الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظهور أمة الإِسلام ودورها في إنقاذ العالم:
جاءت رسالة الإِسلام بالخير للبشرية، فعاد الدين الحق وظهر التوحيد في الأرض وقامت شريعة السماء في حياة الناس، ومن بين ما حملته رسالة الإِسلام واعتنت به أيما عناية: موضوع العلم، وأهمية العلم المصحوب بالعمل النافع، والدعوة للتفكر والنظر والعقل والبصيرة والتعلم وعدم التقليد (1)، ويأتي في أعلى درجاتها تحقيق الجانب الديني؛ فإذا صلح الدين صلح ما سواه. لهذا يصح أن يقال عن الأمة المسلمة: إنها أمة علم، وقد شعر أهل الإِسلام بذلك فتحولوا إلى أمة علم، وكوّنوا تراثًا علميًا لا مثيل له، وكان في رأس ما اهتموا به من علوم: العلوم الدينية فأبدعوا فيها إبداعًا عظيمًا، مما يجعل الأمة المسلمة قادرة في كل زمن على إيصال دين الإِسلام للناس، وهو الواجب الأهم على الأمة المسلمة.
وأمة أبدعت كل ذلك الإبداع في العلوم الدينية، وخرجت من كونها أمة أمية إلى أمة العلم والعلماء لا يصعب عليها الإبداع في أي باب من أبواب العلوم؛ لأن القضية الجوهرية هي قدرة تلك الأمة على إبداع العلم ذاته، وإبداع مناهجه، وأمة تستطيع إبداع جانب من جوانب العلم لا يصعب عليها الجانب الآخر. إلا أن الأمة المسلمة كانت في أول أمرها مهمومة بتقوية وجود الإِسلام ونشر علومه بين الناس؛ ولذا كان أهم ما يُعتنى به في القرون الأولى هو تشييد العلوم الإِسلامية، أما العلوم الدنيوية فهي متروكة لحاجات الناس وحاجة الدولة المسلمة، كما أن أمرها يترك لمن يرغب الاشتغال بها دون حظر عليه، بل يُحث الراغب فيها على نفع الناس، وقد وجد أهل هذه العلوم في ظل الدولة الإِسلامية دعمًا لا مثيل له، فالإِسلام يدعو للعلم النافع ويحث أهله على تحصيل ما ينفعهم.
لقد أصبح مفهوم العلم أحد أهم مكونات الأمة الإِسلامية، وقد أعطى الإِسلام للعلماء درجة عالية ومكانة رفيعة لا يصلها أحد من الناس، وقد شجع
(1) انظر مثلًا حول دعوة القرآن لذلك في: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل، الفصل الأول والثاني، وانظر: منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية، د. خليل الحدري، الفصل الأول والثاني والرابع، وانظر: التفكير فريضة إسلامية، عباس العقاد ص 3 - 25.
على التعلم وحث عليه بصور متنوعة من أساليب الترغيب والترهيب، وحمّل العلماء مسؤوليات كبيرة.
يشعر المسلم بأن أول الواجبات عليه هي أمور لا تتحقق إلا بالعلم والتعلم؛ ولذا تجد بعض كتب السنة المشهورة تبدأ كتبها بأبواب عن العلم، فهذا صحيح البخاري يُفتتح بكتاب العلم بعد كتابي بدء الوحي والإيمان (1)، مما يجعل كل مسلم يشعر بأن أهم أعماله تنطلق من العلم والتعلم.
ليس المقصود هنا بيان ما العلم الذي يُراد (2)، وإنما المقصود بأن العلم قد أصبح له شأن في الأمة الإِسلامية، ولمعرفة ذلك علينا أن ننظر في حال العربي في الجاهلية في مكة أو الجزيرة: ماذا كان يعني له العلم؟ وما الجهد الذي كان يبذله لتحقيق ذلك المفهوم؟ ثم نقارن ذلك بحال المسلم والبيت المسلم والأسرة المسلمة والأمة الإِسلامية، عندها نجد الفرق الكبير. فهاهي أغلب الأسر توجه أبناءها للعلم، وتحتسب فقدهم والمال المنفق عليهم في سبيل أن يكونوا علماء، ودخل العلم مشروعًا أساسيًا للأسرة المسلمة، ربما تفقد الزوجة زوجها وما معها إلا الولد فتضحي برغبتها حول بقائه قريبًا منها وتبعثه لمجالس العلم، وربما تنفق عليه كل ما تملك، وتتحمل بُعده وسفره وغيبته وغربته من أجل أن يتعلم. وإذا كان هذا في واقع الأسرة الصغيرة، فهو أيضًا حال الدولة المسلمة، وهو أيضًا الهمّ الأكبر عند ورثة الأنبياء من العلماء الذين نذروا حياتهم للعلم تعلمًا وتعليمًا.
ولنقارن حال العرب قبل الإِسلام في الجزيرة حول ما قدموه من العلم بحال الأمة المسلمة بعد ذلك: كم كتابًا ورّثوه -غير تلك القصائد-؟ كم من العلماء عرف منهم؟ كم من المعاهد والحلقات العلمية؟ كم من العلوم؟ كم
(1) انظر: فتح الباري. . . .، لابن حجر 1/ 170، وفي كتاب العلم ثلاثة وخمسون بابًا منها:(فضل العلم)، (العلم قبل القول والعمل)، (الفهم في العلم)، (الخروج في طلب العلم)، (كتابة العلم)، (السمر في العلم)، (حفظ العلم) وغيرها من الأبواب ذات الدلالات المهمة.
(2)
ففي التمهيد ما يبين ذلك كما أن في الفصل الخامس مزيد بيان عند ذكر الاتجاه السلفي، وقد أكد العلماء فيه أن أصل العلم المقصود هو العلم بالله، ويدخل في العلم المحمود كل علم صحيح ونافع من العلوم الدنيوية.
وكم. . . .؟؟ ثم انظر لحال هذه الأمة بعد الإِسلام، وما ذاك إلا بفضل المولى سبحانه بما منّ علينا من إرساله لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبما أنعم علينا من بركات هذا الدين العظيم.
ولم تكن الأمة الإِسلامية تجد حرجًا في أن تستفيد من العلوم البشرية التي حولها إذا كانت علومًا صحيحة ونافعة، فهذا الدين الذي حوّل أهله إلى أمة علم قد شعر أهلها بقيمة العلم ومكانته فانصرفوا إليه بكل همّة وقوّة، كل فئة اهتمت بباب من أبوابه، وكان أعلاها علوم الدين، التي يُحفظ بها الدين ويفهم، فأقاموها على أحسن مثال وأتمّه، أما العلوم الدنيوية، لاسيّما تلك التي تُبنى على التراكم المعرفي، بحيث يضيف اللاحق على السابق، فما وجد المسلمون غضاضة في أخذها عن الأمم التي حولهم، فقام بعض المسلمين بطلب المعارف من أهلها وترجمتها إلى اللسان العربي، ثم أعقب حركة الترجمة والتعليم الأولى حركة التصحيح والتقويم ثم الإبداع والابتكار.
صحيح أن حركة الترجمة والاستفادة مما عند الآخرين أو حركة الإبداع الذاتية لم تسلم من الأخطاء أو الانحرافات؛ فإنها كانت في بداياتها مخصصة لما ينفع الأمة وعمرانها من علوم الطب (1) والطبيعة والرياضة والصناعة والهندسة وغيرها (2)، وهي علوم مهمة لقيام العمران ولا يمنع منها الشرع، بل يحثّ على النافع منها، ولكن المترجمين وجدوا مع تلك العلوم النافعة أفكارًا وفلسفات وآدابًا وفنونًا وإلهيات فأغرت بعضهم أو ناسبت أهواءَهم، فقاموا بترجمتها ونشرها بين المسلمين، وتأثر بها الكثير وفتنوا بموادها (3)، فانشغلوا بها وخلطوها
(1) من ذلك ما سمح به الخليفة عمر بن عبد العزيز من ترجمة وتعلم كتب الطب؛ لأنه علم نافع. انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام، د. علي النشار 1/ 104 - 105، وانظر: الفكر اليوناني والثقافة العربية. . . .، ديمتري غوتاس ص 73، 164، ترجمة د. نقولا زيادة، بخلاف فوضى الترجمة في زمن المأمون وغيره.
(2)
أحد أول الكتب التي عرّفت بالعلوم المعروفة ذاك الزمن، كتاب الخوارزمي (مفاتيح العلوم) الذي عرّف بكل علم وأهم مصطلحاته وموضوعاته، وجعله في مقالتين: مقالة بعلوم الشريعة، وأخرى بالعلوم البشرية، طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق إبراهيم الأبياري.
(3)
انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة. .، سليمان الغصن 1/ 48 - 54.
بعلوم الإِسلام؛ فأدخلوا بعملهم هذا أعظم الضرر على الأمة الإِسلامية.
ويمكن القول بأن أحد أسباب الانحراف في الدين والتخلف في الدنيا الذي وقع فيه المسلمون راجع إلى النزاع والصراع الذي حصل بسبب تلك الترجمات لما ليس من العلوم؛ لأنه لو اكتفي بترجمة العلوم الدنيوية، وانشغل بعد ذلك بعض المسلمين بتطويرها، وسلمنا من غيرها، لربما صفا الجو الثقافي وانطلقت الأمة في تقدمها، ولسلمنا بإذن الله من الصراعات الداخلية المريرة التي تسببت في بروز الانحرافات العقدية وما ترتب عنها من تأخر الأمة.