الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: ما قبل الثورة العلمية الحديثة "ممهدات الثورة العلمية
"
[1] التركة الأرسطية المتغلغلة في أواخر العصور الوسطى الأوروبية ومحاولتهم تجاوزها:
إذا كان مصطلح "الثورة العلمية" يقصد به التعبير عن واقعة غربية -أوروبية بالتحديد- فلابد من الاطلاع على أوضاع بلاد تلك الثورة؛ لنعرف على ماذا كانت الثورة! وذلك أن من دلالات الثورة أن تقع على وضع فكري أو اجتماعي متحكم يصعب تجاوزه سلميًا أو من خلال تطور طبيعي.
وحسب الدراسات المعاصرة في إبستمولوجيا العلم؛ فإن هناك بوادر قطيعة إبستمولوجية تحدث في نظام فكري بين واقعه وماضيه، ويعقب هذه القطيعة ثورة على ذلك الماضي. وماضي أوروبا هنا كان الفكر الموروث عن فترة اصطلحوا على تسميتها بـ"العصور الوسطى"، وهي مرحلة تاريخية أوروبية طويلة -أكثر من عشرة قرون- مرحلة اعتناق أوروبا للدين النصراني (1)، فتحولت في هذه المرحلة للنصرانية المحرفة بعد أن كانت بلادًا وثنية.
(1) العصور الوسطى: هي تعبير عن فترة زمنية أوروبية تقترب مدتها من ألف عام، ابتدأت تقريبًا ما بين الثالث والخامس الميلادي، ولم يحدث فيها إلا القليل من التطور في مجال العلوم المادية البشرية؛ وذلك لعناية الدارسين بعلم اللاهوت. وقد كانت عمدتهم في العلوم على الكتابات الإغريقية والرومانية، ومعتمدوهم في العلم "أرسطو" في المقام الأول ثم "إقليدس" و"جالينوس" و"بطليموس" وغيرهم. انظر: الموسوعة العربية العالمية، 16/ 362 - 363، وانظر: التفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 160.
وأضافت أوروبا لهذا الدين الذي اعتنقته علما ورثته عن اليونان، لاسيّما ما تبقى من التركة الأفلاطونية والأرسطية، وهذه التركة خليط من الفلسفة والمنطق والعلم والأدب، وغيرها.
وقد كان أثقل ما ورثته إنتاج أرسطو، الذي حدث له تعديلات كثيرة أشهرها ما قام به الفيلسوف والقديس عندهم "توما الإكويني"، حيث دمج التركة الأرسطية -الفلسفية والعلمية والميتافيزيقية- باللاهوت النصراني، وقبلت الكنيسة الكاثوليكية هذه التركيبة فيما بعد (1)، ومنذ ذلك الحين تغلغل الفكر الأرسطي في النصرانية المحرفة ولاهوتها الكلامي وتمكن من الفكر الغربي الوسيط، وبرزت هذه التركيبة تحت شعار التوفيق بين الدين والفلسفة أو بين الدين والعقل، ومن ثم جعل الفلسفة خادمة للدين اليهودي أو النصراني، وقد عرف هذا في أغلب فلسفات تلك المرحلة.
وعادة ما تذكر كتب "تاريخ الفكر" سيطرة فلسفة أرسطو ومنهجه وعلمه على الفكر الأوروبي في العصور الوسطى وما بعدها، حيث تحول ذلك العصر إلى عصر شارح لفكر أرسطو، لاسيّما بعد دمج تركة أرسطو بالمعتقد النصراني، ومن ثمّ إلزام الناس باعتقاد ما فيها والتحذير من الخروج عليها، وأي تجديد لتلك التركة سيكون محصورًا في إعادة الجمال لها دون تجاوزها. وقد امتد ذلك إلى ما بعد الثورة العلمية، فمصطلحات أرسطو هي السائدة على مدى ثمانية عشر قرنًا تقريبًا (2)، ويُتهم من يحاول الخروج عن الإرث الأرسطي بالتجديف
(1) عاش (توما الإكويني) زمن (فردريك الثاني)، ففي زمن حكمه تحمس أساتذة الجامعات للفلسفة الأرسطية وفلسفة ابن رشد، فعرفها توما، ثم انتقل إلى باريس، وتتلمذ على يد ألبرت الأكبر الذي غرس في قلبه حب أرسطو، وأقام توما بعد ذلك فلسفته معتمدًا على فلسفة أرسطو. وقد أُمر بعد ذلك بتدريس فلسفة توما في جميع المعاهد الكائوليكية، وبسبب ذلك أصبح أرسطو معدودًا بين الكاثوليك واحدًا من الآباء أو يكاد، وبات نقده يقرب جدًا من الكفر.
انظر: توماس الإكويني، كامل محمد عويضة ص 32 - 34، وموسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 426 وما بعدها، ومقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 154 - 156، و (أما الكنيسة فقد قررت أن نظام أرسطو -توماس ضروري لضمان صدق العقيدة)، العلم في التاريخ، برنال 2/ 89، وتاريخ الفكر الأوروبي. .، رونالد، ترجمة الشيباني ص 18 ص 26.
(2)
انظر: بنية الثورات العلمية، حاشية الفصل الأول ص 289.
والإلحاد والكفر، وتكون عاقبته مأساوية في الغالب، وهنا ظهرت عقبة التجاوز لتركة أرسطو (1)، فهي مهمة شاقة بل شبه مستحيلة لأهل ذلك العصر؛ لأن من يحاول تجاوز ذلك فهو إنما يتجاوز ما يظنّونه عقيدة إلهية.
وما سبق يكشف بأن تجاوز ذلك الفكر لن يتم إلا بثورة كبيرة تكسر الماضي وتحلّ محلّه، ولا يكفي أن تكون ثورة سياسية أو اجتماعية؛ بل هم بحاجة لثورة علمية وفكرية؛ وذلك أن الثورة السياسية أو الاجتماعية ممكنة الحدوث هنا أو هناك لارتباطها بأنظمة لا تدّعي الحقيقة غالبًا بقدر ما تهمها السلطة، أما الثورة العلمية فلا يمكن تحققها إلا بوجود قوتها الخاصة بها المتمثلة في الأدلة الكافية التي تكشف بأن ما كان يعتقده الناس علمًا ليس بعلم. هكذا، أصبح الإرث الأرسطي عائقًا من تقدم العلم وفي الوقت نفسه لم يستطع أحد تجاوزه، ومما يعمق الأزمة عدم إحساس الكثير بأنه عائق سوى قلة من العلماء والمفكرين.
ومن باب المقارنة فإننا نجد بأن نفس الفترة التي قام فيها "توما الأكويني" بحبس الديانة النصرانية والفكر الأوروبي في التركة الأرسطية؛ نجد في بلاد المسلمين عَلَمًا بارزًا وإمامًا عظيمًا يجتهد في إنقاذ البشرية من هذه التركة لا في صورتها اللاهوتية والميتافيزيقية فحسب، بل ومن منهجها العلمي والعقلي لما فيه من نقص وضرر، وذلك العَلَم هو ابن تيمية رحمه الله (2). فنراه على سبيل المثال يقول في أهم الآلات العلمية الأرسطية وهي المنطق:"وأيضًا لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار فيه إمامًا مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق"(3)، ويقول أيضًا: "فإن
(1) لقد ركز "برنال" على إيضاح كثير من المحاولات لتجاوز هذا الإرث الأرسطي لاسيما الجانب العلمي منه، وبين الصعوبات الكبيرة التي جابهت العلماء في ذلك، ولا تخفى ميوله الماركسية؛ ولذا فهو يفرح بكل ما يعارض الدين، انظر كتابه: العلم في التاريخ، المجلد الثاني: الفصل السابع كاملًا، والتفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 160 - 162.
(2)
كانت ولادته رحمه الله قبل وفاة توما الأكويني بعشر سنوات تقريبًا، فابن تيمية عاش بين عامي (661 - 728 هـ)(1263 - 1328 م)، وتوما عاش بين عامي (1224 - 1274 م).
(3)
نقض المنطق، ابن تيمية ص 168، تحقيق محمد الفقي.
علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول: لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلًا. فإن العلوم الرياضية: من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي، قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصلح من العلوم الطبيعية الكلية، والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيء من صناعة المنطق. . . ." (1).
فشيخ الإسلام رحمه الله يبين في كلامه -وأمثاله كثير- بأن العلوم البشرية المادية لا يفيدها المنهج الأرسطي، وإذا كانت أهم العلوم الدنيوية وأدقها وأشهرها من ذاك الزمن -وإلى اليوم- وهي:"العلوم الرياضية والطبيعية" في غير حاجة لمنهجه، وتجد مع ذلك أيضًا الحاذقين فيها غير مستعينين بالمنهج الأرسطي فلم التعصب له؟! ومفهوم كلامه رحمه الله أن هذه العلوم تطورت بدونه، ويمكننا بمفهوم المخالفة أن نقول: بأن هذا المنهج قد لا يفيدها، وإن كان مطلب شيخ الإسلام في المقام الأول هي العلوم الدينية؛ فكأنه يقول: إذا كانت العلوم المادية لم تنتفع بالمنهج الأرسطي مع أنه ميزانها في المقام الأول كما يزعمون؛ فمن باب أولى عدم انتفاع العلوم الدينية به. وسنجد أن أوروبا لم تحقق تطورها في باب العلوم ولا ثورتها العلمية إلا بعد هجومها الكبير على أرسطو، وما تمّ ذلك عندهم إلا بعد نقد شيخ الإسلام بقرنين تقريبًا.
وإن المسلم ليعجب اليوم ويألم من حالنا، فبعد أكثر من سبعة قرون من جهد شيخ الإسلام رحمه الله، ها نحن نرى بعض الناس يعظمون "أرسطو" ومنطقه أو آثاره في ما يسمى بالفلسفة الإسلامية والعلوم الكلامية، وكان الأصل أن نستفيد من نقده ونواصله لكي نتخلص من التركة اليونانية المعيقة لمسيرة أمتنا العلمية والفكرية، إلا أن الأمر عكس ذلك، فهذا هو منطق أرسطو يُدرس في معاهد إسلامية وكأنه شرط الفهم والعلم ودون نقد حقيقي له، ونجد أيضًا تركة أرسطو وغيره ما زالت متحكمة إلى حد بعيد بعلم الكلام الإسلامي إلى اليوم، بينما نجد أهله وبعد قرنين أو ثلاثة من دعوة شيخ الإسلام يُنجزون قطيعتهم مع أرسطو
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 9/ 20 - 21، وانظر: المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، مصطفى طباطبائي ص 126 وما بعدها.