الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: الشيخ عبد العزيز بن باز
أختم هذا الاستعراض الموقف بعض الأعلام السلفيين من العلوم الجديدة ونظرياتها ومكتشفاتها بعلم معاصر بارز هو الشيخ "عبد العزيز بن باز" رحمه الله، ولاسيما مع ما يتهم به عند بعض المتغربين والعلمانيين بمعاداته للعلم والتقدم وغيرها مستندين على كذبة تكررت في كتبهم (1)، مكتفيًا بنموذج طريف كان له صداه وهو مسألة الوصول إلى القمر، لما في هذا النموذج من رد على المتغربين وتكوين منهجية إسلامية من المستجدات.
في أثناء الحرب الباردة -كما يقال- بين المعسكرين "الرأسمالي" و"الشيوعي" وقع تسابق محموم حول بحوث الفضاء، ومن ذلك تلك الرحلات المأهولة إلى الفضاء، ونزول بعضهم على سطح القمر (2)، فكثر الحديث حول الموضوع ووقعت أخطاء من بعض الفضلاء حول الاستشهاد بأقوال علماء أو بتحديد معانٍ لبعض النصوص تمنع وقوع ذلك، فجاءت مشاركات مختلفة ومنها
(1) انظر مثلًا: عرش المقدس. . . .، د. عبد الهادي عبد الرحمن ص 90، وانظر: العقل الايماني، حسن أحمد ص 73 ص 78 ص 116، يقول حسن:(وفي عصرنا الراهن نجد فقيه السلطة يكرس الفتوى ذاتها، فعبد العزيز بن باز رئيس هيئة الإفتاء في السعودية (سابقًا) يقول: "الفكر والكفر واحد بدليل أن حروفهما واحدة". ويجيز قتل من يقول بدوران الأرض وكرويتها، ومصادرة أملاكه بعد استتابته). وقد كرر هذا البهتان والكذب أكثر من مرة، مع أن الشيخ قد كذّبها من زمن طويل، سنة (1397 هـ) تقريبًا. انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ عبد العزيز بن باز 9/ 226 - 229.
(2)
انظر: ملحق المصطلحات للتعريف بمشروع الرحلات للقمر مادة (القمر).
مشاركة الشيخ "عبد العزيز بن باز" رحمه الله، ويهم منها النقاط المنهجية التي تفيدنا في أي حادثة تشابهها.
ذكر الشيخ "حماد الأنصاري" في مقالة له بمجلة "الجامعة الإِسلامية"(شوال- 1379 هـ) انقسام الناس حول الحدث إلى ثلاثة أقسام: فمصدق بهذا النبأ تصديقًا كاملًا، أو مكذب به وربما تجاوز ذلك إلى تفسيق القائلين بالصعود أو تكفيرهم -وهنا تظهر خطورة الأمر- بينما وقف فريق ثالث من أخبار هذه الحادثة موقف التثبت والاستبانة "حيث إنه لا يمكنه إعطاء معلومات يقينية على الرحلة إلى القمر، ولم يظهر لهم مقتضى الشرعية في ذلك؛ لوجود ظواهر ألفاظ آيات يحسبونها تقتضي استحالة النزول على القمر. . . ."(1)، فجاءت مشاركة الشيخ ابن باز رحمه الله في هذا السياق، ومن بين الأمور المنهجية المهمة التي تحدث عنها ما يأتي:
1 -
حرمة القول على الله بغير علم وأهمية التثبت:
"فلا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم والآخر أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، أو هذا جائز وهذا ممتنع، إلا بحجة يحسن الاعتماد عليها وإلا فليسعه ما وسع أهل العلم قبله، وهو الإمساك عن الخوض فيما لا يعلم، وأن يقول: الله أعلم، أو: لا أدري"(2). وقد ساق الأدلة على ذلك.
وفي بيان أهمية التثبت فقد أكّد الشيخ وجوب التثبت في هذا الباب وغيره من الأبواب، وعدم المبادرة بالتصديق أو التكذيب إلا بعد حصول المعلومات الكافية، "والتبيّن هو التثبت حتى توجد معلومات أو قرائن تشهد لخبر الفاسق بما يصدّقه أو يكذبه. ولم يقل سبحانه:"إن جاءكم فاسق بنبإ فردوا خبره"، بل قال:"فتبينوا"؛ لأن الفاسق سواء كان كافرًا أو مسلمًا عاصيًا قد يصدق في خبره فوجب التثبت في أمره" (3).
فإذا كان يجب التثبت من قول المسلم الفاسق فمن باب أولى غير المسلم،
(1) انظر: أين القمر؟ حماد الأنصاري ص 99، ضمن كتاب رسالة في علم النجوم. . . .، للخطيب البغدادي، من إعداد وتحقيق طارق العمودي.
(2)
الوصول إلى القمر، عبد العزيز ابن باز ص 86، في المرجع السابق.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 86 - 87.
وفي الوقت نفسه فإن الفاسق مهما كان نجده يصدق ويكذب، مع العلم أن النشاط العلمي الحديث الذي برع فيه الكفار يدخله الخطأ ويدخله الهوى كأي نشاط بشري، ولكنه في الوقت نفسه يجد المترصدين من باحثين منافسين ومراكز بحوث منافسة، تدفعهم المنافسة إلى فضح أي خطأ قام به المنافس لهم ويدفعهم حب الشهرة إلى إثبات ما يخالفه ما أمكن إلى ذلك سبيلًا، وهو شيء يعرفه من اطلع على النشاط العلمي الحديث. وهذا يدفعنا إلى تحذير المتساهلين من المسلمين عن التسرع في التكذيب أو الرد بحجة كفرهم أو إلحادهم بحجة أن انحرافهم يدفعهم للكذب، صحيح أنهم مظنة الكذب، ولكن لا يعني أنهم يستطيعون الكذب بسهولة، فسقْطةُ الباحث في ميدان العلم سقطة خطيرة، لذا تجدهم يتجنبون الكذب ولا يشترط تنزهم عنه بقدر ما هو خشية السقوط داخل الأوساط العلمية، وهذا بالنسبة لحالهم، أما بالنسبة لحالنا فما أجمل تلك القاعدة التي قالها الشيخ أثناء حديثه في الرسالة:"ولا يجوز أن يقال بامتناع ذلك إلا بدليل شرعي صريح يجب المصير إليه، كما أنه لا يجوز أن يصدق من قال: إنه وصل إلى سطح القمر أو غيره من الكواكب إلا بأدلة علمية تدل على صدقه"(1)، فمن جهة المنع لابد من دليل شرعي، ومن جهة الواقع لابد من دليل علمي، وهذا هو حقيقة المنهج الإِسلامي.
2 -
النهي عن التسرع في الحكم على مثل هذه المسائل وعلى القائلين بها:
فبقدر أهمية التثبت في هذه الأمور الحديثة، بحيث يكون في كل مجال بحسبه، فالتثبت في أبواب العلوم لا يكون إلا بالعلم ذاته، بالبحث والملاحظة والتجريب واستخدام المناهج العلمية والابتعاد عن الانطباعات الذاتية التي وجدتُ منها الكثير وأنا في غمار هذا البحث. وإذا كان التثبت مهمًا فإن الأخطر من ذلك هو "الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير حجة يعتمد عليها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من الجرأة على الله وعلى دينه ومن القول عليه بغير علم وهو خلاف طريقة أهل العلم. . . ."(2)، ثم استعرض بعض الأدلة المحذرة من ذلك.
(1) الوصول إلى القمر ص 94.
(2)
المرجع السابق ص 87.
3 -
سعة العلم تقلل مساحة توهم المخالفة أو التعارض:
إذا جاء العالم اختفت المشاكل أو قلت، فقد تقع الحيرة من العوام أو من طلبة العلم بخلاف العالم حيث نجد عنده ما يخفف الإشكال أو يزيله، فنجد الشيخ يقول:"قد تأملنا ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات المشتملة على ذكر الشمس والقمر والكواكب، فلم نجد فيها ما يدل دلالة صريحة على عدم إمكان الوصول إلى القمر أو غيره من الكواكب، وهكذا السنة المطهرة لم نجد فيها ما يدل على عدم إمكان ذلك"(1). يكتفي الشيخ بحسب تخصصه بالانطلاق من النص إلى الواقع أو الحادثة، ومن كان في مكانته كان بإذن الله أقدر على فهم النصوص والمراد منها. ويبقى بعد ذلك دور المتخصصين في تلك العلوم الانطلاق منها: من مناهجها وأدواتها وآلياتها ليتحقق من الأمر ويبين حاجتنا منها ويرتقي خطوة أكبر في تأصيلها وفي غرسها داخل ثقافتنا دون إشكالات.
4 -
الموقف من اجتهادات علماء الإِسلام السابقين وتفسيراتهم للنصوص:
أوضح ما نجده من أقوال لعلماء الإِسلام في الآيات الكونية نجده في تفاسيرهم، وقد يستعجل بعض طلبة العلم فينقل قول عالم من علماء الإِسلام في إحدى تلك الآيات الكونية مع أن ذلك القول قد يتعارض مع شيء من المعطيات العلمية الحديثة، ثم يجعل ذلك دليلًا على بطلان العلم الحديث في هذه القضية، وينسى بأن العالم المجتهد يجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر اجتهاده، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإن حكم واجتهد، فأخطأ، فله أجرٌ"(2). فإن وجدنا لعالم من العلماء قولًا في مسائل كونية يعارض ما اشتهر في العلوم الحديثة، فعلينا التأكد من سنده، وصحة نسبته لهذا العالم، ثم نتأكد من صحة فهمنا لقوله، ثم إن ذلك قد يكون مما أخطأ اجتهاده فيه. وقد وجدت لبعض من يكتب حول هذا الباب نقولات عن ابن كثير رحمه الله من تفسيره أو من تاريخه أو
(1) الوصول إلى القمر ص 88.
(2)
البخاري برقم (7352) باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم برقم (1716) باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الأقضية.
من غيره من المفسرين مع ما يظهر في بعضها من مخالفة لمعطيات علمية حديثة، ثم لا تجد اجتهادًا من الناقل، بحيث يتأكد من صحة الأقوال المنسوبة، أو من صحة فهم المعنى، فإن ثبت الأمران فقد يكون من الاجتهاد الذي أخطأ فيه العالم -وله أجر اجتهاده- إذا خالف معطيات علمية صحيحة، ومثل هذه تحتاج الرجوع لأهل العلم.
وكمثال، فأثناء استشهادات الشيخ توقف عند قوله -تعالى-:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وآية يس:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]. فنقل عن تفسير "الطبري" قول "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال ما نصه: الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر، وقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} [الفرقان: 61]، وقال: تلك البروج بين السماء والأرض"(1). قال "ابن كثير" حوله: "ورواه ابن أبي حاتم وهو غريب جدًا بل منكر"(2)، فقال الشيخ "ابن باز" معلقًا على كلام ابن كثير:"وقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير كلام ابن زيد هذا وأنكره، ولا وجه لإنكاره عند التأمل، لعدم الدليل على نكارته"(3). وابن كثير رحمه الله كان ينقل مما عُلم في عصره من "علم الهيئة" بل يذكر اختلافهم (4) حول ترتيب الفلك مما يدل على اطلاعه على هذه العلوم بحسب ما وصل إليه العلم في زمنه، ومن المعلوم بأنه علم يقبل التطور وقد حدث له شيء كثير بعد عصره، وهو رحمه الله لم يُغفل هذا العلم أثناء تفسير القرآن، ولكن لا يشترط أن صورة العلم في زمنه كانت كاملة، وحسبه أنه اجتهد فمن الخطأ أن نتوقف عند المكان الذي وقف فيه فيما يقبل النظر والبحث والاجتهاد، والله أعلم.
وبهذه الآداب والتوجيهات والمنهجية أختم هذه الوقفة مع الشيخ "ابن باز" رحمه الله، والغرض منها إبراز هذه الرؤى السلفية، وإزالة الأوهام والأكاذيب الملفقة على الأعلام السلفيين، وبالله التوفيق.
(1) الوصول إلى القمر ص 90 - 91.
(2)
تفسير ابن كثير ص 1109 - 1110.
(3)
الوصول إلى القمر ص 91.
(4)
كمثال انظر: تفسير ابن كثير، [الرعد: 2]، [الذاريات: 7]، [نوح: 15]، وانظر:[الكهف: 8]، [يس: 38].