الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخلاصة هذه الفقرة أن العلمنة بدأت كمشروع لتخفيف سلطة الكنيسة، ولكن العلم عندما انفصل عن الدين وجد نفسه دون إطار يحتويه، هنا جاءت العلمانية كإطار بديل بعد أن تشبعت بكراهية الدين وبالمادية فوجهت حركة العلم -سواء شعر العلماء بذلك أو لم يشعروا- نحو المادية ونحو الخصومة مع الدين. وقد أفرز لنا هذا الجو العلماني اتجاهات علمانية كثيرة، أهمها الاتجاه المادي والاتجاه الوضعي، وقد توليا بدورهما الانجراف بالعلم إلى أبواب خطيرة حول الدين والقيم، وحولوه إلى سند للإلحاد والمادية والدنيوية، والفقرة القادمة للمادي منهما.
الثالث: دور الفكر المادي في انحراف العلم
أ - ما المادية
؟
مما نعتقد بأن أهم مذهب فكري أسهم في انحراف مسيرة العلم الحديث أو استغل نجاحاته في الانحراف الفكري هو الاتجاه المادي، وأنه كان أقوى الأسباب في ذلك، ساعده في تلك المهمة الشهرة التي حظي بها المذهب في العصر الحديث وقت تطور العلم، مبديًا زعمه المتواصل بأنه الممثل الشرعي الحقيقي للعلم والمتحدث باسمه، فللنظر لحقيقة هذا الأثر:
المذهب المادي تيار عريض في الفكر الغربي، وعادة ما يقسم الفكر الغربي إلى قسمين: مثالي عقلاني وآخر مادي، والاتجاه المادي (1) مذهب يرى بأن المادة هي الحقيقة المطلقة، أزلية أبدية، "أزلية لم يخلقها أحد، ولا توجد في هذا العالم آية قوى غيبية لا تخضع لقوانين الطبيعة"(2)، وهي الفاعلة وحدها لا تفتقر لسواها، ويفسر أصحاب المذهب المادي كل شيء بأسباب مادية. وهي مذهب قديم، وأقدم ما حفظ منه هو ما جاء عن بعض فلاسفة اليونان مثل "ديمقريطس" و"إبيقور" وغيرهما، تنتشر في فترات من التاريخ وتضعف في
(1) انظر تعريفه: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 309.
(2)
أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف ص 9، ترجمة عبد الرزاق الصافي، وقد ذكر لي أ. د. محمود مزروعة أثناء المناقشة اختلاف الماديين في تعريف المادة، وقد وصلت التعريفات إلى ثلاثة وعشرين تعريفًا، مع أن العلم الحديث لم يعرف من خصائصها سوى 7%.
أخرى، إلا أنه من المؤكد بأن المذاهب المادية قد ضعف شأنها في أوروبا بعد نجاح الفلسفات العقلية المثالية أو اعتناقها فيما بعد للنصرانية.
غالبًا ما يميز أصحابها المعاصرون بين مراحل تاريخيه لها، منها ما ذكره "روجيه غارودي" بأن للفكر المادي أربع مراحل (1)، وهي باختصار:
كانت الأولى في المادية اليونانية القديمة التي ترى بأن المادة هي الحقيقة الثابتة والجوهر الوحيد والمدبرة لكل شيء. ثم جاءت المرحلة الثانية -بعد الثورة العلمية- في القرنين الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر، وكان أهم ممثل لها "التيار المادي الفرنسي" الذي اشتهر كممثل لعصر التنوير من أمثال "ديدرو" و"دولباخ" و"لامتري" و"هيلفيتيوس" في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، وقد تميزوا عن أصحابهم في القرن الحادي عشر/ السابع عشر بالانفتاح على الجمهور (2)، وبنشرهم الفكر المادي بلغة سهلة وجذابة يتشرّبها أكثر الناس، ولعبت صالونات الماديين دورًا كبيرًا في عملية النشر كأبرز وسيلة إعلامية ودعائية في تلك المرحلة كان أشهرها صالون "دولباخ" -هولباخ- الألماني والمقيم في باريس. وقد كانت "موسوعة ديدرو"، وكتاب "الآلة الإنسانية" لـ"لامتري"، وكتاب "نظام الطبيعة" لـ"دولباخ"، أشبه بالأناجيل الجديدة للتيار المادي، وتعد المرجع المهم للمادية آنذاك. وتبعهم فيما بعد أحد أهم رموز هذه المرحلة الفيلسوف المادي الألماني فيورباخ الذي تجمّع في فكره الإلحادي أغلب خلاصات الفكر المادي، وبقدر ما جعل مهمته الدعوة للإله الجديد "المادية" بقدر ما "اعتبر نقد الدين أجلّ قضية يكرس لها حياته"(3)، ليؤصل رؤية جديدة لحركة الماديين؛ إذ لا يكفي إعلان المادية كدين جديد والدعوة لها، وإنما لابد من تحطيم الأديان. ومما يُلحظ بأن ألمانيا قد أخرجت كبار الملاحدة في العصر الحديث من دولباخ إلى ماركس ونيتشه.
ثم كانت المرحلة الثالثة بحسب تقسيم "غارودي" هي مادية الثوريين
(1) انظر: النظرية المادية في المعرفة، روجيه غارودي ص 68، ترجمة محمد عيتاني، وانظر: تمهيد للفلسفة، د. محمود زقزوق ص 173.
(2)
انظر: موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من الأساتذة السوفيات ص 207، ترجمة وتقديم د. توفيق سلوم.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 300.
الديمقراطيين الروس وما حولها، ومن أشهرهم "تشيرنيشيفسكي"، فقد طوروا "التقاليد المادية والإلحادية والديالكتيكية في روسيا"(1)، وربما كانوا الطليعة التي هيأت روسيا لتكون فيما بعد موطن أهم دولة تتبنى الفكر المادي الإلحادي الصرف.
أما المرحلة الرابعة -وهي الأشهر- فهي "الماركسية المادية الجدلية/ الديالكتيكية" التي أسسها "ماركس" في الأساس وبمشاركة صديقه "إنجلز"، لتصبح بعدهما أهم مذاهب القرن التاسع عشر وأغلب الرابع عشر/ العشرين، صاحبها في الوقت نفسه مذهب مادي يتشارك مع الماركسية في الطابع المادي وهو المذهب الداروني المنتسب للعلم، وتتميز الأخيرة عن المراحل الثلاث عند أصحابها كما يزعمون بأنها الوحيدة التي توصلت إلى مفهوم علمي للديالكتيك (الجدل)، فتحولت المادية كما يقولون بذلك الاكتشاف من مذهب فلسفي إلى مذهب علمي، فيقرنون ماديتهم بالعلم، بل هي العلمية الوحيدة.
لقد كان لكل مرحلة من مراحل تطور المذهب المادي صورة معينة للعلاقة مع العلوم الطبيعية؛ لاسيّما وأغلب تلك العلوم موضوعها المادة، وهذه العلاقة منها ما هو اشتغال بهذه العلوم وتطويرها وهو ما لا نقصده في هذا البحث، ومنها ما كان مفسدًا لصفاء تلك العلوم ونقائها حيث لعب المعتقد الإلحادي للمذهب المادي دورًا بارزًا في الانحراف بمسيرة العلم وتوجيه العلوم في غير بابها. فمن الطبيعي عناية المذهب المادي بالعلوم المادية لأنها تخدم معبوده؛ إلا أن الاعتقاد الإلحادي لهذا التيار قد صرف عنايته بتلك العلوم -ولو على مستوى الادعاء وهو الغالب- إلى ما يخدم ذلك الاعتقاد الإلحادي. فوظف المذهب المادي العلمَ بصورة كبيرة في خدمة الإلحاد، وأظهر ارتباطًا حتميًا مزعومًا بين التقدم بالعلم وبين دعم صحة الموقف الإلحادي، فشوّه بذلك حقيقة العلم، وتأثر بذلك الكثير بمن فيهم بعض العلماء المنشغلين بهذه العلوم لدرجة أن انتشر تصورٌ في المجتمعات الغربية مفاده بأن العالِم لابد أن يكون ملحدًا، وكثرة وصايا بعض العجائز لأبنائهم محذرة من هذه العلوم لما تورثه من الإلحاد، ومن رأوه مشتغلًا بها غسلوا أيديهم من إيمانه بمعتقداتهم أو
(1) انظر: الموجز السابق ص 317.