الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالم الإسلامي قد نجح في تكوين تيار من اليهود والنصارى، وبعض من تأثر بهم من المسلمين يتبنى الرؤية العلمانية الجديدة في أوروبا بكل أبعادها، ومن ذلك ما له صلة بالعلوم العصرية، وقد اجتهد هذا التيار في نشر مثل هذه المشاكل داخل العالم الإسلامي عبر كل وسيلة يتمكن منها.
نقف الآن وقفة مختصرة مع أشهر الطرق التي تعرف المجتمع من خلالها على المشكلات المرتبطة بحركة العلم داخل أوروبا، ومع أول النظريات التي أحدثت المشاكل داخل النخب الإسلامية، وكان أول النظريات نظريتي "الفلك والتطور"، ونذكر هنا بأن ما يعرض في هذا القسم إنما هو الجانب التاريخي لنشاهد كيف عاش المجتمع المسلم هذه التجربة علّنا نكتشف ما يفيدنا في التعامل المعاصر مع مثل هذه الظواهر، وسأجعلها بإذن الله في فقرتين:
الفقرة الأولى: طرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات.
الفقرة الثانية: تاريخ دخول النظريات المشكلة للعالم الإسلامي.
1 - طُرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات:
طريق تعرّف المجتمع على العلوم العصرية يختلف عن طريق تعرف الدولة ونخبها كما أنه جاء متأخرًا، فالدولة العثمانية مثلًا كان بعض أجزائها من قارة أوروبا، فهي تسيطر على البلقان واليونان وغيرها من البلاد الأوروبية؛ مما يعني اطلاعها على ما في أوروبا، أيضًا عبر اتصالهم ببعض السفراء والتجار الأوروبيين، ولكنها لم تتخذ القرار المناسب في كيفية التعامل مع العلوم العصرية التي طورها الأوروبيون، أما المجتمع -ففي وقت لا اتصال فيه مع أوروبا- لم يكن قادرًا على معرفة ما يحدث فيها، بمن في ذلك علماؤهم ومفكروهم وعقلاؤهم، ولكن حدثت أمور أدخلت المجتمع في صلب التفكير بهذه المستجدات والاطلاع عليها (1)، وأهمها الصور الآتية:
الصورة الأولى: حملة نابليون على مصر، فهذه الحملة وإن نجح المسلمون في مقاومتها عسكريًا إلا أن فيهم من ضَعُف أمامها فكريًا؛ إذ كانت
(1) سأكتفي هنا بالعرض الإجمالي لهذه الصورة لارتباطها بالعرض التاريخي، وسيأتي التحليل النقدي لها في الفصل الرابع بإذن الله.
طريقة علماء الحملة أذكى من طرق نابليون، وإذا كان ما حرك الولاة في البلاد الإِسلامية هو نابليون بسياسته وإدارته وجيشه؛ فإن ما حرك علماء المسلمين وأذكياءهم هو حال علماء الحملة بعلومهم ومختبراتهم وصناعاتهم، لذا كانت حوارات العلماء حول هذه الحملة هو كيفية التخلص منها عسكريًا من جهة، وكيفية التعرف على ما عند علماء الحملة من علوم مكنتهم وزادت من قوتهم من جهة أخرى، وهذه كانت أهم نقطة اتصال لأهم شريحة من المجتمع الإسلامي بالعلوم العصرية، ولكن لم يُترك لها الأمر في تحديد الطريق المناسب لإدخال هذه العلوم إلى بلاد المسلمين، فبقي الأمر بينهم يدور على وصف ما شاهدوه من عجائب هذه العلوم، والذي يظهر أن الولاة آنذاك لم يكونوا حريصين على الانطلاق من هؤلاء المشايخ المحبين لمثل هذه العلوم؛ لذا أبعدوا الأزهر عن مثل هذا الباب، وحتى البعثة المشهورة التي عرفت بالطهطاوي وهو من الشيوخ المتخرجين من الأزهر إنما أُدخل في البعثة كإمام لها، ولكنه بعد أن فاق مجموعته وعاد -وهو العارف بالأزهر وعلومه- قام بعمل نقطة الوصل بين المجتمع وهذه العلوم العصرية لاسيّما في النخبة المهمة وهم الأزهريون.
هكذا كانت نقاط التعرف الأولى للمجتمع عبر احتكاك بعض الفضلاء بعلماء الحملة من جهة ولسماعهم أحاديث المبتعثين العائدين أو اطلاعهم على كتاباتهم من جهة أخرى ولاسيّما في نخب مصر وزوارها لاسيّما من قاصدي مجاورة الأزهر.
الصورة الثانية: مدارس الأقليات: وهي المدارس النصرانية واليهودية الجديدة المفتوحة للأقليات في بلاد المسلمين، إذ حدث توجه كبير في الغرب -توافق مع مرحلة التهيؤ الاستعماري- تمثّل في حملة واسعة لتعليم إخوانهم العلوم العصرية، وللأسف فقد بقيت هذه المدارس لسنوات تُخرّج الماهرين بالعلوم العصرية ليتسلموا الوظائف المهمة عند أغلب الولاة المسلمين لسنين كثيرة، بينما أهمل هؤلاء الولاة فتح ما يحتاجونه من مدارس للمجتمع ليتخرج منها من يسد حاجتنا في تلك الأبواب (1)، وكان ظهور تلك المدارس وقت توجّه الغرب بإرسال الإرساليات الهائلة إلى بلاد المسلمين بعد أن جاءتهم الفرصة،
(1) كانت المدارس التي فتحها "محمد علي" في مصر تخدم الجيش فقط أو الوظائف المهمة لسلطته، كما أنه لم يوجد منها معاهد عليا كالكليات التابعة للإرساليات.
وجَمعت مدارسهم بين تعليم الدين النصراني والعلوم العصرية، فكانت طريقًا آخر لتعرف المجتمع الإسلامي على تلك العلوم، وبسبب تأخر الأنظمة السياسية في معالجة الوضع؛ فقد انخرط كثير من أبناء المسلمين في تلك المدارس بعد أن وجدوا أن الوظائف والمراكز المهمة يتولاها الخريجون منها.
الصورة الثالثة: مدارس الولاة: بعض ما فتحه الولاة من مدارس في مصر والأستانة وتونس وإيران تهتم بالعلوم العصرية، عيبها أنها كانت في الغالب موجهة لخدمة الجيش، ولكنها لا شك قد كانت منفذًا لتعرف -ولو بنسبة قليلة- بعض المجتمع على هذه العلوم، وقد كان بعض معلمي الأزهر يُدرّسون بعض المواد في تلك المدارس الجديدة، مما يعني اطلاعهم على مثل هذه العلوم. وكان الأصل أن تكون هذه المدارس المنفذ الجيد لاطلاع المجتمع على حقيقة هذه المعارف وعلى ما نحتاجه منها، وأن تكون نواة تطور تلك العلوم؛ ولكن ربما بسبب ارتهانها لخدمة الجيش؛ صيرها ذلك الحال مدرسة عسكرية؛ مما قلّل من انفتاحها على المجتمع وأبعدها عنه، لذا لم تكن موطنًا اختياريًا لطلبة العلوم ولا كانت قادرة على تطوير العلوم (1).
الصورة الرابعة: الصحافة الأهلية: لاسيّما في الربع الأول من القرن الرابع عشر تقريبًا/ الربع الأخير من التاسع عشر، ولاسيّما تلك التي يحررها النصارى الشوام في مصر، فقد كانت بطبيعتها موجهة للرأي العام، يقرؤها الجميع بخلاف الكتب العلمية وما في بابها، وكان أشهرها آنذاك:"المقتطف" و"الهلال"، حيث كانت الأولى تركز على العلوم الطبيعية، بينما الثانية تركز على الفكر والعلوم الاجتماعية والإنسانية، في وقت كانت الصحافة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الجمهور المتعلم، فلا يوجد آنذاك وسائل أخرى تنافسها مما يجعلها ذات مكانة في المجتمع، كما أن المشغلات للناس كانت قليلة مما يزيد من تأثير تلك الوسائل.
(1) عرضت مجلة المنار مقالًا نقديًا عن (آثار محمد علي في مصر)، ومما فيه عن مدارسه:(كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى -الأفناء: الناس المجهولون- كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش)، مجلة المنار 5/ 175، سنة (1320 هـ -1902 م).