الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجلين كان أكثر سذاجة؟ أهذا الشرقي الذي لم يسمع من قبل بالكهرباء، أم الأوروبي الذي ظن أن اكتشاف الكهرباء يعطيه حقًا أبديًا في السيادة على غيره" (1).
ربما كان سبب تهاون المسلمين في العلوم المادية ذلك الضعف الذي نزل بهم، مما جعلهم يركزون على العلوم النظرية لسهولتها بخلاف العلوم المادية، فهي تحتاج إلى مال ومعامل ومعاهد ومصانع وأدوات واستقرار، وهو ما فقدته الأمة نتيجة أحداث داخلية وخارجية، ثم طال الأمد علينا إلى أن نسينا هذه العلوم، ونسينا أنها كانت معلومة ومألوفة في الحضارة الإِسلامية، حتى بدأت الأطماع الغربية تطوف بحمانا معتمدين على ثمرات العلوم بعد أن حولوها إلى منافع صناعية ومدنية دنيوية، وربما كان هذا أهم ما رصده الجبرتي ودوّنه في تاريخه ونبّه المسلمين إليه وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة، كما أن ما دونه في تاريخه يُعد النموذج الأول في اطِّلاع الجمهور على حال هذه العلوم بعد أن كانت معرفتها محصورة في دوائر عليا في السلطة العثمانية؛ لأن كتاب التاريخ يقرؤه طلاب العلم والعلماء ويتداولون حكاياته وأحداثه.
ب- حسن العطار:
الشخصية الأخرى التي نراها استفادت من الحملة الفرنسية بالمعنى الثاني للاستفادة -أي: أنه يعلم بأنهم أعداء يمتلكون قوّة يجب علينا تحصيلها لإعادة قوة أمتنا والوقوف أمام هذا العدو الغاشم- هو الشيخ "حسن العطار"(1180 - 1250 هـ/ 1766 - 1835 م) صاحب الجبرتي وشيخ الأزهر (1246 - 1250 هـ)، كان مهتمًا بالفلك والطب مع تحصيله للعلم الشرعي قبل مجيء الفرنسيين، ثم اتصل بهم "إبان الحملة ليعلم أحدهم اللغة العربية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم فيما يقول علي مبارك. ."(2)، وقد كان له "ولع بقراءة الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، خاصة في علمي التاريخ والجغرافيا حتى اشتهر عنه ذلك"، وفيها يقول: "وقع في زمننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج،
(1) بونابرت في مصر ص 184 - 185.
(2)
أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور ص 28، وانظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، فهمي جدعان ص 116.
وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة أطَّلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل. ." (1)، وبعدها تحول من المُحصّل إلى المعلم، فاهتم بالتعليم وحث الأزهريين على إدراك حقيقة واقعهم الثقافي والعلمي، ورأى "ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية"، ونبههم إلى ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، وقام بنفسه بتدريس الجغرافيا والتاريخ، وكتب في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، مع إعلانه إعجابه بتحويل الفرنسيين علومهم إلى عمل (2)، وهو الذي كان فيما بعد صاحب فكرة إرسال تلميذه المشهور رفاعة الطهطاوي في البعثة العلمية إلى فرنسا.
يمثل "العطار" أول نموذج واضح لرجل من علماء الأزهر والعارف بعلوم الشريعة وأحد أساتذتها، وفي الوقت نفسه على معرفة ببعض العلوم الأخرى كالفلك والطب كما هي في تراثنا ليضيف إلى ذلك اطلاعه على ما حدث لتلك العلوم في أوروبا ويدعو إلى تحصيلها والانتفاع بها، والأمر في الجملة لا غبار عليه بل هو الأفضل لمن قدر على ذلك، فإن تاريخ المسلمين ما فتئ يحفظ لنا من علماء الشريعة من كان عنده إلمام واطلاع وثقافة بالعلوم الأخرى كالفلك والطب والحساب وما في بابها، فهذا "الرازي" أحد علماء الأشاعرة المشهورين الذي جمع إلى معرفته بالتفسير وأبواب شرعية أخرى؛ اطلاعه على ما عُرف في زمانه من علوم، وهذا "ابن تيمية" و"ابن القيم"، أبرز أعلام أهل السنة في القرون الأخيرة، مع كونهما من أهل الاجتهاد والإمامة في الدين؛ فلديهما أيضًا اطلاع واسع على كثير من علوم عصرهم، ويكفي النظر لفهرس فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية لنعرف مدى معرفته بمناهج تلك العلوم وأهلها وكتبهم وتقديمه بعض مسائلهم، وكذا بالنظر في جزء من كتاب زاد المعاد لابن القيم المتعلق بالطب لنرى كيف جمع مع الطب النبوي ما هو معروف في زمانه من المسائل الطبية من "جالينوس" إلى طبيب العرب "ابن كلدة"، إلى طبيب فلاسفة المسلمين "ابن سينا"،
(1) المرجع السابق ص 30 - 32.
(2)
انظر: المرجع السابق المعطيات نفسها.
مما هو ممكن حدًّا أدنى لعالم في الشريعة مثله، فلم تمنعه إمامته في علوم الشرع من اطلاعه على كتب الطب وتصنيفه في ذلك الباب وترتيبه لمسائل طبية مع بيان ما دل عليه الشرع في كل باب وما قاله الأطباء فيها.
فدعوة الشيخ "العطار" إلى الاهتمام بمثل هذه العلوم وممارسته لذلك بنفسه دعوة صحيحة وإن كان فيها ما ينقصها، وربما يشفع له البدايات في الأمر، فإن أهم ما ينقصها هو عدم وضع تصور إسلامي حول هذه العلوم بعد أن تغير حالها عما كانت عند المسلمين، فإن أوروبا بعد أن نقلتها عن المسلمين قد أحدثت فيها أمورًا خطيرة، زاد خطرها بعد ظاهرة العلمانية والمادية في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر وما بعده، كما أنه كان ينقصها التفكير في الأولويات، ماذا نقدم وماذا نؤخر، فإن العناية بعلومهم في التاريخ ليس في أهمية العناية بالطب مثلًا أو العلوم ذات النفع الصناعي والرقي المادي، وقس على هذا غيره.
لم تظهر مشكلة في زمن العطار بين الدين والعلوم التي تعرّفَ عليها في الكتب المترجمة، وبقي السائد إلى زمنه أن السابق إلى تحصيل هذه العلوم العصرية هو أحد المتخصصين في علوم الشريعة، فما علم عن غيرهم ذاك الاهتمام، فجمع بين علم الشريعة وبين علوم العصر دون أن تظهر مشكلة في ذلك. وربما لو بقي التطور ذاتيًا وعلى هذه الوتيرة نفسها، وبهذا النموذج نفسه الذي مثله العطار؛ لما وقعت كثير من مشاكل مزعومة بين الدين والعلوم العصرية، ولكن التطور بعد ذلك قد تدخلت فيه أطراف أخرى أعاقت هذا النمو الطبيعي، أخطرها جهود الغربيين في فتح مدارس لهم بعيدًا عن علماء الشريعة يُدرّس فيها تلك العلوم بما اختلط بها من فلسفات ومذاهب وأيديولوجيات، ويأتي بعدها ما حدث للمبتعثين الأوائل من صدمة، وربما أخطر من ذلك تمكن بعض التيارات العلمانية الناشطة في أوروبا من التغلغل داخل المجتمع الإِسلامي، وأشهرها في تلك المرحلة -وقت الحملة وبعدها لما يقرب من قرن- "الجمعيات الماسونية" التي ما زالت تشعر بنشوة انتصارها في أوروبا، فتسرب بعض أعضائها عبر الحملة، ثم انتشرت وبقيت إلى سقوط الدولة العثمانية. وأقل منها شهرة "مجموعة السان السيميون" أتباع "سان سيمون" المفكر الفرنسي الاشتراكي، وهو شخص عاش أزمة المجتمع الفرنسي بعد أن ضُربت الكنيسة، والأزمة العنيفة التي عصفت بكل من كان يدين بدينها، فدعا إلى وضع العلم