العرفان، مثل كبرنيك من أهل بولونيا، المولود سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وألف، وهو الذي حرر القول بأن الشمس في مركز العالم، وأن الأرض والكواكب تدور حولها. قيل: وليس هو أول قائل بذلك، وإنما الأول فيلولاوس أحد تلامذة فيثاغورس، وذلك قبل وجود كبرنيك المذكور بألفي عام، لكن وقع الانفصال على أن كبرنيك هو الذي ينبغي أن تنسب إليه مزية الابتكار لهذا القول، وإن انتفع في الاهتداء إليه بقول فيلولاوس المذكور. ومن حرر الدليل على تلك الدعوى، بما يقرب من المشاهدة، غليلاو الطلياني، وأعانه على ذلك ما اخترعه مسيوس من أهل هولاند من آلة البلور التي تكبر الأشياء، فكانت مرآته تكبر الشيء مائة وستين مرة زيادة على مقدار حجمه، ثم تهذبت تلك الآلة حتى صارت تكبره من ألفين إلى ثلاثة آلاف وأكثر. ولم تزل تلك الدعوى تترجح عند أهل أوروبا إلى أن صارت مسلمة لديهم"(1).
كانت هذه من الصور الأولية لطرح النظرية عبر كتابين للجمهور وإن كانت غير مفروضة عليهم وإنما وردت على سبيل التعريف، ولكن ستتحول عبر الصحافة -التي يتولاها غالبًا النصارى- إلى مشكلة داخل الساحة الإسلامية، قامت الصحافة بالإثارة المتكررة للموضوع عارضة ذلك في إطارٍ مشكل يختلف عن عرض الطهطاوي والتونسي، فقد عرضت ذلك قضيةً تحتك بالمجال الديني، ومن ثمّ تفتح مناقشة مشكلة العلاقة بين الدين والعلم من خلال نظرية الفلك. فبعد تسع سنوات تقريبًا من كتاب التونسي فتحت مجلة المقتطف جدلًا واسعًا حول الموضوع، بدأ ذلك سنة (1292 هـ-1876 م)، بدأ كمناقشات بين طائفة النصارى، بين الفريق المؤيد لنظرية بطليموس والآخر الرافض لها والمدافع عن
(1) أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، خير الدين التونسي ص 213 - 214.
النظرية الحديثة، وقد كان صراعًا حادًا استُثمرت فيه كل الأدلة، ومن الطبيعي أن يطّلع المسلمون على هذا الصراع ففيهم جمهور لهذه المجلة، وجاءت مشاركتهم الرسمية من أعلى المستويات في مصر، الإدارية والفكرية، حيث اطلع وزير المعارف على الموضوع، فكلف عالمًا شهيرًا في الوزارة هو عبد الله بك فكري، لتكون إحدى أولى المشاركات العامة الجماهيرية التي تحاول إعطاء رؤية إسلامية حول الموقف من هذه النظرية، والذي يظهر بأن هذه الرؤية هي ما استقر عليه الرأي في الأوساط الجديدة، التي درست في الغرب ونظرت في اجتهادات دينية سابقة -لاسيّما الإمام الغزالي- وأخرجتها للطلاب الذين يدرسون مثل هذه الأمور أو أخرجتها للوسط الثقافي عمومًا، كما أن المشاركة الإسلامية ليست من مصر فقط، بل أثبت صاحب المقال استفادته أيضًا من كتاب ظهر بالتركية وأنه على الرأي نفسه. والمقال يكشف لنا أبعاد دخول النظرية بين المسلمين أو بين أهل الكتاب، والذي يظهر أنها لم تثر إشكالًا كبيرًا بين المسلمين مثل الذي أثارته داخل طائفة النصارى، وذلك عبر ما رصدته لنا صحافة تلك المرحلة، بل إن المقتطف بإدارتها النصرانية العلمانية قد أخذت المشاركة الإسلامية كدليل على تقبل الإسلام للعلم، فاستثمروها في الرد على طائفة منهم (1).
عندما اتسع الأمر وتحولت النظرية إلى مشكلة بسبب ما فعلته الصحافة؛ جاءت مشاركات علماء ومفكرين مسلمين حول الموضوع، وقد كان لجهودهم أثر كبير في تخفيف حدّة المشكلة، كما أنها قرّبت الموضوع من البيئة العلمية الشرعية في البلاد العربية من العالم الإسلامي، من ذلك مثلًا كتابات الشيخ "الألوسي" من العراق (2)، و"القاسمي"(3) و"الجسر" من الشام (4)، و"محمد رشيد
(1) سيأتي لاحقًا بإذن الله تفاصيل دور الصحافة حول هذا الموضوع في الفصل الرابع.
(2)
من كتبه: (ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيأة الجديدة)، وترجم:(رسالة في الهيأة باللغة الفارسية لعلي القوشجي)، انظر: مؤلفاته، محمود شكري الألوسي. سيرته ودراساته اللغوية، للعلامة محمد بهجة الأثري ص 108 وما بعدها.
(3)
انظر: دلائل التوحيد، الشيخ محمد القاسمي ص 214 - 218.
(4)
صاحب الكتابين المشهورين: (الرسالة الحميدية)، و (الحصون الحميدية)، انظر: الحصون الحميدية ص 154 وما بعدها.
رضا" في مصر (1)، و"الحجوي" في المغرب (2)، أو غيرهم، فضلًا عن كتابات "الأفغاني" (3) و"محمد عبده" في مصر (4). وقد استقرّ الوضع بعد ذلك على تدريس هذه النظرية في كل البلاد الإسلامية، حيث يدرسها الطالب ضمن التعليم الأولي ضمن كثير من المواد الحديثة وأهمها مادة الجغرافيا (5).
النظرية الثانية: نظرية التطور الدارونية:
وهي تختلف كثيرًا عن النظرية الأولى، فهي في الغرب قد تجاوزت مجال العلم لتصل إلى الفكر والحياة بعامة، ولاسيّما بعد استثمار التيارات المادية لهذه النظرية في صراعها ضدّ الدين ودفاعها عن الإلحاد، مما يجعلها في نظر كثير من البشر نظرية إلحادية أو تكاد، كما أنها نظرية لا تمثل ثمرة واضحة للدول الباحثة عن النهضة والتقدم، فهي تحوي في طياتها ما يتعارض مع الدين، كما أنها لا تحوي ثمرة دنيوية، ومع ذلك جاء من حمل هذه النظرية ورمى بها في الساحة الإسلامية، فأشغلت الفكر الإسلامي ما يقرب من نصف قرن، وبشكل أكثر حدّة مقارنة بنظرية الفلك السابقة.
والفرق بين النظريتين، أن الأولى جاء التعريف بها من قبل علماء ومفكرين مسلمين، بخلاف نظرية التطور فقد انطلقت من دائرة نصرانية علمانية، بدأت من داخل كليتهم التبشيرية الأمريكية، ثم عبر صحافتهم، ثم من خلال رموزهم الفكرية ولاسيّما تلك المتأثرة بالتيارات المادية الأوروبية من دارونية وماركسية.
(1) ورد الكثير من فتاويه في مجلة "المنار" حول هذه النظرية ومشكلاتها؛ مما يدل على اتساع المشكلة، ومن ذلك مثلًا ما نجده في الأعداد التالية: المنار 6/ 671، سنة (1312 هـ - 1903 م)، والمنار 7/ 258، سنة (1322 هـ -1904 م)، والمنار 12/ 260، سنة (1327 هـ -1909 م)، وغيرها.
(2)
انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية (محمد بن الحسن الحجوي نموذجًا)، آسية بنعدادة ص 70 ص 227.
(3)
انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة. . . .، علي المحافظة ص 75.
(4)
انظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 89 - 90.
(5)
انظر مثلًا: كتاب الجغرافيا (الجغرافيا الطبيعية) لطلاب المرحلة المتوسطة، الصف الأول المتوسط، التابع لوزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية، الوحدة الأولى والثانية، طبعة (1425 - 1426 هـ)، حيث اعتمدت النظرية الحديثة في الفلك، بما في ذلك ما ذُكر سابقًا من القضايا الثلاث.
جاءت (1) شرارة الموضوع من كلمة ألقاها أحد أساتذة الكلية في خريجي سنة (1882 م)، أشاد فيها بداروين ونظريته، وعرضتها مجلة المقتطف، فبدأ الصراع داخل النصارى: تيار يؤيد وآخر يعارض، ثم تدخل المسلمون عبر بعض كتابهم. وفي هذه المرحلة أيضًا كانت الهند الكبرى قد سبق إليها من تعرف على هذا المذهب وتأثر به وسعى لنشره في الأجيال الجديدة، مما جعل المفكر المشهور جمال الدين الأفغاني يؤلف كتابه المشهور:"الرد على الدهريين"، ترجمه محمد عبده عن الفارسية بمساعدة من له معرفة بتلك اللغة سنة (1884 م)، وقد ذكر في مقدمته أثر تلك النظرية على أناس في المشرق الإسلامي وإلحاد البعض مما جعله يؤلف في الرد عليهم؛ أي: أنها نظرية تجاوزت حدود العلم مما دفع الأفغاني للكتابة عن أهمية الدين وأنه لا غنى للعالم عنه مع نقده بحسب استطاعته لتلك النظرية (2). وقد نشأ تيار فكري نصراني الأصل ماركسي المذهب يتبنى هذه النظرية داخل مصر، وحظي بدعم وحماية من المستعمر، من أبرزهم "شبلي شميل" و"سلامة موسى"، نشر الأول مقالاته في المقتطف، وألف كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء"، ثم "كتاب شرح بخنر على مذهب دارون"، كما أنه أصدر مجلة الشفاء فضلًا عن كتابته في صحافة مصر ولبنان آنذاك (3). أما "سلامة موسى" الذي انتصر لهذه النظرية ومذهبها فقد ألَّف فيها "نظرية التطور وأصل الإنسان" سنة (1928 م)، وفي السنة التالية أصدر مجلته "المجلة الجديدة" التي بقيت حوالي أربع عشرة سنة، فضلًا عن نشاطه الصحفي والفكري (4)، ولا شك أن بقاءها في هذا الإطار النصراني الماركسي جعلها تفقد كل صلة لها بالعلم وتحولت معهم إلى أداة لمحاربة الإسلام.
لم تدخل هذه النظرية نطاق التعليم إلا في وقت متأخر ولاسيّما في البلاد
(1) من بين من اهتم بتتبع هذه النظرية وأبعادها الفكرية في العالم العربي الدكتور عبد الله العمر في كتابه: فكرة التطور في الفلسفة المعاصرة، وانظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة. . . .، علي المحافظة ص 238 - 243.
(2)
انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 76 - 80.
(3)
سيأتي الحديث عن دوره والنظرية في فقرات قادمة، وانظر حول هذه المعلومة: الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية. . . .، د. محمود المسلماني ص 241.
(4)
انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 26 وما بعدها.
التي يتحكم بها الاستعمار ضمن التعليم العالي، ولكنها كانت على عكس ذلك في الساحة الفكرية حيث كان السجال حولها كبيرًا، يمكن تصور ذلك من خلال الاطلاع على صحافة تلك المرحلة "انظر مثلًا: المقتطف والمجلة الجديدة من جهة، والمنار من جهة أخرى"، حيث نجد إنشغال عامة المفكرين بهذه النظرية.
نظريات تعرف عليها المسلمون في القرن الرابع عشر/ العشرون:
تعد "نظرية الفلك والتطورية الدارونية" أشهر ما ظهر من نظريات في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وقد استمرتا في القرن اللاحق مع تحول كبير عرفه القرن الجديد؛ فهناك مستجدات كبيرة، منها: وقوع أغلب بلاد المسلمين في قبضة الاستعمار، ومن ثمّ توجيه النشاط العلمي والثقافي والفكري والاجتماعي وفق منظور غربي، كما أن المستعمر سعى إلى صناعة تيارات فكرية متغربة تساعده في المهمة أو تقوم بها بعد خروجه. ومع هذه المستجدات انهمرت على الساحة الإسلامية الكثير من الأفكار والمذاهب الغربية، ومن التحولات البارزة في الصعيد العلمي فتح الباب لكل النظريات في جميع الأبواب العلمية وغير العلمية، كما أنه انفتح الباب لنظريات علوم الاجتماع، وأهمها في تلك المرحلة: نظريات علم الاجتماع ونظريات علم النفس ونظريات اللغة، أما في العلوم الطبيعية فقد بدأت النظريات توغل في العلمية مما جعلها بعيدة عن المجتمع باستثناء النظرية النسبية، بما نجده من صدى لها في الكتابات العربية عن فلسفة العلم، بينما شهدت نظريات العلوم الاجتماعية شهرة كبيرة في القرن الرابع عشر الهجري، وكان أشهرها نظريات "دوركايم" و"ماركس" و"ماكس فيبر" في علم الاجتماع (1)، و"فرويد" في علم النفس (2)، و"سوسير" في اللغة، وبعضها نشأ عنها مذاهب عالمية كالماركسية نسبة إلى ماركس والبنيوية المعتمدة على أفكار سوسير (3)، فضلًا عن مذاهب فلسفية تدّعي ارتباطها بالعلم مثل الوضعية المنطقية وفلسفة التحليل (4).
(1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، أحمد خضر.
(2)
انظر: الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب ص 9، 19 وما بعدها.
(3)
انظر: الخروج من التيه، د. عبد العزيز حمودة ص 52 وما بعدها.
(4)
حول الماركسية والوضعية والتحليلية، انظر: الفصلين الأول والثاني من هذا البحث.
كل هذه وغيرها مما ظهر في بلاد المسلمين نتيجة الاحتكاك المكثّف بالغرب ولاسيّما في ظل الاستعمار وما تبعه من تطور كبير في المواصلات والاتصالات. وقد مكّن الاستعمار للتيارات التغريبية في البلاد الإسلامية، ونظرًا لتبعيتها الفكرية للغرب فقد نشطت في بثّ ما يتعارض مع الإسلام، كان ذلك في أثناء وجود الاستعمار، وازداد بعد خروجه في إثر تمكنها من مفاصل الدول الوليدة ولاسيّما من مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام والاتصال الحديثة، وقد كان يغلب على تلك التيارات التغريبية الاستغلال الخبيث للعلم ونظرياته ومناهجه في عدائها للدين وطعنها في هوية الأمة الإسلامية، ولكن في المقابل قد شهد القرن الرابع عشر الهجري حيوية إسلامية كبيرة، تمثل ذلك في دعوات إصلاحية استوعب أصحابها العلوم العصرية؛ مما جعلهم قادرين ولله الحمد على ردّ هجمات التغريبيين خاسئة حسيرة. هكذا ظهرت معالم التجارب تاريخيًا، وما بقي لنا الآن إلا البحث في الأسباب التي انحرفت بمسيرة العلم الحديث وفتحت الباب نحو توظيفه فيما يتعارض مع هوية الأمة ودينها ولاسيّما من قبل المتغربين بتياراتهم المختلفة.
الفصل الرابع أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية