الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: بيئة ثقافية جديدة وحضور التيار التغريبي فيها
إن الأحداث الكبار التي عرفها العالم الإِسلامي من القرن (12/ 18) قد أوجدت بيئة ثقافية وفكرية جديدة، تصب فيها مشارب مختلفة، وتختلف هذه البيئة بحسب المكان الذي ظهرت فيه فتجدها تكتسب بعض صورتها من عناصر ذلك المكان.
كان يقود هذه البيئة مجموعة من العلماء والمفكرين والكتاب والأدباء وقيادات اجتماعية وسياسية، وكانت أدبياتها تظهر في الكتابات الفكرية والصحافة والأدب والنشاط السياسي والاجتماعي، وقد كانت هذه البيئة -أول ظهورها- أقرب لمفهوم الإصلاح والتحديث الإيجابي ولكنها -بعد تغلغل شخصيات مُختَرقة من الفكر الغربي أو دخول أطراف دينية غير إسلامية في نشاطها-، تحولت تدريجيًا نحو التغريب والابتعاد عن الإِسلام، ثم ازدادت حدّة ذلك مع واقعة الاستعمار الضخمة للعالم الإِسلامي، إذ قام جهد ضخم وكبير لتفريغ هذه البيئة من كل مضمون إسلامي وفي المقابل تغذيتها بكل ما هو ضد الإِسلام، وهيأ الاستعمار الظروف المناسبة لوصول المناهضين للإسلام أو الضعفاء في تصورهم حوله إلى قمة هذه البيئة، ووفر لهم كل الدعم، مما جعلها بيئة مثالية لتوليد تيارات التغريب، وحُصر مفهوم التقدم والتحديث والمدنية بالتصور الذي يطرحه الاستعمار ويتشربه أصحاب هذه البيئة، وأخطر صور ذلك: سعيه لجعل مفهوم التقدم يتعارض تمامًا مع الإِسلام، وأنه لا حلّ للمسلمين إن أرادوا التقدم إلا بنبذ الإِسلام، وقد استجاب لهذا الطرح نخبة كبيرة من أصحاب هذه البيئة الجديدة.
يختلف أصحاب هذه البيئة، ففيهم الصادق في طلب إصلاح الأحوال، ولكنه ضُلِل كما ضُلل الكثير في الطريق المناسب، وتشبّع بالشُبَه التي أثيرت في عصرنا الحديث، وفيهم أصحاب المصالح والأهواء، ووجدوا في سلوك دعاوى التحديث فرصة لتحقيق مصالحهم. وفيهم الأعداء للأمة من طوائف وملل مختلفة، جمعهم الاستعمار في إدارته واستعان بهم في مهمته وفتح لهم المجال في الحركة، ولاسيما المتعلمنين من اليهود والنصارى ومجموعة من أبناء الفرق المغالية المنتسبة إلى الإِسلام، فضلًا عن مجموعة من المسلمين نجح الإضلال الفكري في صرفهم عن الإِسلام وتوظيفهم في جهاز التغريب.
هكذا تكونت بيئة غير متجانسة باستثناء هدف واحد ظاهره طلب الحداثة وباطنه معارضه الإِسلام ونبذه، وأعتقد أن من بين أهم الأسباب في استمرارها وجود شخصيات إسلامية مميزة استعانوا بها ممن نشطوا قبيل الاستعمار وفي أثنائه في قيادة الفكر الإِسلامي في البلاد التي وقعت تحت الاستعمار، ورغم جهودهم العظيمة في توحيد صف المسلمين ومحاولة استنهاضهم ورفضهم لكثير من البدع والانحرافات ونشاطهم في توعية المسلمين والرد على خصوم الإِسلام ونقل المفيد من الحضارة الغربية، وهو جهد عظيم لا يعرف قيمته ومكانته إلا من عرف ظروف تلك المرحلة، ومع ذلك ففيهم طائفة كبيرة وقعت في مأزق منهجي خطير فتح الباب لشرور عظيمة، حيث وقع هؤلاء في أسر الحضارة المستعمِرة والغازية وثقافتها من جهة ومن جهة أخرى هالهم هذه الأجيال الذكية المميزة التي يستهويها السير في ذلك الثقافة الغربية بعد أن عصبوا على أعينهم وسدّوا آذانهم وأسلموا ذواتهم لتلك الحضارة، وفي الوقت نفسه لم تكن تركة هذه العُصْبة المسلمة كافية في تحمل أعباء تلك المرحلة، فقذفت بمشروعها المرتبك مع شخصيات مشهورة مثل "الطهطاوي" و"التونسي" و"علي مبارك"، وهي أكثر وضوحًا مع مدرسة "جمال الدين الأفغاني" المشهورة وقائدها من بعده الشيخ "محمَّد عبده".
وأخطر ما تبناه هؤلاء الفضلاء وأُعجب به جيل التغريب -وهو أضعف جزء في مشروعهم من الناحية الشرعية المنهجية- هو توسعهم في منهجية التأويل بما تعنيه من عملية تلفيق، فما أن تعالج جزءًا من المشكلة حتى تفتح الباب لمشاكل أخرى، ولذا وإن لم يُسهموا في الانحراف بالعلم فإنهم أعطوا رؤية غير
صحيحة عن العلاقة بين العلم والدين، أخذها التغريبيون وساروا بها إلى أقصى مداها، فقد جعلوا للعلم الحديث مكانة تصل إلى تأويل كل نص يُتوهم تعارضه مع العلم، مع أنهم لم يبحثوا عن ماهية هذا العلم، وهل هو في حكم الحق الذي لا يتغير حتى نصل إلى استخدام التأويل؟ مما جعل غيرهم يقولون بلسان حالهم أو مقالهم: إذا كان العلم له هذا السلطان فلماذا هذه الإزاحة البطيئة للدين، فنبقى كل يوم نؤوِّل نصًا؟ لماذا لا نضع العلم والفكر والحضارة الغربية في رأس دعوتنا ونفصل الدين عن نشاطنا (1)؟
ليس غرضنا تتبع هذا السجال إلى نهايته، وإنما المراد بيان صورة البيئة الثقافية الجديدة وسكانها بمشاربهم المختلفة، وهي بيئة نشأت في حواضر العالم الإِسلامي بداية العصر الحديث، وقد تأخر حضور التيار الإِسلامي السلفي فيها، لكونها حواضر يغلب عليها الوجود لتيارات أخرى "كلامية وصوفية"، وعندما حضر نجح في إعادة توجيه مسار بعض أصحاب هذه البيئة وإن كانوا لا يلغون الجهود الحسنة والعظيمة التي قام بها مصلحون إسلاميون ينتمون لتيارات أخرى، ولاسيما مدرسة الأفغاني وعبده الشهيرة، فضلًا عن مراكز العلم الإِسلامية المهمة كالأزهر والقرويين والزيتونة.
أخطر ما عرفته هذه البيئة الثقافية الجديدة هو تيار التغريب الواسع، الذي يقود من معه نحو تنفيذ المخطط الغربي الذي يريده للعالم الإِسلامي، وللأسف فهو وإن ادعا تقليد الغرب، فالحقيقة أنه ليس داعيًا إلى تقليد الغرب وإنما هو أداة لتنفيذ برامج غربية يُراد صياغة العالم الإِسلامي على منوالها؛ لأن هذا التيار لو دعا لتقليد الغرب لكان هناك من الأمور الحسنة التي ينبغي أخذها عن الغرب ما يكفي لتفهم موقفهم من علوم رياضية وهندسة وعمران وإدارة وعلوم طبيعية وعلوم الطب وعلوم الصناعة والتقنية وغيرها كثير، ولكن بالعودة إلى تيار التغريب لا نجد شيئًا واضحًا في هذه الجوانب بخلاف ما لا نفع فيه أو نفعه مشكوك فيه أو ضرره أكثر من نفعه من أفكار وأيديولوجيات وآداب وفنون وغيرها، بخلاف الأمور النافعة فقد شارك عامة المسلمين في نقلها بحيث لا يحسب ذلك لأهل التغريب.
(1) انظر مثلًا: نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 22 - 23.
إن مشروعات التحديث التي دعا لها "الطهطاوي" و"التونسي" وغيرهما قد أغفلها الاستعمار وتيار التغريب، وتحول التحديث إلى تغريب، من ذلك التحديث في أبواب العلوم والمعارف إذ تحولت إلى مشروع لنقل ثقافة غربية لا تناسبنا ولا نحتاجها، فما هو تيار التغريب؟ وما أثره في الانحراف بالعلوم الحديثة؟ وما المشكلات التي صنعها في بنية تعليمنا الحديث؟
يأتي في التمهيد موضوع التعريف بتيارات التغريب، وهو خليط غير متجانس من آثار التنوع الغربي المؤثر، فكل مجموعة قلّدت مذهبًا أو مدرسة أو تيارًا أو غير ذلك مما عُرف في الغرب، يجمعها أن وجهتها نحو الغرب ورؤوس أصحابها قد استدارت إلى حضارتهم وثقافتهم.
لم يكن يتم الاختراق الغربي بكل توجهاته للعالم الإِسلامي إلا بإيجاد فئة تتقبله وتهيئ أرضية مناسبة للحركة، وقد اتخذ ذلك عدّة طرق: الاهتمام بالمبتعثين ورعايتهم، فمنهم من نجح الغرب في التأثير عليه وتوظيفه، ومنهم من نجا ونجح في مقاومة ذلك. ومن الطرق تلك الإرساليات المختلفة من الغرب: إما دينية بنشاطها العلمي والصحفي، أو منظمات سرية كالماسونية التي برزت في القرن (13/ 19). ونجح ذلك في استقطاب عدد من المسلمين، ليكونوا مجموعة أوسع خدمت الوجود الاستعماري فيما بعد، وخدمها هو أيضًا.
بدأت معالم نشاطهم في تكوين جمعيات سياسية واجتماعية وفكرية، تضم بداخلها النوعيات المتغربة أو تلك القابلة لعملية التغريب، بدأ ذلك في نهاية القرن (13/ 19) فانتشرت جمعياتهم ولاسيما في مصر والشام، ومع أول القرن (14/ 20) تحول بعضها إلى أحزاب سياسية مهيأة للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ توجيه مسيرة البلاد، وقد دعم الاستعمار بعض هذه الأحزاب وهيأ لها الوصول إلى السلطة في أثناء وجوده وأعطاها الأمر بعد خروجه.
يمكن تصنيف هذه الجمعيات والأحزاب التغريبية في ثلاثة اتجاهات وهي: قومية وأبرزها كان في بلاد والشام، وليبرالية وأشهرها انطلق من مصر مع حزب الأمة، وثالثها ماركسية واشتراكية وكانت تاريخيًا بعد الأولين، ولاسيما بعد نجاح الثورة البلشفية، فكان لهذه الاتجاهات الثلاثة أحزابها وجمعياتها، وكان هدفها الوصول إلى السلطة وقيادة البلاد التي هي فيه، وكان لها مفكروها وتياراتها الفكرية وصحافتها وإعلامها ومنابرها، وكان لها نشاطها الكبير وقت
الاستعمار وبعد خروجه، واستأثروا بالساحة الإِسلامية، حتى ظن البعض أن الإِسلام قد أقصي تمامًا مع هؤلاء، حتى جاءت الصحوة الإِسلامية لتبدد أحلام التغريبيين وتستعيد استنهاض الأمة وتنقذ آلاف الغرقى.
بالنسبة للأحزاب القومية فقد ظهر اختراق النصارى لها، ولاسيما مع انطلاقها من بلاد الشام التي عرفت وجودًا كبيرًا للإرساليات وكلياتها ومعاهدها وصحافتها والرموز التي صنعتها، بدأت قديما مع "بطرس البستاني" وجمعياته، ثم جاء التحول الكبير مع إنشاء جمعيات سرية نهاية القرن (13/ 19) وكان من كبار قوادها ومنظريها مجموعة من النصارى أو من أتباع الفرق الغالية المنتسبة للإسلام (1). وأما الأحزاب الماركسية وجمعياتها فقد ظهر اختراق اليهود لها، حيث غلب على قياداتها السياسية والفكرية الوجود اليهودي: في مصر أو العراق أو بلاد المغرب (2). وأما القسم الليبرالي الذي عرف في مصر فقد كان لأفراده الأوائل صلة بالماسونية، وهم في الوقت نفسه من المسلمين المتأثرين كثيرًا بالحضور الغربي الكثيف في مصر لدرجة ابتعادهم عن الإِسلام واختيار العلمنة والحضارة الغربية بديلًا عنه.
ونظرًا لصعوبة المنافسة بين هذه الأحزاب الثلاثة فقد حدث دمج فكري وسياسي بينها، فظهرت لدينا في أثناء الاستعمار ثم بعد خروجه تيار "قومي اشتراكي علماني" وقد تمثل بوضوح في التجربة الناصرية (3) أولًا، ثم في حزب البعث، والأحزاب الاشتراكية، التي وصلت للسلطة في بلاد المغرب "الجزائر وليبيا مثلًا" أو اليمن، وبوصولها جميعًا إلى السلطة بدأت أقسى عملية تغريب تولاها بنو جلدتنا بعد أن خرج المستعمر، وقد استعان في ذلك بالمؤسسة
(1) انظر: فكرة القومية العربية في ضوء الإِسلام، د. صالح العبود، ففيه بحث موسع عن هذه الجذور الفصل الثاني والثالث، وانظر: الموسوعة الميسرة. . . . 1/ 444 وما بعدها، وانظر: المؤامرة الكبرى على بلاد الشام، محمَّد الخالدي ص 155 وما بعدها.
(2)
انظر: التيارات الفكرية والعقدية. . . .، محمَّد الخالدي ص 120 وما بعدها، وانظر: اعترافات لشيوعي بارز "د. لويس عوض"، العنقاء ص 11 من المقدمة، واعترافات شيوعي آخر سابق عن الدور اليهودي "أحمد سليمان"، ومشيناها خطى. . . . ص 55 - 60 - 63 - 77 - 127 - 135.
(3)
انظر: الموسوعة الميسرة. . . . 1/ 458 وما بعدها.
التعليمية والتعليم، والمنظومة العلمية فضلًا عن المجال الثقافي عمومًا.
فانحرفت هذه التيارات الجديدة بحركة العلم والتعليم، وفتحت الباب لوجود بيئة علمية تُوظَف ضد دين الأمة وهويتها، وفي المقابل تُستنبت قيمُ حضارةٍ أخرى في هذا المجال وغيره، وبحسب الميول الغالبة للحزب يكون التوجه إما نحو الشرق الغربي الماركسي أو الغرب الليبرالي.
امتلكت هذه الأحزاب: المؤسسة العلمية والصحافة والإعلام ومنابر الفكر والثقافة ومؤسسات الفنون والآداب، وكل مؤسسات التأثير في الناس وحولتها بما يتوافق مع رؤاها. ونظرًا لأن البحث سيركز في أثر التيار التغريبي فلن أتحدث هنا عن أثره في الانحراف بالعلم الحديث ومناهجه ونظرياته؛ لأن الفصول القادمة بمباحثها كلها تتحدث عن هذا الدور، إنما الحديث هنا عن وصول تيار أيديولوجي إلى السلطة، وبما أنه تيار أيديولوجي فهدفه واضح: لابد من تغيير هوية المجتمع عبر كل وسائل التأثير وتحويلها إلى أيديولوجية السلطة؛ أي: أنه تيار له رسالة وليس صاحب سلطة أو رئاسة أو مال -وإن كان فيه كل ذلك- ولكن رسالته كانت أوضح: هدفها تغريب المجتمع.
يختلف الأمر عندما توجد سلطة هدفها السلطة ومكاسبها، لذا لا يتغير الكثير داخل المجتمع وإن تضرر بظلمها واستبدادها ونهبها لخيرات البلد واستغلالها لأمواله، بخلاف تلك التي تهدف مع امتلاك السلطة إلى فرض أيديولوجيتها مثل هذه الأحزاب التغريبية، فإنها تحول سلطتها إلى أداة لفرض أيديولوجيتها على المجتمع. وقد وجدت هذه الأحزاب في الفكر الغربي وآدابه وفنونه أداة مناسبة لتحقيق هذا الهدف، بما يعزز تمكنها من السلطة وبما يخدم تحقيق أيديولوجيتها التي هي في النهاية أيديولوجيا نجح الغرب في استزراعها داخل البيئة الإِسلامية ووظف هؤلاء المتغربين في نشرها.
ونظرًا لوجود هذا الإِسلام العظيم عقبة في وصولهم لأهدافهم، فقد فتحوا الباب لكل ما يجدونه في الغرب ضدّ الدين، واستخدموا كل الأدوات التي عرفها الغرب ضد الدين، ومع الاختلاف بين الحالين والمجالين، إلا أن التغريب قد حاول تبيئة تلك الأدوات، لتكون ضدّ الإِسلام ذاته بعد أن كانت في الغرب ضدّ الكاثوليكية في الأساس. ومن الأدوات التي استخدموها النظريات العلمية المختلفة التي تحقق لهم تشكيك المسلمين في دينهم، بل يُلبِسون كل
الأفكار الغربية ثوب العلمية في أثناء توظيفهم لها في انتقاص الإِسلام والطعن فيه ويتفانون في الدعوة له ولو خالف ذلك المعقول (1).
كما أنهم كوّنوا نظامًا علمانيًا سياسيًا، ومن ذلك تولد مشروع علمنة المجتمع عبر علمنة مؤسساته ونظمه، وقد حظي التعليم بنصيب الأسد من ذلك، وكما اعتنى الاستعمار بعلمنة التعليم وإقصاء روح الإِسلام من مؤسساته واصلت الأحزاب التغريبية هذه المهمة، حتى أصبح الإِسلام غريبًا فيها أو غير معروف لطلابها.
لقد ظهرت الدولة "القومية العربية الاشتراكية" في مصر والعراق والمغرب واليمن وغيرها نموذجًا لنجاح تلك الأحزاب الثلاثة، ومن أخطر ما تبنته هو العلمانية، ولاسيما بصورتها الكمالية نسبة لكمال أتاتورك التي لم يعرفها حتى الغرب الذي أنشأها (2)، ومارست عملها الخطير في مؤسسات المجتمع وأكبر ضحاياها مؤسسة التعليم، حيث تحولت هذه المؤسسة إلى تحقيق الأيديولوجية العلمانية لهذه الدولة العصرية، وكانت هذه الدولة -دولة ما بعد الاستعمار- ثمرة الجهد الطويل من تغريب المجتمع الإِسلامي التي تولت بعد ذلك مأسسة الحياة كلها وفق قيم غربية تسمح ببقائنا في حالين خطيرين: البعد عن الإِسلام والضعف أمام العالم.
بعد هذه الرحلة ماذا نقول؟ عندما نقارن أسباب التقدم بأسباب الانحراف ماذا نجد؟ ما الخلاصة التي نصل إليها؟ لو كانت أسباب التقدم موجودة وعاملة لرأينا ثمارها ورأينا الإسهام في العلم، ورأينا الاستقلال العلمي الواضح، ولكن لا يوجد شيء واضح من ذلك، وها هي فكرة الابتعاث تزداد دون توقف، وهاهي الفجوة تتسع دون توقف، مع مرور ما يقرب من قرنين، وهو يعني أن هناك
(1) ذكر "محمَّد باروت" في كتابه: حركة القوميين العرب طرفةً عن أحدهم، عن الغلو الذي وصل ببعضهم لدرجة عرضه أفكار "إنجلز" حول تحول القرد إلى إنسان لأحد الفلاحين فكاد يفقد حياته ص 464.
(2)
لقد قارن كاتب مدافع عن العلمانية بين علمانية أتاتورك وبين ما يتمناه، والحقيقة أن تلك التي وصف بها علمانية أتاتورك هي نفسها التي طبقتها الأحزاب العربية، انظر: الفكر الغربي في القرن العشرين. . . .، شاكر النابلسي 2/ 219 وما بعدها، وانظر: المرجع نفسه 2/ 279.
أمراضًا مصاحبة لهذا النشاط العلمي تعليق نموه، ولكن هناك ما هو أسوأ من ذلك في المرحلة الماضية؛ وهو الانحراف الذي تسرب إلى هذا المشروع التحديثي المهم، وتوغل بقوة في الرؤية وفلسفة العلم وعلاقته بالدين. . . .، وأصبح حملًا ثقيلًا على الأمة، ويحتاج لجهد كبير من الفكر الإِسلامي المعاصر حتى يخلص الأمة من هذا الحمل، ومن أفضل الوسائل لتحقيق ذلك البحث في أسباب وجوده، ثم محاولة تصحيح الخطأ، ومنع الفساد، ومواجهة الأهواء، وقد أوصل التحليل السابق لمجموعة نتائج ذات صلة بهذا المطلب الإصلاحي، وأهمها:
أولًا: أن ضعف مؤسسات العلم الإِسلامية وعدم مبادرتها في تصحيح المسار قد فتح الباب لغيرها، فابتعد مسار العلوم العصرية عن مسار العلوم الإِسلامية، وأخطر صور الضعف الانشغال بعلوم لا نفع فيها أو بأعمال لا ثمرة منها، وأثر ذلك في صنع تصورات معيقة للعلم والعمل الصحيح، ومن بوادر التصحيح ما نراه من نشاط بارز في العالم الإِسلامي من جهة الأسلمة أو التأصيل أو غيرها من المشروعات. ولكن في التجربة الماضية ما يكفي من الدروس للأمة الإِسلامية بعدم التهاون مع العلوم الدنيوية من جهة وضع التصورات والأطر، ومن جهة العناية بها وحث النابهين لتحصيلها وتخفيف موانع تعلمها مع تقوية ربطها بالتصور الإِسلامي، وأهمية تصحيح العلاقة بين علوم الدين وعلوم الدنيا بعد أن فصلت بينها التجربة المعاصرة، ووضعت إسفينًا في تلك العلاقة، وها هو "الشافعي" رحمه الله أحد أعلام الأمة وأحد المؤسسين للعلم الإِسلامي يقول:"العلم علمان: علم الدين وهو الفقه، وعلم الدنيا وهو الطب، وما سواه من الشعر وغيره، فعناء وعبث"، وقد تعلم الطب كما تعلم علوم الدين، وكان له عناية بذلك رحمه الله (1).
ثانيًا: تعد المدرسة مكان العناية بالعلم العصري بما تحويه من رؤية ومنهج وموضوعات، وقد كانت تجربتها مريرة؛ حيث حُرمت المشروعات الإصلاحية المتكاملة من النجاح بخلاف تلك الضعيفة أو المتغربة أو المشبوهة أو الأجنبية
(1) انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 41، وانظر: مقدمة الرسالة للشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر 1/ 7.
التي فتح لها المجال، وكانت إدارتها وتوجيهها -غالبًا- بأيد غير أمينة فلوثت مستقبل هذه المؤسسة المهمة، وأصبحت في بعض الفترات تمثل معاناة للأسرة المسلمة، وقال مفكر عاصرها: إن الطالب يدخلها بدين ويخرج منها بدين، فكيف نأمل من مدرسة بمثل هذه الحال أن تنجح في الرقي بالعلوم دون ضياع الدين، بل على عكس ذلك فقد تحولت إلى جاذب لما يضر بهوية الأمة دون أن تحقق الاستقلال الحقيقي في العلوم النافعة. وستبقى هذه العلوم تائهة ومضرة ما لم يملك العالم الإِسلامي مؤسسته العلمية؛ أي: يملك وضع التصور والرؤية والرسالة والأهداف والقيم.
ثالثًا: أما أثر الإعلام، ولاسيما المكتوب منه فهو خطير، ويظهر بوضوح في الرأي العام، وليس المقصود عموم المجتمع وإنما طبقته المتعلمة والمثقفة التي تجد مصدر معرفتها من هذا المنبع، وهو الغذاء المعرفي الذي يكوّن تصور القارئ ورؤيته ومواقفه، وهم طبقة مهمة وفي ازدياد، هذه الطبقة تتشرب رؤيتها وتصورها في العصر الحديث من خلال وسائل الإعلام، وقد نشأت صحافة علمية أو تهتم بالعلوم العصرية ولكن سبق إليها قوم تأثروا بالتغريب، وبلغ ببعضهم مبلغًا من كره الإِسلام والدين والرغبة في هدمه، واستعانت تلك الصحافة بتوظيف العلم ونظرياته في مآربها، وصوّرت العلم كأنه عدو للدين أو على أحسن أحوالهم جعله الممثل الحقيقي للصواب والمعرفة والعقلانية والنفع بخلاف الدين الذي قد أدى دوره بحسب زعمهم في زمن مضى وهو يسلم دوره الآن للعلم. وذلك الحدث يلفت الانتباه لخطورة الإعلام وأهمية دوره في صناعة الرأي العام والتأثير فيه، ومن المهم للمشروع الإِسلامي التصحيحي والتجديدي الانتباه لوسيلة الإعلام، واعتبارها مشاركًا مهمًا لأي مشروع تصحيحي وتجديدي في مجال النهضة العلمية، وإن ما غرس من خلال الإعلام لسنوات طويلة حول العلم ومناهجه ونظرياته مما يعارض الدين يحتاج منا استخدام الوسيلة نفسها لإصلاح ذلك ثم للتجديد والنهوض، وبالله التوفيق.
رابعًا: وهو أكثرها إشكالًا؛ أي: تلك التيارات الفكرية المتغربة، ولاسيما ما له علاقة بمشكلة البحث، فهذه التيارات بأشكالها المختلفة متأثرة كثيرًا بقدوتها الغربية، ومن ذلك: اصطناع مشكلة بين الدين والعلم، وتوظيف العلم الحديث في هدم الدين، أو جعله بديلًا عن الدين، أو علمنة العلم. وإشكاليته
أن صاحب الهوى يجتهد في نشر هواه، ويدافع عن ذلك ويستغل كل وسيلة لتحقيق هدفه، كما أنه مولع بتقليد قدوته لدرجة أنه لو دخل جحر ضب لدخله كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن"(1)، فهذا يمثل عامل استمرار للمشكلة، فكلما انطفأت أوقدوا نارها بشبهة جديدة، وهو في المقابل عامل تحفيز للفكر الإِسلامي أن يبقى مناضلًا في مشروعه ومجاهدًا جهاده العلمي والفكري لمثل هؤلاء الضالين أو المضلين.
خامسًا: أما الاستعمار ورغم انقشاعه عن العالم الإِسلامي، فإن آثاره عميقة وخطيرة، ويكفي ذلك التحالف مع الطرف السابق -التغريبي، وثمار ذلك التحالف في استمرار مشروع الاستعمار بأيد من بني جلدتنا، وخطورته تتمثل في تركيزه على علم يخدم الاستعمار دون أن يحقق قوة الأمة واستقلالها المعرفي، وما زال المستعمر القديم يخدع من ينخدع له بمشروعاته التي تضمن استمرار سيطرته وتفوقه. ولا شك أنه رغم ذهابه الظاهر إلا أنه ما زال يمثل تحديًا للفكر الإِسلامي: من جهة الآثار العميقة التي خلفها وراءَه، ومن جهة المتغربين الذين يواصلون تنفيذ أهداف المستعمر، وأخطر ما قام به الاستعمار هو عملية إقصاء العلم الديني وجعله في مرتبة نازلة مقارنة بالعلوم الأخرى، وعملية الفصل بين علوم الدين وعلوم العصر مقتفيًا في ذلك التصور العلماني السائد في أوروبا، وبإدخاله فيروسات خطيرة في صلب العلم العصري الذي أدار مؤسساته لسنوات داخل العالم الإِسلامي، مما جعله قابلًا، بل جاذبًا للانحرافات بيسر وسهولة ودون مقاومة تذكر.
سادسًا: البيئة الجديدة التي تشكلت مع التحولات والتغيرات الحديثة، وهي تحولات ضخمة، ويكفي التأمل في المسائل السابقة على مستوى العلم والفكر والثقافة، لنعرف ضخامتها، وربما يشعر المحلل التاريخي أن أمة مرّت بهذه التغيرات مصيرها الفناء والزوال ومع ذلك فقد صمدت، بل تجاوزت عقبات
(1) البخاري برقم (7320)، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وعند مسلم برقم (2669)، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى.
مهلكة، وهذا من حفظ الله لهذه الأمة. ولكن ظهرت بيئة جديدة من أثر العوامل السابقة تتحرك فيها الانحرافات بسهولة، وهي رغم انتفاشتها ضعيفة؛ لأنها تستمد قوتها من الانتماء لهوية مغايرة لهوية الأمة، وهذا ما تنفر منه النفوس عند انكشاف الحقيقة لها، ولكنها مع ذلك أصبحت أرضًا لاستمرار الانحراف بالعلم ولاسيما مع بروز تيارات فكرية تغريبية جديدة تنافس الفرق الدينية القديمة.
بقي التنبيه على أمرين يكشفهما التحليل التاريخي والمنهجي بوضوح، وهما: أن سبب البعد عن الإِسلام هو سبب الضعف والتخلف من جهة؛ لأن الأمة ما ارتقت إلا بعد أخذها هذا الدين بقوة، بل العالم كله تغير بعد ظهور الإِسلام، كما أن سبب ظاهرة الانحراف بالعلم تعود بحسب المظاهر السابقة إلى البعد عن الدين، فما كان لتلك العوامل أن تؤثر -لولا ضعف المسلمين وتقصيرهم- في التزامهم بدينهم، ويبرز الحل واضحًا لمعالجة الأمرين، وذلك بالعودة الصادقة لهذا الدين والاعتصام بالوحي والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه.
أما وقد تعرفنا على العلم الحديث في الغرب وتطوره، ثم مظاهر الانحراف به هناك، ثم تعرفنا على صور طلبه في العالم الإِسلامي والصعوبات التي قابلوها، ثم مظاهر الانحراف به في البيئة الإِسلامية، فسنتعرف الآن بإذن الله على الاتجاهات الكبرى التي ظهرت في العالم الإِسلامي في التعامل مع هذه المستجدات مع التركيز على صورتها المنهجية.
الفصل الخامس أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
• المبحث الأول: موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة.
• المبحث الثاني: موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث.
• المبحث الثالث: موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين.