الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - القرآن فيه تبيان كل شيء وهو يهدي للتي هي أقوم:
يواجه الشيخ طرفين متعارضين: طرفًا يتوهم أن هذه العلوم الدنيوية من علوم الكفار ولا يجدر بنا الالتفات إليها، وطرفًا يتوهم أن التقدم الحقيقي مرتبط بالعلوم الدنيوية التي تقدم بها الغرب وأنه لا يمكننا التقدم مع محافظتنا على الدين، فهما ضدان. وهناك نقطة مشتركة بين الطرفين، الطرف المحسوب على أهل الدين والطرف المحسوب على أهل التغريب، وهو أن هذه العلوم الدينية والدنيوية متعارضة ولابد من التضحية بأحدهما على حساب الآخر، فالطرف الأول يرى أن المهم النجاة في الآخرة ولو بقينا متخلفين وضعفاء ودون قوة دنيوية، والثاني يرى أن الدين شأن شخصي والناس في حاجة إلى دنيا تقوم لهم فيجدون الطعام والشراب والملبس والطب ووسائل الحياة الدنيوية السعيدة.
فجاء الشيخ عبر تفسيره لبعض الآيات ليرد على الطرفين، وبين أن هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء ويهدي للتي هي أقوم، لن يترك أي باب من أبواب حياة الناس دون أن يوجد لها الطريق المناسب، فهو أصل كل خير ديني ودنيوي، سواء عرفنا ذلك أم جهلناه، وحتى علوم البشر التي يبرعون فيها في الحضارات المختلفة ستجد أن هذا القرآن قد دلّ إليها، وأن العيب في أهله عندما فرطوا فيما دلّهم عليه من خير، وبهذا فلا تصح دعوى الطرفين، وإليك البيان:
قال المولى عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
قال المولى سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
[ففي الآية الأولى] تحول الشيخ إلى كتاب للسيوطي: "الإكليل في استنباط التنزيل" ونقل منه نقلًا مطولًا يوضح من خلاله بعض المعاني لهذه الآية، ومما نجده وله دلالة بما يحرص عليه الشيخ:
- أثر عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، قال البيهقي: أراد به أصول العلم (1).
- وقال ابن مسعود أيضًا: أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء،
(1) أضواء البيان 3/ 336، وهي في كتاب السيوطي ص 5 وما بعدها.
ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن (1).
- ونقل عنه أيضًا كيف خرجت علوم جمة من القرآن: من علوم القرآن وأصول الدين والفقه وأصوله وعلوم العربية والتاريخ والأخلاق وغيرها، ثم أعقب ذلك -نقلًا عن كتاب السيوطي- "هذه الفنون التي أخذتها الملة الإِسلامية منه. وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر، والمقابلة والنجامة، وغير ذلك"، ثم ذكر كيف دلّ القرآن على هذه العلوم (2).
- ونقل عنه أيضًا كيف أنه دلّ على أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، من الخياطة والحدادة والبناء والتجارة والغزل والنسيج والفلاحة وغيرها من الأعمال الدنيوية (3).
- ونقل عنه أيضًا كيف أن القرآن دلّ على عوالم أخرى من عجائب المخلوقات، وأحوال الأنبياء، وأحوال الأمم السابقة، ومسيرة الإنسان، واليوم الآخر والبعث، وغير ذلك (4).
ثم جاء تعقيب الشيخ فقال: "وإنما أوردناه برمته مع طوله؛ لما فيه من إيضاح: أن القرآن فيه بيان كل شيء. وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد، تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة"(5)، ونتفق مع الشيخ في ملحوظته، ونترك ما يُنتقد منه إلى المهم فيه، الذي وصفه الشيخ بكثرة الفائدة، ومن أهمها إيضاح أن القرآن فيه بيان كل شيء، ليس القرآن كتابًا في العلوم الدنيوية والصناعات ولكنه أشار إليها، وفي هذه الإشارة ما يكفي لحث المسلمين عليها وشرعيتها ما لم تخالف الإِسلام.
ومما يمكن استنباطه من هذا العمل للشيخ: إذا كان القرآن قد حوى كل شيء، حتى ذكر النملة والبعوضة والعنكبوت وحشرات أخرى، فهل يمكن أن
(1) انظر: المرجع السابق 3/ 336.
(2)
انظر: أضواء البيان 3/ 338 - 342، وما بين القوسين ص 341.
(3)
انظر: المرجع السابق 3/ 342 - 343.
(4)
انظر: المرجع السابق 3/ 343 - 345.
(5)
المرجع السابق 3/ 345.
يترك ما ينفع الناس دون إرشادهم إليه بالعبارة أو الإشارة، وفي أثر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة"(1)، فإننا وإن اختلفنا مع ما في كتاب السيوطي من تكلف في بعض العلوم، إلا أن القرآن الذي فيه تبيان كل شيء لن يترك ما ينفع الناس في دينهم أو دنياهم دون توجيه. وإذا كان الشيخ قد اكتفى هنا بالتلميح، فسيأتي التصريح في فقرة لاحقة؛ لأنتقل إلى معنى آخر يُحسُّ به في كلام الشيخ وهو أن يسعى أهل الإِسلام ليس في تحصيل هذه العلوم النافعة فحسب، فهذا شيء لا مفرّ منه، وإنما إلى البحث في إرشادات الوحي حول هذه العلوم، والأصول التصورية والأخلاقية والقيمية التي يمكن إضافتها إلى جسم هذه العلوم، في نوعٍ من الإشارة إلى فكرة التأصيل الإِسلامي لها، ومصدر هذا الإحساس هو نقل الشيخ لكلام السيوطي حول دلالة القرآن على أبواب كثيرة.
[وفي الآية الثانية]: قوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يعالج الشيخ في تفسيره لهذه الآية مشكلة العلاقة بين الدين والتقدم، فيقول:"ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جلّ وعلا -يهدي للتي هى أقوم؛ أي: الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. . . ."(2)، ثم استطرد الشيخ في بيان بعض الأوجه التي كان القرآن فيها أقوم "تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإِسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة"(3)، وعرض الشيخ لأكثر من عشر مسائل، على طريقة
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره، [النمل: 93] ص 991، وذكره الألوسي (روح المعاني) في تفسير {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وفي سورة [الرحمن: 2]، مع تفسير الشنقيطي (أضواء البيان) في الموضع السابق. وتوقفوا الوقفات نفسها، وقد قال عنه الشيخ الألباني: ضعيف جدًا، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم (1214)، قال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والديلمي عن أبي هريرة، من تفسير سورة [البقرة: 26].
(2)
أضواء البيان 3/ 409.
(3)
المرجع السابق 3/ 409.
"شبهات خصوم الإِسلام والرد عليها"، ومنها: توحيد الله سبحانه، وكون الطلاق بيد الرجل، والتعدد، والتفضيل في الميراث، وملك اليمين والقصاص بالقتل، وقطع يد السارق، وعقوبة الزنا، وأن الرابطة التي تربط بين المجتمع هي العقيدة وليست القومية، والحكم بغير ما أنزل الله، والمشاكل العالمية، فذكر بعض الشبه العصرية حولها وبيان كيف هدى القرآن فيها للتي هي أحسن (1).
نقف مع واحدة منها لها علاقة بالبحث وهي [أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين]:
فقال الشيخ: "ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين. فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإِسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإِسلام -باطل لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين. ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية"(2). واستدل الشيخ على دعوة الدين للتقدم بدليلٍ استدل به الكثير في العصر الحديث، وهو قوله -تعالى-:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، فقال:"فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة، ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد. ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين"(3).
وحذر مما خيّل به الكفار لضعاف العقول من المسلمين من أن هناك تباينًا بين الدين والتقدم، وأنه يستحيل اجتماعهما، وكان من أثر ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. وبين أنه لا يصح دينًا ولا عقلًا وضع ذلك التباين بين التدين والتقدم، فالمتمسك بالدين يجوز "أن يكون متقدمًا؛ إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلًا في جميع الميادين التقدمية كما لا
(1) انظر: المرجع السابق 3/ 409 - 457.
(2)
انظر: المرجع السابق 3/ 435 - 436.
(3)
المرجع السابق 3/ 436.