الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علوم الشرع المعهودة فضلًا عن علوم العصر، ولكن الذي يظهر بأن الأمر أعقد من ذلك، فإن اختلاط التحديث بالتغريب (1) وغموض الأهداف عند دعاة طلب العلوم الجديدة؛ قد أوجد موقفًا متحفظًا عند العلماء والقادة الدينيين، ولاسيّما مع ارتفاع أصوات دعاة التغريب ودعوتهم إلى ما هو أوسع من الحصول على علوم نافعة وصناعة متقدمة؛ ليتجاوزوا ذلك إلى طلب أفكار وقيم وقوانين ورؤية جديدة عن الحياة، وقد برزت بوضوح في عهد السلطان عبد المجيد.
2 - السلطان عبد المجيد:
تولى الحكم في سن صغير -عمره ست عشرة سنة- بعد وفاة أبيه مما مكن بعض الوزراء من التأثير عليه؛ وكان أشهرهم "مصطفى رشيد باشا"، وقد عاش "رشيد" في أوروبا وتأثر بها (2)، وكان السلطان عبد المجيد "خاضعًا لتأثير" هذا الوزير "الذي وجد في الغرب مثله وفي الماسونية فلسفته. ورشيد باشا هو الذي أعدّ الجيل التالي له من الوزراء ورجال الدولة، وبمساعدته أسهم هؤلاء في دفع عجلة التغريب التي بدأها. ."(3)، لذا كان عبد المجيد يُعدّ "أول سلطان في آل عثمان يُضفي على حركة تغريب الدولة العثمانية صفة الرسمية، إذ إنه أمر بتبني الدولة لهذه الحركة وأمر بإصدار فرمانَيْ التنظيمات عامي (1854 و 1856 م)، وبهما بدأ في الدولة العثمانية ما سمّي بعهد التنظيمات، وهو اصطلاح؛ يعني: تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي. . . ."(4)، وبذلك يفتح لإدارة الدولة وفق منظور غربي في الأساس، فلننظر إلى التعليم:
لقد أظهر أصحاب التنظيمات حرصًا على وضع التعليم؛ "ففي (1838 م) ذكر مجلس "الشؤون الناجعة" أن اكتساب العلوم والمهارات يتصدر جميع الأهداف والطموحات الأخرى للدولة"، وأن الدين أهميته عظيمة للآخرة، أما
(1) في لفتة ممتازة لـ "قيس عزاوي" ذكر بأن إعلان التنظيمات هو الاعتراف بالاستسلام الحضاري للغرب وأنه جاء بعد أن أنجزت المراحل السابقة عملية تغريب النخبة. انظر كتابه: الدولة العثمانية. . . . ص 17.
(2)
انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 416 - 418.
(3)
من مقدمه الدكتور محمَّد حرب لمذكرات السلطان عبد الحميد ص 17.
(4)
المصدر السابق.
العلوم فهي تسهل وصول الإنسان إلى درجة الكمال في الدنيا، ولهذا "أقروا بالحاجة إلى توفير تعليم عصري للمسلمين؛ لتمكينهم من اللحاق بركب التعليم المسيحي الذي كان يدرس في مدارس الطوائف، التي أعيد تنظيمها، وفي مدارس البعثات التبشيرية الأخرى. وقد أدركوا الرغبة لإيجاد نظام عام للتعليم العلماني من أجل إنجاح الهدف الرامي إلى الجامعة العثمانية. وقد أدى إنشاء وزارة التعليم عام (1847 م) إلى سحب التعليم من هيمنة رجال الدين. .". وبحسب رأي "مالكولم" فقد كان "ما أنجزته التنظيمات في مجال التعليم محدودًا جدًا"(1)، وعلينا أن نتخيل دولة عظيمة كالدولة العثمانية ينحط بها الضعف لدرجة أنها تأمل في تعليم يوازي تعليم أقليات ضعيفة تحت سيادتها.
لأكثر من خمسين سنة، فترة ولاية محمود الثاني وابنه عبد المجيد؛ وقعت متغيرات خطيرة على مستوى دولة الخلافة، أهمها الاختراق الغربي الواضح لدولة الخلافة، فأصبحت المؤسسات الجديدة معتمدة إلى حد بعيد على الخبير الأجنبي أو الفكر الأجنبي، ويفقد بذلك مركز الخلافة استقلاله الحقيقي ويبقى رهينة للغرب، ليس على المستوى المالي والصناعي والمادي فحسب، بل العلمي والفكري أيضًا، وكان ذلك مما مهد للتيارات الفكرية الجديدة من الظهور والتأثير، وأسهم في عودة القوة للأقليات الدينية وربط إدارتها بالخارج مع فتح أبواب الدولة للإرساليات الدينية والعلمانية بالدخول إلى دولة الخلافة، وعندما صدر فرمان التنظيمات (1839 م) فرح به المنصِّرون، وبعد أيام من صدوره كانت الإرسالية الأولى تغادر مرسيلية (2) باتجاه العاصمة العثمانية، والأسوأ من ذلك أن قادتها -وهم يدعون للنصرانية- يروجون لمقولة: إن القرآن يحرم التعليم، وبذلك يربطون التعليم العصري بالكنيسة فقط (3).
لقد كان الأمر خطيرًا؛ أي: وجود قوى غير إسلامية أو تغريبية تقود مسيرة المجتمع في جميع مجالاته، وكان من أخطرها قيادتهم لمؤسسة العلم العصري
(1) نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 130، وذكر "أرسلان" بأنه افتتح في عهده جامعة باسم دار الفنون، انظر كتابه: تاريخ الدولة العثمانية ص 294.
(2)
الدولة العثمانية. .، د. الصلابي ص 422.
(3)
انظر: المرجع السابق، الصفحة نفسها، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 60 - 61.