الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواب أتباعه بأن العلم عاجز عن إعطائنا القيم العليا والمثل والأهداف، رغم محاولاتهم جعل العلم والوضعية دينًا يحقق مثل هذه الأمور.
ورغم أن المذهب الوضعي كان "الموضة" الفرنسية إلى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، إلا أنه قد ظهرت موجة من تيارات الفكر ضد الوضعية اكتسبت شعبية كبيرة، مالت بالحركة الفكرية نحو التصوف والحدس وإشباع جوانب أغفلتها الوضعية، لاسيّما مع الفيلسوف الفرنسي المشهور برجسون (1). وهكذا نجد الوضع الفكري والروحي في الغرب عادة ما يتذبذب بين النقيضين كعادته وعادة كل فكر منحرف، فما أن يغرق في المادية أو الوضعية ويهلك في صحرائها عطشًا حتى يجد من يسحبه إلى فلسفات مثالية أو صوفية أو دينية لتخفيف ذلك الألم، ثم يعودون لما كانوا عليه، وهكذا في دوامة مستمرة.
وخلاصة ما سبق أننا نجد ثلاثة تيارات عرفها القرن الثالث عشر/ التاسع عشر: اليسار الهيجلي، وأصحاب الدراسات الجديدة حول الدين، والفلسفة الوضعية، كان لها شهرتها وأثرها، وأصحابها وإن لم يكونوا جميعًا من دائرة العلم فإنهم يريدون بنشاطهم الدعوة لعصر علمي وضعي مادي دون دين.
[2] النشاط العلمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر:
جاء الآن دور النظر في المجال العلمي والوقوف مع أشهر نظرية ظهرت في هذا القرن، وما أثارته من ضجة ونزاع وكيف كانت علاقتها بالدين والفكر والمجتمع.
مسكين هو العلم الذي يولد في قرن كهذا القرن أو يتطور فيه، فالدولة التي ترعاه دولة علمانية ذات توجه وضعي، والقيادات الفكرية تميل إلى المادية أو الإلحاد أو الوضعية، وتدعي أنها مذاهب علمية، وتمطر المجتمع بشبهات وأهواء لا مثيل لها، فكيف سيكون حال العلم في مثل هذه الأجواء المظلمة؟!
فلنلقِ نظرة سريعة عن أهم معالم التطور العلمي في هذا القرن قبل الوقوف مع أشهر نظرية ظهرت فيه، وبالرجوع لأشهر الموسوعات العربية وأحدثها نجد ما يأتي:
(1) انظر: قصة الفلسفة ص 570.
غطّت البعثات العلمية كل أنحاء العالم لتوسيع المعرفة الجغرافية ودراسة الحيوانات والنباتات التي يتم العثور عليها، ولا يخفى أنها صاحبت المدّ الاستعماري الحديث، وقد كانت إحدى البعثات على ظهر السفينة "بيجل" وفيها "تشارلز داروين"، وقرأ في أثناء هذه الرحلة أعمال الجيولوجي "تشارلز لايل"؛ وكانت نظريته أن الأرض تغيرّت ببطء وعلى نحو تدريجي وعبر سنين طويلة، وكان تغيّرها بعمليات طبيعية، فتأثر بها "داروين". وبعد أكثر من عشرين سنة من رحلته نشر داروين كتابه:"أصل الأنواع" عام 1859 م وفيها الحديث عن نظريته في التطور والنشوء والارتقاء، وعادة ما يجعلها المؤرخون للفكر والعلم أهم نظرية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأكثرها أثرًا (1).
وهذا يقودنا إلى الحديث عن علم الأرض -الجيولوجيا ونظرياته البارزة في هذا القرن، فكان أهم ما نشأ من صراع بسبب هذا العلم الجديد الصراع بين نظريتين من نظرياته: الأولى تقول بأن الأرض كانت مغمورة بالمياه ثم انحسرت المياه عن اليابسة، وهذا يفسر وجود حفريات بحرية على اليابسة، وهي متأثرة بالنسق النيوتني السابق في القرن (12 هـ- 18 م). وأما الثانية الجديدة فترى بتطور طبيعي بطيء للأرض:"حيث علل الظاهرات بعملية مطردة تقوم بها القوى الطبيعية ذاتها خلال فترات زمنية هائلة".
ورغم كون النظريتين من الكلام المجمل كغالب النظريات العلمية، إلا أنهما -لاسيّما الثانية- قد أثارت مشاكل حول إثبات الطوفان مع نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام أو إنكاره، أيضًا أثارت مشاكل تاريخية، إذ في كتابهم المقدس بعض التواريخ المحددة عن أحداث كونية لا تتوافق مع هذه المدد الزمنية الطويلة.
فجاء "تشارلز لايل" على ضوء ما سبق وأسس علم الجيولوجيا، وأخذ بالنظرية الثانية، ورفض الاعتراضات الدينية، ثم جاء "داروين" فاعتمد عليه في بناء نظريته التطورية (2).
وتذكر "الموسوعة" أيضًا من نظريات علوم الأحياء: "النظرية التي مفادها
(1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 367.
(2)
انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 408 - 410.
أن كل الأشياء الحية مكونة من الخلايا"، وقد ساعد الكيميائي الروسي "متري مندليف" في تنظيم دراسة الكيمياء عندما نشر الجدول الدوري. وفي الفيزياء برزت معارف جديدة حول الحرارة والطاقة والمغناطيس والكهرباء، وكان أشهرها قانون حفظ الطاقة ونظرية "ماكسويل" حول الضوء. فالضوء المرئي يتكون من موجات قوى كهربائية ومغناطيسية، وقد كان لهذه النظرية أثرها الفكري والعلمي، وسنؤجل أثرها الفكري ونتحدث عن أثرها العلمي؛ فقد أنتج الفيزيائي الألماني "هرتز" موجات مغناطيسية تتوافق مع نظرية ماكسويل، وقاد عمله هذا إلى اختراع المذياع والرادار والتلفاز (1).
وصعدت أيضًا في هذا القرن نظرية على حساب أخرى حول مادة الكون المادي وصورته، حيث كانت النظرية البارزة في القرن السابق -الثاني عشر/ الثامن عشر- أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة لا يمكن قسمتها، وأنه من خلال ترابطها تتكون المركبات، وهي قريبة من نظرية الجوهر الفرد والجزء الذي لا ينقسم في الفلسفة الذرية القديمة وفي علم الكلام الذي ظهر في العالم الإِسلامي، ولكن مع نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بدأت النظرية السابقة تضمحل، وبيّنت الكشوف العلمية بأن عالمًا جديدًا داخل الذرة بدأ يُعرف (2)، وهذا العالم سيكون مدار علم جديد سيولد في نهايات القرن ويسيطر على القرن الرابع عشر/ العشرين وهو: علم الكوانتم أو الكم. ومعلوم أن النظرية الأولى كانت عمدة دليل حدوث الأجسام في علم الكلام، حيث تبدأ أغلب كتب المتكلمين من إثبات حدوث الأجسام المعتمدة على الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد.
أيضًا من أحداث هذا القرن العلمية اكتشاف الراهب النمساوي "جريجور مندل" قوانين الوراثة الإحصائية الحيوية التي وضعت حجر الأساس لعلم الوراثة (3)، والملاحظ أن العالِم هنا من المحسوبين على الدين وهذا يوضح أن العلاقة بين الدين والعلم لم تكن دائمًا علاقة انفصال.
(1) انظر: الموسوعة العربية العالمية -بتصرف- 16/ 367 - 368، 17/ 659.
(2)
انظر: المرجع السابق 16/ 368، 17/ 659 وما بعدها.
(3)
انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 368.
وإذا كان علماء الفيزياء قد اكتشفوا عالم المادة الصغير، فإن علماء الكيمياء والأحياء قد اكتشفوا عالم الأحياء الصغيرة، بدأت مع الكيميائي الفرنسي "لويس باستير" الذي اكتشف بأن كائنات مجهرية معينة يمكن أن تسبب المرض للبشر والحيوانات الأخرى (1)، وقد فتح ذلك الباب واسعًا لاكتشاف مخلوقات جديدة لم يكن البشر على معرفة بها مئات السنين، فمَنْ كان يتوقع مثلًا بأن كأسًا من الماء يسبح فيه عالم من المخلوقات؟ ومن كان يتوقع مثلًا بأن في النطفة المنوية آلاف الحيوانات لها حياتها العجيبة؟ ومثله الكائنات البكتيرية والمجهرية التي أصبحت ميدان بحوث واسعة في القرن الرابع عشر/ العشرين.
وقد واصل أيضًا في أول هذا القرن مجموعةٌ من الناس استثمار نظريات نيوتن، وأبرزها ما قام به "لابلاس" من وضعه لنظامه الشهير "نظام الكون" حيث شرح فيه عمليات تطوّر الكون ونشأته من دوامة غازية سماها سديما، وإذا كان نظام نيوتن الكوني قد بناه على الإقرار بحفظ الله له؛ فإن "لابلاس" ألغى هذا، وحين سأله "نابليون" عن مكان الله سبحانه وتعالى في نظامه أجاب:"مولاي ليست بي حاجة إلى تلك الفرضية"(2)، ونابليون هذا هو صاحب أول حملة استعمارية صليبية حديثة على العالم الإِسلامي، وقد أحضر معه مئتي عالم في أثناء احتلاله لبلاد مصر سنة (1798 م)، وخرج من مصر مطلع القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بعد أربع سنوات، وعادة ما يُقال في كتابات كثيرة بأن هذه أول مرّة يطّلع فيها المسلمون على العلوم الحديثة بعد التطور الكبير الذي لحق بها، وسيتوجه المسلمون في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر إلى فرنسا لدراسة هذه العلوم زمن ولاية محمَّد علي باشا، وستكون هذه موضوع الفصل الثالث والرابع.
المهم هنا بأن الفيزياء والفلك بعد "لابلاس" فتحت أبوابًا جديدة تبحث فيها عن نشأة الكون وحالته الآن ومستقبله، وستكون نظريات كثيرة تتطاحن فيما بعد ولها أثرها في مسيرة الفكر والعلاقة بالدين، وقد كان الأمر كذلك في مجال الكيمياء حيث كان لاكتشافات "شيلي، وبريستلي، ولافوازييه" وغيرهم أثرها في الفلسفة وميادين الفكر الأخرى لا يقل عن تأثير مذهب نيوتن، وهذا "فريدريك
(1) انظر: المرجع السابق 16/ 368.
(2)
انظر: رونالد السابق ص 287، والموسوعة. . . . 17/ 483.