الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة
الاتجاه السلفي هو اتجاه تبنى مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والعمل والمنهج والقيم والسلوك، ويمكن القول بأنه أول اتجاه شعر بأزمة الأمة، ثم نادى فيها النجاة النجاة. وفي العصر الحديث كان أبرز صوت نذير ذاك الذي ظهر في القرن الثاني عشر للإمام "محمَّد بن عبد الوهاب" رحمه الله، فبدأ بتصحيح العقائد وتجديد الدين وإزالة البدع والانحرافات وتأسيس حركة علمية شرعية تجديدية كان لها أثرها الكبير في التاريخ الحديث.
وقد عرف القرن الثالث عشر وما بعده ظهور طائفة مميزة من العلماء السلفيين أو المتأثرين بمنهج السلف في الجملة قاموا بجهدٍ كبير في التجديد والإصلاح، بالدعوة إلى التوحيد وإقامة الدين ونبذ الشرك والبدع، مع جهدهم المميز في نشر العلم الشرعي والاهتمام بعلوم الإِسلام من تفسير وحديث وعقيدة وفقه وغيرها، كما أنهم قاموا بجمع مخطوطات العلماء وتحقيقها وطباعتها فضلًا عن قيامهم بالتصنيف والتأليف في فنون العلم، فأحيوا العلوم الإِسلامية ونبذوا عنها الجمود والتعصب وركزوا على العلم والفهم.
وعندما بدأت الأفكار الحديثة ومذاهبها -ولاسيما الخبيث منها- تغزو
بلاد المسلمين تصدى لها أعلام الاتجاه السلفي مع غيرهم، إلا أنهم تميّزوا عن غيرهم بسلامة اتجاههم من البدع والانحرافات التي كانت تعيق الغير. وكان من أعلام هذا الاتجاه على سبيل المثال: الشيخ "الألوسي" من العراق، و"القاسمي" من الشام، و"محمد رشيد رضا" ومن حوله في مصر ولاسيما طلابه من "أنصار السنة المحمدية" كالشيخ "محمَّد الفقي" والشيخ "أحمد شاكر" فضلًا عن علماء في الجزيرة العربية وفي بلاد المغرب والهند وغيرها.
ويمكن رؤية أربع مراحل لمسيرة هذا الاتجاه في العصر الحديث، كل مرحلة تستصحب مع جديدها ما سبق، ففي المرحلة الأولى جاءت الدعوة للتوحيد ونبذ الشرك لتأخذ بالجهد الأكبر حتى اتسعت حال الصفاء في التوحيد بين الناس. ثم جاءت الثانية لتركز على العلم ونشره مع استصحاب ما سبق ولاسيما في المدن والحواضر. وفي الثالثة جاء دور التركيز على الموقف من الأفكار الجديدة التي ظهرت مؤخرًا، وبيان الحق فيها من الباطل والنافع فيها من الضار. وأخيرًا نحن نعيش في مرحلة الجهد الحضاري الذي يستصحب الثلاث السابقة ويضيف الجهد الحضاري في تقديم رؤية جديدة تنبثق من الإِسلام لتكون البديل عن الحضارات القائمة حولنا والمهددة لوجودنا وحضارتنا، فلم يقفوا موقف المتفرج من التطورات العالمية أو ينهزموا أمامها، فلا الموقف السلبي المنغلق ولا الموقف الاستسلامي المرحب، وإنما رفعوا الدعوة للتأصيل الإِسلامي لكل مفيد وأهم ذلك العلوم الحديثة ومدنيتها النافعة، فمنهجية التأصيل لا ترفض النافع من جهة ولا تؤول النص لموافقة العصر بعلّاته من جهة أخرى، وإنما هو عملية إسلامية حضارية كبرى يعاد بواسطتها تشكيل المنتجات الأخرى النافعة بما يجعلها تنطوي تحت مظلة الإِسلام وتتفق مع رسالته.
ولا شك أن هذا الموقف بتصوره ومنهجه يختلف عما يثيره خصوم الاتجاه السلفي، فهؤلاء الخصوم يسعون إلى ربط الاتجاه السلفي -وربما الديني بعامة- بالجمود والخمول واللاعقلانية وغيرها من الأوصاف التي تظهر في ظروف الصراع ثم تتكرس مع الأيام فيظنّها البعض حقًا، ولكن عندما ننظر إلى أعلام السلفيين في القرن الرابع عشر الهجري، عصر احتكاكهم بالوافد الغربي من علوم وحضارة ومدنية وفكر، نجدهم خلاف ما يزعم خصومهم "كالقاسمي، الألوسي، الشنقيطي، السعدي،. . . . " فضلًا عن المعاصرين منهم.
في مرحلة "الدور الحضاري" يبقى أساس التأصيل مرتبطًا بعلماء الشرع وأئمة الدين، وفي الوقت نفسه يتحرك في داخله طائفة كبيرة من المتخصصين وغيرهم، فضلًا عن رموز إسلامية قد تختلف مع الاتجاه السلفي في أبواب، فنقبل حسناتهم ونتلافى أخطاءهم، وهم طائفة مهمة تأثرت من جهة بالاتجاه السلفي مع وقوعهم من جهة أخرى تحت تأثير رموز فكرية معاصرة تزعمها الشيخان:"الأفغاني - عبده" ونشرها "محمد رشيد رضا"، ثم في فترة متأخرة اجتهد في تعديلها.
وكلما كانت الطائفة أقرب للسنة كانت أولى بهذا الدور الحضاري، وأهمها في هذا الإطار الجهد الكبير الذي قامت به الجماعات الإِسلامية التي نشأت محاولة لإعادة الناس إلى الدين ومواجهة تيارات الاستعمار والتغريب، وقد بدأت فكرتها مع الشيخ "محمَّد عبده" و"محمَّد رشيد رضا" ثم انتشرت في القرن الرابع عشر الهجري. ومع استحضار هذا الجهد المهم لكل تلك الأطراف، فإن أي باحث منصف لا يغيب عن باله مشكلة البيئة التي عاشوها وتحركوا فيها، مما جعل بدايات مشروعاتهم مصحوبة بضعف أو بأخطاء، نلتمس لهم العذر فيها ولا نتبعهم ونستفيد من جهدهم.
في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري بدأت معالم التميز تظهر في هذا الاتجاه والأخطاء التي وقع فيها الآخرون تُتَدارك وتتلافى في المشروع الحضاري الإِسلامي، وقلب هذا المشروع يتمثل في "العلم الشرعي" عقيدةً وشريعةً ومنهجًا وقيمًا، وهو المظلة التي تظل ما ينبت في أرضنا الفكرية الجديدة، بدأت مع علماء كبار ثم تحولت إلى مشروعات لبعض الجامعات الإِسلامية وما زالت قائمة، وهي مهمة صعبة وكبيرة وربما تحتاج إلى عشرات السنين، ومع أن مجموعة من كليات تلك الجامعات قامت أساسًا لتغريب المجتمع، إلا أنه بظهور الصحوة الإِسلامية وبجهود العلماء السابقين، جاء التحول المميز فيها نحو المشاركة الحضارية السليمة بدل التوقف أو الاستسلام.
وها هي اليوم مشروعات التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة والمدنية النافعة تنتشر في العالم الإِسلامي بعد أن كانت مشروعات التغريب هي السائدة، قد تختلف في عملها وتتفاضل -بالطبع- مواقفها، إلا أن "الظاهرة" في حد ذاتها ذات دلالات مهمة، أبرزها: أن الأمة الإِسلامية قد تجاوزت مرحلة الانبهار
والتغريب، ومرحلة الهزيمة النفسية، ومرحلة الضعف. وهي الآن تريد المشاركة الحضارية، بل تريد فتح مشروع حضاري جديد بعد أن شاهدت أزمات العالم من حولهم، ويعود ذلك بفضل الله لجهد الفكر الإِسلامي.
وبما أن هذا الاتجاه قد تم تجاهله كثيرًا في الدراسات الفكرية، واتُهم باتهامات لا تصح؛ فسأقف مع نماذج مختلفة تُبرز ما أخفي من مواقف جليلة، وترفع ما قيل من اتهامات مزورة، كما أن هذه المواقف لهذا الاتجاه يستعان بها في مناقشة الاتجاه التغريبي ونقده. وسأقف بإذن الله مع مجموعة من أعلام الاتجاه السلفي مستخلصًا شيئًا من منهجهم من خلال موقفهم من العلوم العصرية أو بعض مشكلاتها، وهم:"محمود الألوسي، عبد الرحمن السعدي، محمَّد الشنقيطي، عبد العزيز ابن باز" رحمهم الله جميعًا: